اكد بن برنانك، أحد الأعضاء السبعة في مجلس المحافظين لمجلس الاحتياط الفيديرالي المصرف المركزي الأميركي، أن أسعار النفط الخام، خصوصا الأسعار الاسمية للخام الأميركي الخفيف ويست تكساس الوسيط، تحوم حالياً حول مستويات قياسية ويمكن أن تحتفظ ولفترة طويلة بجزء كبير من الزيادات التي حققتها أخيراً، لكنه استبعد أن تؤدي الى تجميد عملية تشديد السياسة النقدية التي بدأها المجلس في حزيران يونيو الماضي ورفعت سعر الفائدة التأشيرية القصيرة الأجل الى 1.75 في المئة. واستعرض برنانك التطورات الحالية في أسواق النفط وأثرها في الاقتصاد الأميركي وقال، في كلمة ألقاها في جامعة دارتن في جورجيا ونشر مجلس الاحتياط أول من أمس نصها،"حام سعر الخام الخفيف حول مستوى 30 دولاراً للبرميل في النصف الثاني من العام الماضي لكنه بدأ بالارتفاع في نهاية العام ووصل الى 37 دولاراً للبرميل في آذار مارس الماضي وقريباً من 41 دولاراً في أيار مايو واستمر بعد ذلك بالازدياد بشيء من التقلب. وعلى رغم استقرار أسعار السلع الأخرى عموماً وعلى رغم بقاء نسبة التضخم منخفضة، ليصل في الاسبوع الماضي الى 55 دولاراً للبرميل"قبل أن يقفل على 50.93 دولار. "ولوضع الأمور في نصابها لا بد من الاشارة الى أن أسعار النفط هي الآن قياسية بمقياس الأسعار الاسمية لكنها تبقى، بمقياس التضخم، أقل بكثير من ذروتها التاريخية التي بلغتها عام 1981. وبمقياس الأسعار الجارية كان سعر الخام الخفيف عام 1981 قريباً من 80 دولاراً للبرميل وكان سعر البنزين نحو 3 دولارات للغالون. وعلاوة على ذلك كانت كلفة الطاقة حينذاك تساوي حصة أكبر في كل من موازنة المستهلك وكلفة انتاج السلع والخدمات مما هي عليه اليوم. ومن الواضح أن القفزات التي سجلتها أسعار النفط في السبعينات والثمانينات كانت لها آثار اقتصادية أكثر حدة من تلك التي نجمت، أو يمكن أن تنجم، عن الزيادات الجديدة، ما لم تسجل ارتفاعاً اضافياً كبيراً في الفترة المقبلة". "وعلى رغم ما سبق تبقى الأسعار الحالية للنفط الخام والمشتقات عالية جداً بالقياس الى تجربة الماضي القريب. وفي معظم سنوات التسعينات كانت أسعار النفط بحدود 20 دولاراً للبرميل، ولفترة قصيرة من عام 1998 وهي فترة لا يذكرها المنقبون عن النفط ولا المنتجون بكثير من الحنين انخفض سعر برميل النفط الى أعلى من 10 دولارات بقليل. وكما أسلفت كان سعر النفط قبل عام فقط 30 دولاراً للبرميل. وهكذا يتضح بأن ارتفاع أسعار النفط كان من الضخامة بحيث يشكل صدمة قوية للنظام الاقتصادي. "ويثير تصاعد أسعار النفط عدداً من الأسئلة المهمة للاقتصاديين وواضعي السياسة"، لماذا ارتفعت الأسعار الى هذا الحد ولماذا تستمر بالتقلب وبحدة؟ ماهي آفاق امدادات النفط والأسعار في الأجلين المتوسط والطويل؟ وما هي تبعات سلوك أسعار النفط على التمدد الاقتصادي الحالي؟ وكيف يتعين على السياسة النقدية فعله للتعامل مع هذه التطورات؟ لكن قبل الاجابة على هذه الأسئلة أود التأكيد على أن الآراء التي أعبر عنها هي آرائي الخاصة ولا يجب أن تنسب الى زملائي في مجلس الاحتياط". التطورات الأخيرة والمتوقعة في أسواق النفط و"لتقويم التطورات التي شهدتها أسواق النفط في الآونة الأخيرة سيكون من المفيد معرفة ما اذا كانت أسعار النفط العالية التي نراها اليوم هي ظاهرة موقتة أم أنها تشكل بداية لحقبة من الأسعار المرتفعة. وعلى رغم أن أحداً لا يمكنه الجزم باتجاهات أسعار النفط الا أن أسواق المال تُعتبر واحدة من الأماكن التي يمكن التعرف فيها على آراء مطلعة في هذا الشأن اذ أن عقود الصفقات الآجلة، تماما كما هو الحال بالنسبة لكثير من السلع الأخرى، يتم تداولها باستمرار في سوق نشطة وبواسطة اناس لديهم كل الحوافز التي تجعلهم يراقبون وضع الطاقة عن كثب. ويتم كذلك تبادل المشتقات المالية، مثل خيارات الشراء أو البيع الآجل، بنشاط. ويمكن استخدام الأسعار الملاحظة في هذه الأسواق للحصول على معلومات عن توقعات التجار في شأن اتجاه أسعار النفط ومدى عدم اليقين الذي يشعرون به في استشراف المستقبل". "وتتمثل احدى الاستدلالات التي يمكن استنباطها من التطورات الأخيرة في أسواق النفط، خصوصاً تسعير المشتقات المالية، في أن التجار يعانون من درجة غير معتادة من عدم اليقين في شأن اتجاه أسعار النفط في العام المقبل أو نحوه. وعلى سبيل المثال أعطى التجار في الاسبوع الماضي احتمالاً بنسبة 67 في المئة بأن أسعار النفط الخام ستكون اعتباراً من حزيران يونيو المقبل في نطاق يراوح بين 38 و60 دولاراً للبرميل. وما يعنيه ذلك هو أن التجار يرون بأن هناك احتمالاً بنسبة 33 في المئة بأن الأسعار يمكن أن تخرج عن هذا النطاق الواسع. ولا شك بأنه من المفاجئ حقا بأن تاجراً حسن الاطلاع يمكن أن يكون غير متأكد الى هذا الحد من اتجاه الأسعار في فترة لا تزيد على 8 شهور". و"يمكن لعدم اليقين أن يكون عاملاً سلبياً للاقتصاد. ولا أستبعد هنا احتمال أن يكون عدم التيقن من اتجاه أسعار الطاقة جعل الشركات أكثر حذراً ازاء توظيف استثمارات رأسمالية جديدة. لكن ما هو أكثر أهمية، اقتصادياً، من عدم اليقين هو حقيقة أن التجار يتوقعون، فيما يبدو، بأن تستمر الأوضاع الضيقة لأسواق النفط لعدد من السنين وبأن أقصى ما يمكن توقعه في شأن الأسعار هو حدوث تراجع محدود. ويمكن رؤية هذا الاعتقاد في أسعار الصفقات الآجلة، إذ في القسم الأعظم من التسعينات راوحت أسعار الصفقات التي تمتد مواعيد تسليمها الى 6 سنوات حول 20 دولاراً للبرميل، ما يشير الى أن التجار يتوقعون بقاء الأسعار عند هذا المستوى لفترة طويلة. وحالياً تحدد أسواق الصفقات الطويلة الأجل سعر برميل النفط بمستوى 39 دولاراً، ضعفا مستوى التسعينات. ويستفاد من ذلك أن التجار يتوقعون انخفاض أسعار النفط قليلاً، بالمقارنة مع مستوياتها الحالية، لكنهم يعتقدون بأن هذه الأسعار ستحتفظ ولفترة طويلة من الزمن بجزء كبيرة من الزيادات التي حققتها أخيراً". الببغاء! "ما هي الأسباب التي تقف خلف الاتجاه الحالي والمتوقع لأسعار النفط؟ قال برنارد شو ذات مرة: لكي تصنع اقتصادياً لا تحتاج الى أكثر من تعليم ببغاء ترديد العبارة بلا كلل: العرض والطلب. وكاقتصادي حري بي أن أوافق الببغاء في عبارته اذ ان اسعار النفط تعكس، في الغالب، طلبا مرتفعا ومتناميا على النفط وامدادات محدودة وغير مؤكدة. "وفيما يتعلق بالطلب دأبت الوكالة الدولية للطاقة، وهو المصدر الأكثر صدقية لاحصاءات انتاج النفط الدولي والاستهلاك، تعديل توقعاتها عن استخدام النفط صعوداً. وكمثال، تشير التقديرات الحالية الى أن حجم الاستهلاك العالمي من النفط في الفصل الثاني من السنة، كان أكبر بمقدار 3.7 مليون برميل من التوقعات التي نشرتها الوكالة في تموز يوليو من العام الماضي. وبلغ متوسط الاستهلاك العالمي هذه السنة نحو 81 مليون برميل يومياً وعكس قسماً كبيراً من هذه الزيادة غير المتوقعة، نحو 2.2 مليون برميل يومياً، النمو السريع في استهلاك بلدان منطقة شرق آسيا لاسيما الصين. لكن التمدد الاقتصادي المستمر في الدول الصناعية والاقتصادات الناشئة ساهم أيضا في انفتاح شهية العالم على النفط". "وفيما يخص العرض تأثر انتاج النفط بمحدودية الطاقات الانتاجية المتاحة والتطورات الجيوسياسية. وفي مناخ من الصعود النشط في الاستهلاك والأسعار وعدت السعودية والأعضاء الآخرين في منظمة الدول المصدرة للنفط أوبك بزيادة الانتاج. الا أن المحدودية النسبية للزيادات التي وفرتها أوبك حتى الآن، وكذلك انتاج الدول غير الأعضاء في أوبك الذي جاء أقل المتوقعات بقليل، آثارا مخاوف من أن طاقات الانتاج الاحتياط المتاحة ربما كانت محدودة بدرجة عالية، وربما أقل من مليون برميل يومياً". "والى جانب عامل محدودية الانتاج الاحتياط ساهمت المخاوف من المجاهيل المرتبطة بضمان تدفق امدادات النفط وأمنها في التقلب غير الطبيعي الذي شهدته أسعار النفط في الشهور الأخيرة. وبالطبع يبقى الوضع في الشرق الأوسط الغني بالنفط الأكثر هشاشة الا أن مخاطر جيوسياسية على امدادات النفط برزت أيضا في دول تقع خارج الشرق الأوسط بما فيها روسيا وفنزويلا ونيجيريا. كما كان للطقس أيضا آثاره السلبية حيث ألحقت الأعاصير أخيرا أضرارا بمنشآت انتاج النفط والتوزيع في منطقة خليج المكسيك". "وبما أن العرض والطلب لا يتأثران كثيراً بالتغيرات التي تحدث في الأسعار في المدى القصير يمكن تقبل فكرة أن الزيادة المحققة في استهلاك النفط على غير توقع علاوة على تعطل الامدادات ساهما بقدر كبير من الارتفاع الذي سجلته أسعار النفط أخيراً. الا أن حدة الزيادات والتقلبات دفعت بمراقبين الى الاعتقاد بأن جزءاً من هذه الزيادات يعكس عنصر مضاربات نجم عن نشاط التجار في أسواق النفط". "كيف يمكن للمضاربات أن تزيد أسعار النفط؟ بكثير من التبسيط، ان المتعاملين في أسواق السلع يراهنون على حدوث نقص في الامدادات المعروضة وارتفاع الأسعار في المستقبل. وبقدر ما يكون عدد المضاربين كبيراً بقدر ما ترتفع أسعار العقود الآجلة. لكن ارتفاع أسعار النفط المتفق على تسليمه في المستقبل يؤثر في حوافز السوق اذ أن المنتجين يلجأون الى حجب كميات من النفط عن الأسواق والاحتفاظ بها في مخزون يُخصص للمبيعات المستقبلية المتوقعة. وما يحدث عندئذ أن انخفاض كميات النفط المتاحة للاستخدام الحالي يساهم بدوره في ارتفاع الأسعار الحالية، وهي زيادة سعرية يمكن تفسيرها على أنها علاوة مضاربة بأسعار النفط.