إذا حملت قرارات القمم العربية أو مشاريع الجامعة العربية طموحاً أو بعض الطموح، قالوا إنها غير واقعية، ولا تراعي الممكن. وضُربت التدرجية في الوحدة الأوروبية مثالاً على التقدم خطوة متواضعة اثر اخرى. وعندما استعدت قمة تونس للهبوط إلى أدنى مما يحتمله الواقع، وذهبت بمراعاة الممكن إلى حد يتدنى عن التدرجية الأوروبية، قالوا أنفسهم انها دون السقف المطلوب، ودعيت إلى الارتقاء بالعمل العربي المشترك"إلى أفضل المراتب"كلمة الرئيس التونسي في المؤتمر أو"الارتقاء إلى مستوى العصر"كلمة رئيس وزراء البحرين، وتلك كانت حجة الذين تحفظوا عن"وثيقة العهد"قطر وعُمان. والأطرف أن الحجة التي ذكرت لتوقيع"وثيقة العهد"بالأحرف الأولى من خلال وزراء الخارجية، لا الرؤساء والملوك، هي ضرورة الرجوع إلى البرلمانات والمؤسسات الدستورية. وإذا كان الأمر كذلك فهذا يعني أن قمة تونس تجاوزت، بقفزة واحدة، كل ما يطمح إليه الإصلاح: التقيد بالدستور والمؤسسات الدستورية. على أي حال، كل ما تقدم مجرد دوران حول جوهر المشكل الذي واجهته القمة حين أُجلت، وواجهه الإعداد للقمة الحالية ثم اجتماعاتها. فجوهر القضية يكمن في تخطي بعض الدول العربية التقاليد التي درجت عليها القمم العربية أربع قمم خلال العشر سنوات الماضية. وهو الحرص على عدم الخروج على الاجماع العربي، ولو بالموافقة على عقد القمة وقراراتها فقط من دون التزام عملي. أي الحفاظ على مستوى من العلاقة بين الاشقاء لا يصل إلى حد إدارة الظهر تماماً، والاستقواء بأميركا التي كشّرت عن أنيابها. ولم تعد تقبل من أصدقائها، أو حلفائها، التحرك ضمن هامش مستقل كما كانت الحال سابقاً. وهذا هو الذي يُفسر التجرؤ الخارج على اصول تاريخية في العلاقات العربية - العربية، والذي كشف عنه بشكل صارخ تأجيل القمة، وقبل النقاشات التي دارت بين وزراء الخارجية في أثناء التحضير للقمة وخلالها عنوانها الكاريكاتيري سيجارة العقيد القذافي وطريقة حضوره وانسحابه. أما اللافت أكثر من غيره فدخول الجزائر في هذا التوجه، كما عبر عن ذلك الاقتراح الاشكالي بأن تصبح الأمانة العامة دورية استناداً إلى"نجاح"دورية الرئاسة! ولا شك في أن هنالك الكثير من المضحكات"المفجرات"لم تصل إلى الصحافة. مما يؤكد بأن الوضع العربي في صدد تكوّن اتجاه جديد. وإذا كتب له الخلاص من تردده، وحسم أمره، فستنتهي دورية القمم العربية. إلى الآن، ما فتئ هذا الاتجاه يتحسس طريقه. ولم يكشف كل أوراقه بعد. فما زال يختبئ وراء حجج وادعاءات لا تعبر عن المقصود مثل إثارة عجز الجامعة، لا بقصد تلافيه وإنما دفنها، أو مثل رفع شعار اما الاتفاق العربي الحقيقي، واما فلا حاجة إلى اتفاق، فيما المقصود عدم تحديد موقف عربي موحد حتى حين يبلغ السيل الزُبى، إذ تتماهى الإدارة الأميركية مع السياسات الإسرائيلية، أو تتمادى في ارتكاب العدوان، أو ضرب الحصار وانزال العقوبات بحق هذا البلد العربي أو ذاك، أو حين يدخل البطش الإسرائيلي إلى حدود لا يحتملها حتى الموقف الأوروبي أو الروسي أو بعض الأميركي، أو الاضطرار إلى إعلان دعم الشعب الفلسطيني وانتفاضته. وباختصار، ما دام ثمة مشروع لإقامة شرق أوسط كبير أو صغير، وتمارس كل ألوان الضغوط عدوان، حصار، ابتزاز لتحقيق ذلك، وما دام المطلوب تلبية كل قائمة الطلبات الأميركية - الإسرائيلية، فما الحاجة إلى الجامعة العربية والقمم العربية لئلا تفرض الموافقة على قرارات معاكسة لذاك المطلوب، ولو بالكلام من دون التزام، أو خطوات عملية، أي أصبح حتى الكلام الشجب والاستنكار ثقيلاً. صحيح ان الوضع العربي عج دائماً بالصراعات والتناقضات العربية - العربية. وهذا نابع من طبيعة التجزئة ودولتها القطرية الحديثة، ومن شدة تأثير التدخلات الخارجية فيها لاحظ كيف اهتزت، خلال السنتين الماضيتين الوحدة الأوروبية مع تعاظم الهيمنة الاميركية على بعض حكوماتها. لكن، مع ذلك الوضع العربي، لم يكن من الممكن ان تصل الأمور الى الهجوم على الجامعة العربية من حيث الوجود والرمزية وان حدث تعطيل الاجماع، أو حتى الاجتماع، في مناسبات عدة خلال الخمسين سنة الفائقة. المشكلة لم تكن يوماً بسبب وجود الجامعة العربية أو ميثاقها أو مؤسساتها وانما في سياسات الدولة القطرية النازعة الى الابتعاد عن التعاون العربي المشترك، ثم في اشكالية مدى تحرر الإرادة من الهيمنة الخارجية، أو مدى تحصين الذات في وجه الضغوط الخارجية. فها هنا تكمن أزمة الجامعة العربية وأمينها العام عمرو موسى كما حال سابقيه وربما كان الأفضل بينهم. ومن ثم ما معنى الهجوم على الجامعة العربية والسعي لتدميرها بدلاً من مواجهة الذات العربية الدولة القطرية وسياساتها وخضوعها لضغوط اميركا، بشكل أو بآخر، الى حد الاستقواء من قبل البعض، أو تجنب اغضابها، أو عدم ذكر اسمها عندما يمسها الشجب من دون أي خطوة عملية من قبل الآخرين مع استثناءات. أثبتت أزمة الشهرين الماضيين ان الجامعة العربية وقممها ما زالت قادرة على البقاء، وان القوى التي تريد هدمها ما زالت الأضعف، لكن أجرأ على التحدي من ذي قبل. وهنالك رأي، قد يكون صائباً، يقول لولا جرائم الاحتلال الاميركي في الفلوجة والنجف وكربلاء وفضيحة الصور المهينة للعرب، ولولا جرائم شارون، لا سيما اغتيال القائدين الشهيدين أحمد ياسين وعبدالعزيز الرنتيسي ومجازر رفح لكشفت تلك القوى شبه المحور عن أوراقها اكثر، ولما عقدت القمة في تونس، ولهذا لا بد من تقديم تحليل صحيح لحقيقة الخلافات والمواقف وعدم تعويمها من خلال الحديث عن الجامعة العربية وعجزها. ومن ثم، لا بد من ان تقرأ المشكلة في الاستجابة الكاملة من قبل بعض الحكومات للهيمنة الاميركية والشروط الاسرائيلية والتمهيد للشرق أوسطية. وهذه يجب ألا تعوّم بدورها من خلال وضع الجميع في سلة اميركا. لأن العلاقات بأميركا ومستواها وطبيعتها ودرجتها متفاوتة من دولة الى اخرى، وان اشتركت في محاولة التفاهم معها، أو عدم استعدائها، أو الرد عليها بحزم كما تطالب التظاهرات الشعبية من بيروت الى القاهرة مروراً بغزة. قراءة الهوامش والتفاوتات وادراك الفروق النسبية، على خطورتها، بين المواقف تمثل شرط التحليل الدقيق للوضع، والخط السياسي الصحيح بالتالي، وليس منهج"الفسطاطين"أو"السلة الواحدة". وتلك القراءة وذلك الإدراك هما طريق النقد الصحيح والدقيق للسياسات العربية وانقاذ الجامعة العربية ونصرة فلسطين والعراق ولبنان ومواجهة سياسات بوش وشارون الشرق أوسطية من العقوبات الظالمة ضد سورية الى افغانستان. * كاتب من الأردن.