ما بال أقوام يشددون النكير على بعض الشباب الذين يتشددون في أفكارهم الدينية أو حتى الذين يلجأون إلى العنف نتيجة عوامل متباينة من قطر لآخر، فإذا بهم يضيقون صدراً بكل رأي يخالف قناعاتهم وتضيع هيبتهم العلمية أو صفتهم الأكاديمية بين المفردات والمعاني التي يختارونها حينما يكتبون ردودهم. وإذا افتقد الشباب عوامل الخبرة وأدوات العلم الصحيح فإنهم يجنحون في بعض أفكارهم، والاغرب أن يجنح صاحب العلم إلا إذا وظف مواهبه العلمية فى سبيل طموحاته السياسية، وتلك قاصمة الظهر لكل عالم في كل العصور. ونعى عبدالحميد الانصاري في مقال "عنف الجماعات الخارجة..." "الحياة" في 18/6/2004، الناعقين على العنف الذي مارسه بعض الشباب في مجتمعاتهم، واستفاض في توضيح مظاهر العنف التي عدها "عربية" سواء ضد المرأة قديماً وحديثاً فهو بهذا يعرف كيف تؤكل الكتف، وأيضا ضد المخالفين. غير أن هذا وغيره من غلاة العلمانيين في بلادنا وإن تقلدوا مناصب شرعية، يخالفون منطق الأشياء في رفض متعصب لا يخلو من غرض لبحث كل العوامل التي تسهم في انبات العنف كظاهرة وكسلوك مرضي في المجتمع، بينما يتحولون هم إلى دعاة للاستبداد في أبشع صوره حينما يزينون للحاكم، أي حاكم، أن يستبد ويقطع ظهور رعيته جلداً وتعذيباً وسجناً، فهو المخول وحده دون غيره بتقنين العنف ضد المواطنين من معارضيه. ورحم الله نفراً من أمتي قالوا لمن هو خير منا "لو رأينا فيك اعوجاجا قوّمناك بحد سيوفنا". وما حاجة هؤلاء الشباب إلى انتهاج العنف إذا كان في مقدورهم أن يعبروا عن آرائهم وأفكارهم ومعتقداتهم بصورة سلمية وبطريقة ملائمة، على الأقل عند السواد الأعظم منهم. ولا يمكن قياس هذا الرأي على كل حالات العنف التي تجرى في بعض الدول، خصوصاً ما يجري أخيراً في السعودية مثلاً. وعندما نطالب بفتح أبواب الحرية والتفاهم وتخفيف الإحتقان ضماناً لاستقرار أوطاننا توصف مطالبتنا بالكذب والهراء؟ ما الفارق إذاً بين شاب جامح افتقد أدوات المعرفة أو الرعاية المناسبة واستاذ الشريعة المثقف؟ وبعيداً من التهاتر وقاموس الالفاظ نقول: يبقى الإحتقان دوماً هو العلة التي تسبب آلاماً مبرحة للمجتمعات العربية أو الإسلامية بما تفرزه من ظاهرة عنف لا تكاد تخبو حتى تعود مجدداً على رأس العقد الذي يليه. وقد يبادر البعض بالقول أن العنف أو الإرهاب ظاهرة عالمية تتكرر في بعض المجتمعات الأوروبية أو الغربية عموماً، وعلى رغم صحة المقولة تسري عليها الحكمة الشائعة "قولة حق يراد بها باطل". وفارق كبير بين حالات العنف التي تعرفها بعض تلك المجتمعات الغربية وبين ظاهرة العنف المنهجية في كثير من مجتمعاتنا العربية. وأهم الصنوف التى تمايز بينهما هو عدم تأثر المناخ السياسي الغربي ببعض التداعيات التى تعتري صوراً نمطية إجتماعية محدودة بممارسات عنيفة، ومن ثم لا تؤدي إلى النيل من الحقوق والحريات العامة، على النحو الذي تتأثر به المجتمعات العربية الى درجة يمكن أن نصف الظاهرة بأنها مزمنة. فأهم الظواهر الغربية في مجال العنف على النحو الذي نعرفه فى الصراع الذى استمر لسنوات طويلة بين الحكومة البريطانية والجيش الجمهوري الايرلندي أو ذلك الذي عانت منه الحكومة الألمانية من منظمة بادر ماينهوف أو الحكومة الأسبانية من منظمة إيتا الإنفصالية، لم تؤد كلها إلى الانتقاص من الحقوق المدنية للمجتمع بما فيه من أفراد أو منظمات أو هيئات أو أحزاب، غير أن حال "الإحتقان" التي تمنع قطاعات كبيرة داخل المجتمعات العربية من الحركة أو المشروعية وتلقي بظلالها على الحياة السياسية فتتسبب بقدر كبير من الاستناد إلى قوانين الطوارئ بما تؤدي إليه من تقييد حركة الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية. وبصفة خاصة تلك العلاقة المأزومة بين فصائل التيار الإسلامي على تنوع روافده وبين بعض الحكومات العربية والتي ألقت بظلالها على العلاقة المجتمعية فهناك شرائح واسعة من التيارات السياسية اعتبرت الحركة الإسلامية خارج مظلة الإصلاح لأنها تدعو إلى تغيير جذري، وقد قبلت التيارات غير الأصولية بذلك - من دون أن تدري - الموقف الأصولي فى صورة معكوسة. وإذا كانت شرائح واسعة من النخبة السياسية العربية ارتكبت خطأ تاريخياً بأن أحاطت الحركات الإسلامية السياسية بمواقف استئصالية وصل بعضها في تطرفه الى حد التنكر لفرض الجهاد، فإن الحركات الأصولية هي الأخرى ارتكبت خطأ تاريخياً مماثلاً بالتوسع فى ممارسة العنف وإن بدا فى صورة رد الفعل، بما يعبرون عنه "بدفع الصائل"، أي الدفاع الشرعي الخاص والغض من شأن النهج الإصلاحي ومن ينهجونه، إذ لم تر فيه سوى مهرب فرضه الجبن وخوار الهمم. ومع استحكام حال التدابر والتقاطع بين حملة كل لواء بدت الفكرتان متعارضتين فيما تجتمعان في الحقيقة في إطار تراتبي. الحديث عن مكافحة الأفكار المتشددة وبالتالي مواجهة العنف لا يمكن فصله كما أسلفنا عن المناخ العام ولا يمكن تحميل طرف دون الآخر هذه المسؤولية. غير أن من غير المعقول أو المقبول أن يطالب البعض بضرورة الانفتاح على الآخر وعلى الدنيا كلها ونفشل في الوقت ذاته في التواصل الداخلي. فالذي لا شك فيه أن مما يعوق التئام الأمة التئاماً صحيحاً تصاعد وتيرة التكفير السياسي من منطلقات دينية وعقائدية. وعلى رغم أن مخاوف البعض تجاه مثل هذه القضية هي مخاوف صحيحة فإن التفكير هو من أهم أسباب انقسام الأمة، مما يعوقها في التوحد والتماس أسباب النهضة والنصر. لكن الرصد الأمين لمجريات الامور فى بعض البلاد العربية والإسلامية يوصل الى نتيجة ارتكازية تتمثل فى تبادل الأطراف تبني سياسة الإقصاء وممارستها على أرض الواقع. وإذا كان بعض المدارس الفقهية والفكرية السلفية يمارس التكفير العقائدي أو السياسي ضد طوائف أو أفراد أو هيئات فالمؤسف هو أن بعض الحكومات العربية الذي استمرأ الاستبداد والإقصاء يسعى جاهداً إلى استخدام المعيار ذاته فى تكفير معارضيه سياسياً بإبعادهم وإقصائهم. غير أننا في الوقت ذاته لا نعول على تضخيم تلك المخاوف لأن مدرسة التكفير عبر التاريخ الإسلامي هي مدرسة مرجوحة تفقد مؤثراتها الوجدانية والفارق في طبيعة احتوائها هو مدى ملاءمة الإجراءات التي يمكن أن تراعيها الأمة في سبيل استئصال أسبابه. وفى هذا الخصوص لا يمكننا إلا التأكيد على مدى مسؤولية العلماء والمؤسسات الدينية الرسمية والشعبية على السواء في بطء علاج هذه الظاهرة وبالتالي مسؤوليتهم في تفاقمها. فغياب دور العلماء والمؤسسات الدينية في لعب الدور الإيجابي المنوط بهم أفقد الشباب الثقة فيهم. كما أن موقف العلماء من عدم الصدع بالحق بميزان معتدل والسكوت عن مظالم كثير من الحكومات العربية وابتعاد معظمها عن مبادئ الإسلام وتعاليمه مع التماس المبررات لهم أيضاً، من الأسباب التي تركت الباب مفتوحاً أمام تصدر الجهلاء وأدعياء العلم. فالتكفير والجهل صنوان ولقد ارتبطت مدارس التكفير دائماً بالغلو والتشدد. فأهم الصفات التي تركها النبي محمد صلى الله عليه وسلم لترسم العلامات المميزة لمدرسة التكفير بأننا نحقر صلاتنا إلى صلاتهم وصيامنا إلى صيامهم فهم صوامون قوامون لله يؤدون الصلاة بعناية، ولقد كان أمر الله سبحانه لنبيه محمد ومن معه بالاستقامة مرتبطاً بالنهي عن الطغيان والتشدد حينما قال سبحانه "فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا"، لأن الأمر بالاستقامة وما يستلزمه من يقظة دائمة وحرص دائم لعدم الوقوع في الخطايا والذنوب أو البعد عن النهج المستقيم، قد يدفع إلى الغلو والإفراط. وتصدى الإمام علي رضي الله عنه للخوارج بالقدر الذي تغولوا فيه على المجتمع، وقال "هم إخواننا بغوا علينا". لذلك فأهم الأسباب التي تحقق الانقسام في الأمة، إضافة الى ما سلف بيانه، هو اتباع سياسات تكرس انتهاكات حقوق الإنسان وعدم حسن معاملة المغالين أثناء سجنهم واحتجازهم وتعذيبهم وترك كثيرين منهم نهباً لظروف قاسية بدلاً من الحرص على استيعابهم، وهذه من أهم نذر الخطر. وقد خلص علماء الإجتماع إلى تأثير سياسة العقاب الجماعي التي تمارسها السلطة - أي سلطة - على التيار العريض الذى ينتسب إليه بعض الناشطين في مجال استخدام العنف لتحقيق الأهداف السياسية أو الدينية، يؤدي إلى تفاقم ظاهرة العنف ويحقق لها زاداً مهماً فى فقه الغربة الذي تشعر به. وحديثي هنا حديث القياس فحسب ولا يجوز تعميمه بصورة تلقائية، ولا ينسحب بالضرورة على كل حالات العنف التي يرتكبها بعض الجماعات أو المجموعات، فهناك حكومات استبدت وقهرت خصومها ولم تدع الفرصة لهم فى التعبير العلمي السلمي ولجأت إلى العنف، وبالتالي هنا يتم البحث عن الأسباب الإجتماعية للعنف فيما سماه علماء الإجتماع في ظاهرة الثأر الإجتماعي. أما التفجيرات العشوائية وقتل المستأمنين فلا تدخل في ما عنيناه. إن موقف الحكومات العربية أو كثير منها من محاولات الإدماج يحتاج إلى معالجات مجتمعية متنوعة من أجل حملها على التجاوب مع حركات الإصلاح السياسي التي تتنادى بها هذه المجتمعات وإلغاء سياسة الإقصاء. وما نحرص عليه هو أن تستمع تلك الحكومات إلى نصائح مواطنيها من دون أن تفسرها على أنها صادرة من مناهضين تحاصرهم بتدابير أمنية استثنائية بل صادرة من محبين لبلدهم مخلصين لشعوبهم. فالوطنية ليست حكراً على رجال السلطة وأتباعها دون غيرهم، وعلى هذا فهي في حاجة إلى تعزيز احترام القانون في علاقتها بمواطنيها كافة والتوقف عن معاملة المعارضين بقوانين استثنائية وسياسات إقصائية تمثل بيئة حاضنة للتشدد وتوابعه. وعلى النخب السياسية في مختلف أطيافها أن تبدأ حوارات جادة مع الحركات التي تمارس العنف أو تشعر بالإحباط، لصوغ علاقة صحية معها للمشاركة في بناء المستقبل على أرضية التعاون والتعارف بدلاً من التناكر والتناحر، وهو الأمر الذي يفتح الباب لدوائر رسمية لتتواصل في مراحل متقدمة مع مثل هذه الحوارات. ومن أهم الإجراءات التى نراها لازمة لنزع فتيل العنف فى المجتمعات العربية ودمج أعضاء الجماعات الدينية في المجتمع المدني: - معاملتهم كمواطنين داخل المجتمع وإفساح المجال للدعوة السلمية. فمن أهم أسباب العنف وضع العقبات والعراقيل فى وجه الدعوة السلمية وإن كانت تمثل معارضة شديدة للسلطة أو الحكومة، طالما أنها سلمية وشرعية. وفي حال الخلاف علينا اللجوء إلى الحوار ولا إلى تكريس سياسة العنف للدولة ضد المعارضين من أبناء الوطن. - قيام رجال الشرطة بواجبهم الوطني والديني تجاه جرائم الآداب والمخدرات وانحرافات الشباب ومعالجة انحراف كبار الموظفين المستغلين لمناصبهم. - إلغاء العمل بقوانين الطوارئ التى تعد سيفاً مسلطاً على رقاب العباد. - إطلاق حق المواطنين فى التعبير عن آرائهم ومعتقداتهم في صورة سلمية. - ترشيد الإعلام حتى لا يستفز مشاعر المواطنين ويشعرهم بأن الهدف هو مسخ الهوية والأخلاق الإسلامية. - تهذيب البرامج الإعلامية والأفلام والمسلسلات: نحن مع الإبداع ومع الفن الذي يرتقي ويطور مشاعر الإنسان لا أن يدغدغ عواطفه. فالتهكم على المعتقدات والأخلاق الإسلامية فى برامج تلفزيونية أو في بعض الأفلام هو من الأسباب التي تكرس العنف. * محام مصري.