مع ان سورية اكثر الساحات تأثراً بالصورة التي ترسم لمستقبل العراق، تبدو المعارضة فيها اقل الأطراف اهتماماً بالحدث العراقي، أو اكثرها ارتباكاً وتعويماً لمواقفها من تفاصيل ما يجري في العراق. ويصعب الوصول الى إجابات شافية من بعض رموز المعارضة السورية عن تساؤلات كبيرة وحيوية ومصيرية في الوضع العراقي، كالموقف مثلاً من عملية بناء الدولة ومؤسساتها او من دستورها الموقت ومن شكل العلاقة المزمع بناؤها بين العرب والأكراد او من بعض اساليب المقاومة، خصوصاً اعمال التفجير والتخريب وقتل المدنيين، بما في ذلك النتائج المترتبة على إرهاب بعض الجماعات المتطرفة وسلوك مقتدى الصدر وأنصاره. ولا تحتاج الى كبير عناء كي تكتشف ان باب الهرب من تقديم هذه الإجابات واسع، يجسده تكرار عبارة واحدة هي الاحتلال الأميركي، كأن القصد من التكرار إقناع الذات والآخرين بأن الاحتلال وحده اساس الداء والبلاء وأن مواجهته تالياً هي الدواء والمهمة الأولى التي لا تقبل التأجيل او التفكير بغيرها! وتحفل احاديث بعض المعارضة بالتناقضات والمفارقات المذهلة، فهذا البعض يعارض الديكتاتورية متسلحاً بشتى الاجتهادات حول مآسي الاستبداد وغياب الحريات والحقوق المدنية مما أدى الى تدمير دور الإنسان والبنية المجتمعية وتغييب مفهوم المواطنة وتسييد الفساد، لكنه ينكر او يتنكر لما يشهده عراق اليوم من فسحة بينة من الحريات ما كان المواطن ليحلم بجزء يسير منها في ظل نظام صدام حسين، واستدراكاً فبعضهم لا يبدي تأييد لمسارات بناء دولة عراقية على أسس ديموقراطية متذرعاً بوجود الاحتلال وبأن مؤسسات الحكم والسلطة الجديدة ليست اكثر من ادوات طيعة بيد الأجنبي. هؤلاء دعاة عقد اجتماعي توافقي بين البشر جوهره العدل والحرية وحقوق المواطنة المتساوية، ينادون بوحدة العراق ويعادون تقسيمه على اسس اثنية او طائفية، لكنهم يسخرون من القانون او الدستور العراقي الموقت على ما فيه من ايجابيات تكثفها لائحة الحقوق المدنية والحريات السياسية والثقافية لكل مكونات المجتمع العراقي، ويرفضون بإصرار لافت مبدأ الفيديرالية في صوغ العلاقة بين القوميتين العربية والكردية كخطوة نوعية نحو تثبيت عقد صحي يغذي الاستقرار وروح التكافؤ بينهما في اطار الدولة الواحدة، ويجدون في إقرارها تنازلاً عن حقوق العرب التاريخية وخطوة نحو الانفصال وإعطاء الأكراد "الغرباء" شيئاً لا يستحقونه! ويجاهر بعضهم بتعاطفه مع كل صور المقاومة التي تجرى ضد الاحتلال ويضمر آخرون هذه المشاعر لكن يفضحها ارتياحهم لما تتناقله الأخبار من تصاعد عمليات القتل والتدمير في العراق، او عن تقدم "جيش المهدي" وفرض مراهقته السياسية على النجف وكربلاء، لتغدو هذه العمليات في نظرهم اشبه بعمليات تحرير لا عمليات تخريب وتدمير غرضها وضع العراق في اتون حرب اهلية لا تبقي ولا تذر تمهيداً لتفكيكه وتقسيمه. ولا بأس هنا ان يدان على الفور كل من يعارض هذه الأساليب والاندفاعات الطائفية ويدعو الى وسائل نضالية كفيلة ببناء مجتمع عراقي ديموقراطي معافى وطرد قوات الاحتلال في آن. وإذ يستفيض بعضهم في اثارة مواقف الرفض الضرورية والمشروعة ضد ما مورس من تعذيب في سجن ابو غريب ولا يتأخرون عن إدانتها ببيانات وتصريحات نارية، يهملون عن عمد تحديد موقف قاطع مما تمارسه بعض الجماعات الإرهابية واعتمادها اشنع الأساليب عنفاً في قتل المدنيين كالذبح وحرق الجثث وتفجير مؤسسات الأممالمتحدة والصليب الأحمر ومقرات الشرطة. ولا شك في ان غالبية فئات المعارضة السورية عرفت بمواقفها الداعمة للشعب العراقي ابان الحصار الذي فرض عليه، وبادرت بشجاعة الى إدانة الحرب على العراق واتفقت على رفض الاحتلال الأميركي ونصرة حرية العراق وسيادته، لكنها بعدئذ تخلفت عن دورها الذي تستدعيه ضرورة دعم الديموقراطية وعملية بناء المجتمع المدني العراقي وبدا خطابها قاصراً عن إنجاز رؤية جديدة تحدد ملامح المستقبل السياسي للعراق وتعمل على خدمة المحتويين الوطني والديموقراطي اللذين ميزت نفسها بهما. ومع ان المتغيرات النوعية التي حدثت في العالم اثرت بقوة في بنية المعارضة السورية ورسمت افقاً جديداً لدورها، يمكن القول ان ثمة سببين وراء تخلفها عن متابعة الحدث العراقي في الصورة المفترض ان يتابعها تيار وطني ديموقراطي، اولهما تحدر معظم تنظيماتها من منابت ايديولوجية شمولية او اقرب الى الشمولية، غابت عنها عملية البناء والتربية الديموقراطية ردحاً طويلاً، وثانيهما المناخ السياسي الذي تتحرك فيه وغياب فسحة من الحرية والأمان تشجعها على المبادرة وطرح جديد افكارها واجتهاداتها السياسية بعيداً من الخوف والقلق، فثمة حسابات لموقف السلطة السورية من الوضع العراقي وحدود الخطوط الحمر التي ترسمها في تناول هذا الحدث. وعلى رغم ان الوزن الذي تحوزه المعارضة السورية محدود وليس بذي أهمية في تغيير مسارات تطور الوضع العراقي، فإنها تستطيع ان تلعب دوراً سياسياً مزدوجاً: معنوياً تجاه عراق المستقبل وتربوياً تجاه الجمهور السوري، عبر ازالة الكثير من الالتباسات والانحرافات في الوعي الشعبي ان استثمرت ما يحدث في العراق لادانة العمليات الارهابية والتنديد بأشكال العنف الاعمى، وان أظهرت احتراماً صريحاً لحق العراقيين في تقرير مصيرهم ربطاً مع تفهم آليات الجمع بين عملية البناء الديموقراطي والتحرير، وجدوى وسائل النضال السلمي وأهميتها في خدمة الهدفين معاً. نعم هو دفاع عن صيرورة بناء ضد عمليات هدم، صيرورة لا بد ان تتوج بقوى ومؤسسات ديموقراطية تختصر دورة الآلام وتتمكن من طرد الاحتلال واستعادة حرية العراق، مما يعني ان على المعارضة السورية التطلع لدور مهم في مرحلة استحقاق اقليمي كبير، يفترض ان تستجيب لندائها وتسعى انطلاقاً من واجبها و مسؤولياتها التاريخية للمشاركة على قدر المستطاع بالتأثير في مساراتها خصوصاً لجهة مساعدة العراقيين في ما اختاروه لتقرير مصيرهم ومستقبلهم. والمواطن العراقي يسأل اليوم عن المعارضة السورية التي لم يغب بعض رجالاتها عن بلاده ابان فترة الحصار، وأين هي من دعم مشروع دولته الديموقراطية، وايضاً من دعم بعض قادتها ممن يجاهدون لبناء مجتمع معافى هو الأقدر على طرد الاحتلال وضمان وحدة العراق وسيادته، وأين صوتها لدحض دعايات قلة متطرفة ومخربة والمساعدة على عزلها وافشال اغراضها في ضرب أمن المجتمع ومسار بناء مؤسساته، والتي ربما تتقصد من اعمالها الارهابية إشعار العالم بغياب الأمن في العراق والغمز الى استمرار الحاجة لبقاء القوات الاجنبية على ارضه! وكما هي حال العراق الذي يقف اليوم على مفترق طرق حاسم ومصيري، تقف المعارضة السورية بدورها على المفترق نفسه. * كاتب سوري.