ثمة إيجابية من وضع مشكلة إصلاح الجامعة العربية الأدق إصلاح العلاقات العربية - العربية على نار حامية. فعلى رغم ان ذلك ضرب على حديد بارد، بسبب استرايتجيات الدولة القطرية وسياساتها، إلا أنه كشّاف للسياسات العربية الراهنة في هذه المرحلة، كما هو كشاف لمدى امكان "التحرك العربي المشترك" في مواجهة الهجمة الأميركية - الصهيونية التي تواجه الوضع العربي برمته الى حد التجرؤ على اعلان هدف إحداث تغيير جوهري فيه. هذا يعني ان السياسة قبل الاصلاح، والاصلاح مرتبط بالسياسة. ومن ثم، فهو إن تم خدمَ سياسات معنية، وان لم يتم خدم سياسات أخرى. صحيح ان اشكالية الجامعة العربية منذ نشأتها حتى اليوم نابعة أساساً من طبيعة التجزئة ومن طبيعة دولتها القطرية. أي ان ثمة مشكلة في التكوين وما يحمل من غريزة ونزعات قبل أن تكون في السياسة. بل كثيراً ما كانت الخلافات السياسية في المراحل السابقة تعبر عن التناقضات الناشئة عن طبيعة التجزئة ودولها. وقد وصل الأمر في حالات الى أن يذهب عمرو يساراً اذا ذهب زيد يميناً، أو العكس، بالمعنى المجازي ليسار ويمين. ومن يتابع التناقضات العربية وصراعات المحاور في مرحلة حلف بغداد يجد أمثلة على ما تقدم. على أن الوضع تغير نسبياً، وليس جوهرياً، بعد انتهاء الحرب الباردة، وبوضوح أكبر، بعد العدوان الأميركي على العراق واحتلاله. فقد أصبحت السياسة، وعلى التحديد مدى الاستجابة لأميركا، أو التجاوب مع سياساتها، تتخفّى وراء الخلافات المتعلقة باصلاح الجامعة، أو الموقف من اعادة انتخاب عمرو موسى أميناً عاماً لها. فقد ينشب خلاف حاد حول نقطة تتعلق ببند من بنود نظام الاصلاح لا يكون مقصوداً لذاته، بقدر ما يختبئ وراءه من خلافات سياسية متعلقة، مثلاً، بالعلاقات مع اميركا والدولة العبرية أو بهذا الجانب أو ذاك من السياسات الخاصة بفلسطينوالعراق، والموقف العربي العام من مشروع "الشرق الأوسط الكبير". طبعاً ان تفسير تلك السياسات ذات الجموح المتطرف نحو أميركا يجب ألا يقتصر على تأويله من خلال المتغيرات في موازين القوى فحسب، وانما أيضاً، لا بد من ان تبقى اشكالية التجزئة ودولتها حاضرة في التحليل. بل جاء التغيير في موازين القوى ليغري بعض الدول باطلاق غريزتها القطرية النابذة للتعاون العربي لتصبح جموحاً يمزق تلك الغلالة الرقيقة التي تحفظ لها هويتها العربية رسمياً، والتي اسمها الجامعة العربية. وهذا كله ما كان ليتم لولا الدفع الأميركي باتجاهه. فهو الأكثر تطابقاً مع مشاريع الشرق أوسطية. اما الخلفية النظرية له فهي ان هذه المنطقة فسيفساء موازييك من طوائف واثنيات وأديان وأقطار تجمعها الجغرافيا والرغبة الاميركية - الاسرائيلية، وليس لها من هوية عربية أو اسلامية، أو من شعوب حية لها تطلعاتها أو مصالحها العليا. لكن في المقابل، وضمن حكم حال التجزئة، وبسبب تفاوت الأحجام والأدوار وعوامل أخرى، كان لا بد من أن تتماسك عدة دول العربية ولو بتراخ، أو ليس كما يجب في مواجهة، أو ممانعة، الهجمة المذكورة من جهة، وفي التشديد، من جهة أخرى، على أهمية الجامعة العربية، وعدم السماح لغلالتها، حتى لو كانت رقيقة، بالتمزق. بل انتقل البعض، بما يشبه الهجوم، الى تقديم مشاريع اصلاح للجامعة تحت هدف تثبيت بقائها وزيادة فعاليتها ان أمكن، وهذا في الوقت الذي دخلت الجامعة العربية العلاقات العربية - العربية أخطر مراحل تمزقها، وطُرح استبدالها برابطة "الشرق الأوسط الكبير". في هذا الوقت اشتدت دعوة اصلاحها رداً على ذلك النقيض الخطير المدمر، ليس من زاوية الهيمنة الاميركية - الاسرائيلية وتصفية القضية الفلسطينية فحسب، وانما أيضاً الغاء هوية المنطقة وبعثرة شعوبها. من هنا جاءت مشاريع اصلاح الجامعة العربية والردود عليها لتعبّر عن المعادلة التي وصل اليها الصراع. طبعاً هنالك من راح يشن حملة تغطيها القناة الاميركية "الحرة" مشروع الحرب النفسية ضد العرب، ومضمونها يقول ان ما تريده أميركا هو الذي سيتحقق. اما في المقابل فثمة من يدحضها، وبحق، ليقول: على الرغم مما يبدو على السطح من قوة للهجمة الاميركية والاسرائيلية، فانها في حقيقتها ضعيفة. بل ربما كانت أشد ضعفاً مما يمكن ان يخطر في بال. فهي ضعيفة أمام شعب فلسطين وعدالة قضيته، وأمام مقاومته وانتفاضته وتضحياته وصموده. والدليل مشروع الانسحاب الكامل من قطاع غزة وتغطيته بمزيد من المجازر وأخيرتها، وليست بآخرها، المجزرة التي أوقعها عن سبق اصرار وتصميم في القطاع نفسه بتاريخ 7/3/2004. انها، في نهاية المطاف، مجازر المتراجع وليس المتقدم. وهي ضعيفة أمام الشعب العراقي الذي جعل بول بريمر يفرح كطفل لتوقيع "الدستور" العراقي الموقت من قبل مجلس يعرف انه معيّن وغير شرعي. فما مصدر هذا الفرح بخطوة لا يدري ما نتائجها، ولا ما هي الخطوة الثانية؟ السبب شعوره ان الشعب العراقي يستطيع اجبار الاحتلال على الرحيل خلال هذا العام، والا حدث ما لا يحبه بوش الذي يستجدي التهدئة لعلها تسعفه على النجاح في الانتخابات الرئاسية. لكن المشكلة في القادة الذين ضل تقديرهم للموقف لناحية عدم قدرة ادارة بوش الآن على مواجهة اجماع عراقي موحد ومصمم على رحيلها فوراً، وقبل الانتخابات، وبلا مناورة ولا إبقاء لقواعد عسكرية. وأميركا ضعيفة أمام الاعتراضات الفرنسية - الألمانية إزاء مشروعها ل"الشرق الأوسط الكبير" انظر هجوم جاك شيراك عليه. وهي ضعيفة امام فلاديمير بوتين وهو يطهّر ادارته من "أصدقائها"، أو أمام الصين التي انتزعت منها التهدئة في الموضوع الكوري. وبكلمة أخرى، هذه القيادة الصغيرة التي تخضع الاستراتيجية الأميركية العليا لمعركتها الانتخابية جديرة بتقديم التراجعات وتلقي الهزائم خلال هذا العام. من هنا يمكن لعدد من الدول العربية، وعلى الخصوص، مصر والسعودية وسورية ان تخطو في مؤتمر القمة العربية المقبل خطوة الى أمام سواء ارتفعت الى مستوى "الاصلاح" أم لا باتجاه تثبيت الأقدام في مواجهة هجمة "الشرق الأوسط الكبير"، وتهديد سورية بالعقوبات، وضرورة دعم شعبي فلسطينوالعراق. اما من جهة ثانية، فإن على الدول العربية التي تستقوي بأميركا، أو تلك التي بين بين، أن تعود الى الصف العربي، وتدرك ان ما تريده اميركا لها من وراء كشف غطاء الغلالة العربية ليس في مصلحتها، بالتأكيد. هذا ولا يزال بمقدورها ان تنتظم في هذا الصف العربي الذي تمادى في اعتداله، وكفى دفعه أكثر فلم يبق غير الهاوية. اما اذا ظنت ادارة بوش ان في مقدورها تبديل الوضع العربي الذي يراه كثيرون "مؤمركاً" أكثر من اللازم، ثم المجيء بآخر وفقاً للمقاس الأميركي - الاسرائيلي، فهي تخوض في بحر من الضباب. فها هي ذي ازاحت نظام صدام حسين فماذا وجدت تحته؟ مقاومة مسلحة ومعارضة شعبية شبه شاملة، وها هي قد حاصرت الرئيس الفلسطيني وهشّمت السلطة الفلسطينية، واطلقت العنان لجيش شارون وهو أقدر من جيشها ليحتل ويدمر ويسفك الدماء. فماذا وجدت؟ شعب بأسره يقاوم وينتفض ويصمد ولا يلين. وإذا لم يكن هذا المثلان معبرين فلتمض اميركا في ابتزاز الأنظمة والتهديد بتغييرها، فماذا ستجد بعدها غير الطريق المسدود، وهو الشعوب، وأكثرها مكبوت لم تذق أميركا طعم إفلاته بعد. وبالمناسبة، انتشر مؤخراً وهم حول اسباب عدم رضا الشعوب العربية عن أوضاعها. وذلك من خلال عدم ابراز ان الجزء الأكبر من الغضب الشعبي نابع من سياسات الاقتراب أو التقرب من اميركا، كما العجز امام مواجهة التحديات الاسرائيلية، من قبل الأنظمة. فجماهير الأمة تتمزق صباح مساء وهي ترى ما يحدث في فلسطين، وبلا حراك عربي. والدليل: ليخرج صوت نظام ضد أميركا حتى ترتفع شعبيته. وفي المقابل، ليتأمل القادة في القمة العربية في كل ذلك، أيضاً، لكي يجعلوا اعتدالهم قوياً.