تبذل الولاياتالمتحدة وبريطانيا مسعى يائساً لمحاولة"الحدّ من الضرر"في العراق. ولعل السؤال الذي يطرح على طرفي المحيط الأطلسي، قبل نيف وشهر من تسليم السيادة إلى العراقيين هو"ماذا يمكن أن ننقذ من الآثار الكارثية"؟ أي من الأهداف الاستراتيجية للتحالف في العراق ضاعت نهائياً وأي منها لا يزال يمكن بلوغه وإن بصورة أقل بريقاً؟ لا بد أولاً من تجاوز الابتهاج الكاذب الذي انطوت عليه تصريحات الرئيس جورج بوش ورئيس الحكومة البريطانية توني بلير. فهما إذ يتحدثان عن خلق عراق"حر وديموقراطي"إنما ينطقان بلغة السياسيين الغامضة حين يحشرون في خانة الحرج... هذا في أفضل الأحوال. وأما في أسوئها فحديثهما إهانة لعشرات الألوف من العراقيين الذين قتلوا أو جرحوا، أو عذبوا, والذين لا تزال بلادهم تعاني من النهب والدمار. ولكي يتحليا بشيء من الصدقية فإن من الأفضل لبوش وبلير ولأولئك الذين يكتبون لهم خطبهم أن يكفا عن الإشارة إلى إعادة"الحرية"للعراق وعن القضاء على"الإرهاب". فمثل هذا الكلام يثير الغثيان عند الناس. الحقيقة أن أميركا وبريطانيا أقدمتا في لحظة من الغرور الجنوني على اجتياح وحشي استعماري الأسلوب واحتلالي للعراق ما لبث أن ولد - كما كان متوقعاً وحتمياً - حركة مقاومة وطنية. وعليه فكلما سارعت القوات الغازية بالعودة إلى بلادها كلما كان ذلك أفضل للمحتلين وللشعب العراقي على السواء. وماذا عن أهداف التحالف الاستراتيجية؟ لقد أصبح من الواضح الآن أن العراق لن يصبح دولة عميلة لأميركا كما كان يأمل المخططون. ولن يكون في وسع أميركا أن تحتقظ بقواعد في هذا البلد وأن تسيطر على موارده النفطية. وأما توقعات المحافظين الجدد في أن"ديموقراطية"العراق ستغير ملامح الشرق الأوسط كله لصالح أميركا وإسرائيل، فقد ثبت أنها أضغاث أحلام. الواقع أن أميركا دفعت ثمناً باهظاً لأحدى أهم الخطايا التي عرفتها سياستها الخارجية في التاريخ الحديث. اذ فقدت حتى الآن 800 قتيل من جنودها في العراق وربما 5000 جريح، جروح بعضهم بالغة، وأنفقت ما بين 150 إلى 200 بليون دولار. ولا بد أن يشمل الثمن أيضاً الآثار الكارثية التي لحقت بهيبة أميركا وسلطتها التي هزتها موجة عارمة من المشاعر المعادية، هذا بالإضافة إلى الخطر الذي يتعرض له بوش وبلير بالنسبة الى مستقبلهما السياسي. ولا بد أن يسجل في كشف الحساب النهائي للحرب في العراق، ولحرب بوش السيئة التصور على"الإرهاب"، مدى إسهامها في إطلاق يد رئيس حكومة إسرائيل أرييل شارون ليشن حربه الاستعمارية على الضفة الغربية وغزة. وكما هي الحال في سياسة إسرائيل الإجرامية - من تدمير المنازل إلى قتل المدنيين وإلى اغتصاب الأراضي وقلب حياة الفلسطينيين إلى جحيم - أثبتت أميركا من جانبها أن الحروب الاستعمارية هي عبارة عن مدارس للتمييز العنصري والفساد والانحراف حيث يفقد المقموعون إنسانيتهم ويفقد القامعون روحهم. تسليم السيادة السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المجال هو: كيف سيقابل الشعب العراقي الحكومة التي سيشكلها مبعوث الأممالمتحدة الأخضر الإبراهيمي؟ هل يعتبرها شرعية تمثل الشعب، أم أن المقاومة ستهاجمها؟ فإذا حظيت هذه الحكومة بتأييد شعبي واسع فستنتهي المقاومة ويصبح الوصول إلى حل سياسي ممكناً. وهذا يتوقف على هوية أعضاء الحكومة وما إذا كانوا يتمتعون بسلطة حقيقية. ويشاع في هذا الصدد بأن عدنان الباجة جي، وهو سياسي سني يتمتع باحترام الجميع، سيكون هو رئيس الدولة المقبل. وأما رئيس الحكومة فيرجح أن يكون العالم الفيزيائي والنووي حسين الشهرستاني الذي قضى سبع سنوات في سجون صدام حسين، وإن صدر تكذيب لهذا الاحتمال. وفي الوقت الذي يناقش مجلس الأمن مشروع القرار الأميركي البريطاني حول الإجراءات والجدول الزمني لتسليم السلطة، هنالك أمور كثيرة لا بد من توضيحها: إلى أي مدي تسيطر الحكومة العراقية الجديدة على"القوات المتعددة الجنسية"وهي التسمية الجديدة الآن للقوات الأميركية والبريطانية الموجودة حالياً في العراق ؟ وإلى أي مدى تسيطر الحكومة على عائدات النفط؟ ومن هي الجهة التي تملك التصرف بأموال إعادة بناء العراق والتوقيع على العقود؟ ومن سيتولى تدريب وتسليح الجيش العراقي الجديد؟ من سيختار ضباطه وجنوده من بين أفراد الجيش القدامى؟ وأي دور سيعهد به إلى الأممالمتحدة بعد ذلك؟ أما بالنسبة الى السيد بول بريمر الملقب ب"نائب الملك"الأميركي في العراق، فسيعود إلى بلده في نهاية شهر حزيران يونيو المقبل، كما أن"سلطة التحالف الموقتة"التي كان يرأسها سيتم حلها. على أن السفير الأميركي جون نغروبونتي سيصل بعد ذلك ليرأس بعثة ضخمة تستخدم نحو 1300 أميركي و2000 عراقي أو أكثر. فهل سيكون الفرق كبيراً ومحسوساً بين بريمر ونغروبونتي أم أنها مجرد عملية تجميلية وشكلية؟ وبمعنى آخر هل قررت أميركا فعلاً الانسحاب من العراق أم أن السفير الجديد سيسعى إلى ممارسة السلطة من خلف الستار؟ وفي هذه الحال لا بد أن تستمر المقاومة العنيفة وأن تفشل عملية تسليم السلطة نهائياً. وفي هذا الصدد كتبت صحيفة"وول ستريت جورنال"اليمينية في مطلع هذا الشهر أن أميركا ستحتفظ بسلطة قوية للتأثير على أي قرار تتخذه الحكومة الانتقالية. فسيبقى العشرات من المستشارين والأعوان المعينين في جميع الوزارات وعلى جميع المستويات. ولن تتمتع الحكومة العراقية بسيطرة فعلية على أجهزة الأمن والجيش كما أنها ستفتقر إلى القدرة على سن القوانين أو تغييرها. وبعبارة أخرى فإن أميركا تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه بين الركام. وهي على رغم من أخطائها وأعمالها الوحشية لا تزال تأمل بأن يكون لها النفوذ الأقوى في العراق الجديد بحيث يخولها ذلك على الأقل رسم مستقبل البلاد بما يتفق مع مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية. ولا يبدو هذا الطموح الأميركي غير واقعي بالنظر لما تنفقه أميركا وما ستظل تنفقه في العراق. فمعظم العراقيين يريدون خروج القوات الأميركية ولكنهم يريدون استمرار تدفق المال الأميركي. ساحة المعركة في واشنطن في هذه الأثناء تشهد واشنطن هبوطاً محسوساً في أسهم جورج بوش في بورصة الاستطلاعات إذ يحسب الأميركيون تكاليف الحرب المتصاعدة ويتساءلون عما إذا كان الرئيس سيستطيع إخراج بلادهم من هذه الورطة الفوضوية. وتدور هناك معارك بيروقراطية حامية الوطيس حول من سيتحمل مسؤولية ما جرى. فالجنرالات وكبار الضباط يستشيطون غضباً ويحملون على"القيادة المدنية"في البنتاغون سواء على دونالد رامسفيلد وزير الدفاع أو على نائبه بول ولفوفيتز أو دوغلاس فايث، المحافظين الجدد من أنصار إسرائيل الذي ضغطوا بكل قواهم من أجل الحرب، وأسأوا إدارتها بعد ذلك... فلا بد إذن أن تسقط بعض الرؤوس إما الآن وإما بعد انتخابات الرئاسة في تشرين الثاني نوفمبر المقبل. ومن ناحية أخرى فإن وكالة المخابرات المركزية سي آي أي تشن حرباً خفية ضد وزارة الدفاع بسبب ما قامت به من إنشاء مكتب استخبارات خاص بها وبسبب مسؤوليتها عن دعم أحمد الجلبي الذي فقد صدقيته الآن، وكان المسؤول عن المعلومات المزورة حول أسلحة الدمار الشامل المزعومة. وفي حين يحال بعض الجنود المتواضعين إلى المحكمة العسكرية، تم صرف الجنرال جانيس كاربينسكي من الخدمة وهي التي كانت مسؤولة عن سجن أبو غريب وغيره من السجون التي جرى فيها التعذيب. وأما الجنرال ريكاردو سانشيز قائد القوات الأمريكية في العراق فسيفقد منصبه في هذا الصيف. ترى إلى أي درجة في سلم القيادات سيقع اللوم؟ ومن الذي أصدر الأوامر ب"تحضير السجناء"قبل استجوابهم؟ إصبع الاتهام يوجه حالياً إلى أحد كبار معاوني رامسفيلد، وهو ستيفن كامبون وكيل وزارة الدفاع لشؤون الاستخبارات. تلاحق آثار النهاية المحزنة للخطط التي أعدت للعراق كل المؤسسة السياسية في واشنطن، ويساور القلق زعماء الحزب الجمهوري لا بالنسبة الى فقدان البيت الأبيض فحسب، بل لخسارة الأكثرية في الكونغرس أيضاً، في حين يأمل زعماء الحزب الديمقراطي بالفوز على الصعيدين معاً. لقد بدأت واشنطن تحس بهدير زلزال سياسي مقبل لا بد أن تمتد آثاره إلى أنحاء كثيرة من العالم ومنها إسرائيل. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط.