ما ان يصل سعر النفط الى 40 دولاراً للبرميل حتى تتصاعد معزوفة الشكاوى القديمة اياها: ارتفاع أسعار النفط يضرّ بالاقتصاد الدولي لأنه يهدد الانتعاش الهش الذي يشهده. وتترافق تلك الرسالة التحذيرية مع مطالبة"اوبك"برفع الانتاج لتوفير الامدادات للسوق المتعطش للنفط. ثم يأتي دور التعليقات المُشككة: لا تستطيع"اوبك"القيام بالمطلوب، اذ ليس لدى أطرافها، حتى السعودية، ما يكفي من القدرة على زيادة الانتاج. وحتى لو توفرت القدرة، ستكون"اوبك"تحركت بعد فوات الأوان. ولو زادت"اوبك"الانتاج قبل شهور لما وصلت الأسعار الى مستواها الحالي ...الخ. وكالمعتاد تأتي الشكاوى الأعلى صوتاً من الدول الأغنى في العالم، وانضم وزراء مجموعة السبعة الى تلك الجوقة قبل ايام. أما دول العالم الثالث الفقيرة المستوردة للنفط، بقدرتها الأقل على تحمّل عجز موازين مدفوعاتها نتيجة زيادة الأسعار، فلا نكاد نسمع شكواها. وتوفر الثروة والقوة للبعض صوتاً مسموعاً اكثر، فيما تخمد أصوات الأفقر والأضعف. من جهتي لا اعرف اذا كان سعر ال40 دولاراً للبرميل سيؤثر في الاقتصاد الدولي ام لا، وربما تراجعت وتيرة النمو. انها قضية مهمة لكنها ليست موضوع مقالي الذي يتعلق بقضية تحديد السعر وتحليل طبيعة العلاقة بين"اوبك"وسوق النفط. وقد يسمح لنا هذا بتقويم التوصيات المبسطة التي خرج بها وزراء مجموعة السبعة، بأن لا حل لقضية السعر الاّ بزيادة انتاج"اوبك"، وكشف خطأ كثير من المحللين الذين يركزون على"اوبك"، او السعودية حصراً، لتفسير حركة أسعار النفط الحالية. يعرف الكل بالطبع ان شركات النفط لم تعد الجهة التي تحدد سعره في السوق الدولية منذ 1974. بالمقابل يُفترض ان يعرف الجميع أيضاً ان"اوبك"لم تعد الجهة التي تحدد السعر منذ 1986. الا ان الهوس بالمنظمة وأخبارها يقود بعض المعلقين الى اغفال هذه الحقيقة أو تقديم تحليلات مناقضة لها. اما الجهة التي تحدد أسعار النفط في السوق الدولية فهي اسواق التعاقدات الآجلة في بورصتي نيويورك ولندن، وذلك لنفط"غرب تكساس"و"برنت"على التوالي. من هنا فإن نقطة الانطلاق لأي محاولة لفهم حركة أسعار النفط في هذا الاتجاه أو ذاك، أو سبب الارتفاع أو الانخفاض، هي تلك الأسواق المستقبلية. عوامل تحديد الاسعار ويتأثر التجار في اسواق التعاقدات الآجلة بعوامل عدة، من بينها التغيرات المتوقعة في العرض والطلب. ولبعض التجار أُفق زمني أبعد من غيرهم. ويعني هذا، على سبيل المثال، أن الذين يقومون مستقبل السوق لستة شهور أو أكثر، يضعون في الاعتبار عدداً من العوامل: - أولاً، وضع العراق. وهناك مخاوف من نجاح المتمردين في تدمير مرفق نفطي مهم يعرقل الصادرات بشكل خطير مدة من الزمن. - ثانياً، الاستقرار السياسي في السعودية. وتتميز تغطية اخبار الوضع في السعودية في وسائل الاعلام ومعاهد ومنتديات البحث في أميركا بالسلبية الشديدة منذ هجمات 11 ايلول سبتمبر 2001. ويؤدي السيل المتواصل من التأكيدات على الخطر المحدق باستقرار البلد الى اقلاق السوق، لأن زعزعة الاستقرار هناك تقود الى عرقلة التصدير. ومن الطبيعي ان تقلق السوق على سلامة الامدادات طالما يركز التجار على ما يتم اقناعهم بأنه تطور مستقبلي محتوم للاحداث. ولا ينفع هنا التأكيد على أنه ليس هناك ما يبرر هذه المخاوف، وانها مرفوضة من قبل الذين يعرفون شؤون الشرق الأوسط أفضل من المنذرين دوماً بالويل والثبور. فالقضية هي مدى انتشار رأي ما وليس صحته. - ثالثاً، الصين. يتسارع نمو طلب الصين على النفط في الآونة الأخيرة. ويقول احدث تقرير لوكالة الطاقة الدولية عن سوق النفط ان الطلب الصيني زاد بنسبة مليون برميل يومياً في الربع الأول من السنة الجارية. ولا اعرف ان كان هذا صحيحاً ام انه ينطوي على مبالغة كبيرة. لكن النقطة الأهم هنا أيضاً هي الأرقام كما تنشرها الوكالة، وليس ما اذا كانت تعكس حقيقة تزايد طلب الصين النفطي ام لا. ومن الطبيعي ان يتساءل البعض في اسواق النفط اذا كان الانتاج الدولي قادراً على تلبية طلب ينم بهذا الشكل. - رابعاً، مشكلة البنزين في الولاياتالمتحدة. ومع انه لا يوجد مؤشر على نقص البنزين حالياً، هناك احتمال بروز مشكلة في فصل الصيف. فالمخزون التجاري من البنزين أقل مما كان عليه في الفترة نفسها العام الماضي، بينما هناك زيادة في الطلب. كما ان مرافق التكرير الأميركية تعمل بأقصى طاقتها يراوح تشغيل المرافق حالياً بين 95 في المئة و96 في المئة من طاقتها، ما لا يترك مجالاً لزيادة انتاجها. وأدى توقع السوق لبروز مشكلة في العرض الى ارتفاع سعر البنزين، وانعكس هذا بدوره على ارتفاع، ولو كان بنسبة أقل، في سعر النفط الخام. - خامساً، سوء فهم طبيعة ردود فعل"اوبك". كما ذكرنا، فالمنظمة لا تقرر الأسعار، لكنها في الوقت نفسه تبقى مهتمة بمستوياتها وتوجهاتها، وليس أمامها عند محاولة التأثير فيها سوى رسائل الى اسواق التعاقدات الآجلة التي تحدد الأسعار. وتتخذ الرسائل عادة شكل اعلان عن سياسة الانتاج. ويُعبر قرار خفض حصص الانتاج عن قلق"اوبك"من انكماش في السوق قد يؤدي في النهاية الى تراجع الأسعار. وعندما تتكلم المنظمة عن رفع الانتاج يعني ذلك أنها قلقة من ارتفاع الأسعار. أي ان لغة الانتاج تترجم الى لغة الأسعار. لكن الانتاج الفعلي، بعد اي قرار بشأن تحديد الحصص، يتماشى مع حجم الطلب أكثر منه مع حجم الانتاج المتفق عليه. ويمكن تفسير هذه الظاهرة بسهولة عندما نرى انه ليس من المصلحة انتاج كميات تزيد على الطلب، لأن ذلك إما يجبر المنتجين على التخزين المكلف للنفط أو يتطلب اغراء المشترين بخفض السعر بشدة. اما انتاج كميات تقل عن الطلب فيُعد اجراءاً قاسياً لا يمكن تبريره الا في حال انهيار الأسعار. وعندما لا تكون الأوضاع بهذه الحدة فليس من مصلحة المنتج، على الصعيد التجاري البحت، ازعاج المشتري برفض انتاج الكمية المطلوبة. والقيد الوحيد على الزيادة هو القدرة الاضافية على الانتاج. في أيلول سبتمبر 2003 ومطلع 2004، قررت"اوبك"خفض حصص الانتاج. وجاء القرار في سياق تشاؤم الأسواق حول السعر المستقبلي المتوقع. ففي ايلول شهدت اسواق التعاقدات الآجلة في"نايمكس"زيادة في عقود البيع مقابل عقود الشراء من جانب صناديق التحوط، ما يعني ان التجار راهنوا على انخفاض السعر مستقبلاً. وحاولت"اوبك"مواجهة ذلك باعلان خفض الانتاج. وفي 2004، توقع كبار المعلقين انخفاضاً حاداً في الطلب في الربيع. ومع احتفاظ صناديق التحوط بعقود آجلة كبيرة، كان الخطر انها ستعمد الى بيعها بكثافة ما يؤدي الى خفض كبير للأسعار. وطالما تم اقناعك بأن الطلب سينخفض بشدة، لاسباب موسمية او غيرها، فالخيار الوحيد امامك هو الاعلان عن خفض الانتاج. وكما يحدث عادة، فإن العالم الذي يعتمد على الاستقرار في الانتاج والاسعار، تخذله توقعات وتحليلات معلقين برهنت الأحداث مرة بعد اخرى على فشلهم. دور"اوبك" واذا اخذنا في الاعتبار تلك العوامل الخمسة وتأثيرها في المتعاملين في اسواق العقود الآجلة، فلا غرابة في ارتفاع أسعار النفط الى المستوى الحالي. بل المستغرب أن أولئك الذين يُفترض أنهم يعرفون أكثر من غيرهم، يبدو وكأنهم فوجئوا بالتطورات. وبالنسبة ل"اوبك"، فالقضية ليست زيادة الانتاج لمجرد الزيادة، بل هي قضية تلبية الطلب عندما يزيد. من هنا كان المفترض لتصريحات الوزير السعودي علي النعيمي، بأن بلاده مستعدة لزيادة الانتاج الى الحد الاقصى اذا تطلب الأمر، أن تطمئن الأسواق. وكانت لهذه التأكيدات مصداقيتها، اذ ان ذلك بالضبط ما قامت به السعودية بهدوء وفاعلية، في آذار مارس من العام الماضي. لا تعود مشكلة البنزين في الولاياتالمتحدة الى نقص النفط الخام، الثقيل منه أو الخفيف. فكيف يمكن ان نفسر عمل المصافي الأميركية بمستوى 95 الى 96 في المئة من طاقتها اذا كانت تواجه نقصاً في النفط الخام؟. واذا كانت الصناعة الأميركية بحاجة الى النفط الخام، كيف نفسر تفوق المخزون التجاري الحالي على ما كان عليه العام الماضي، وليس تراجعه اذا كان هناك نقص في العرض؟ تعود المشكلة في قسم منها الى الولاياتالمتحدة نفسها، ومن بين عناصرها عدم كفاية القدرة على التصفية، والتعدد والتباين في مواصفات البنزين، وسياسة واشنطن تجاه الشرق الأوسط التي تفاقم من اضطرابه، والخطاب الهستيري السائد عن السعودية. وليس هناك الكثير مما يمكن ل"اوبك"عمله تجاه أي من هذه الجبهات. لكن على"اوبك"ان تتذكر ان لا حول لها ولا قوة عندما يكون السوق في اقصى طاقته عرضاً وطلباً. ولا تبرز قوة المنظمة الا عندما يكون السوق في حالة من الارتخاء، أي عندما يعتقد الجميع ان"اوبك"ضعيفة! ومن هنا، اذا كانت"اوبك"ترى ان السوق سيبقى على توتره في الفترة المقبلة فعليها وقف الحديث عن حصص الانتاج، والتأكيد ببساطة على أنها ستلبي الطلب بأقصى ما تستطيع من الانتاج. وعند هذا الحد، تقع المسؤولية بالكامل على السوق. مدير معهد اكسفورد لدراسات الطاقة.