قال يوسف إدريس 1927 - 1991 ذات مرة إن كل الحرية المتاحة في العالم العربي لا تكفي كاتباً واحداً لممارسة إبداعه في شكل كامل، بعيداً من القيود المتعددة التي يفرضها على الكتابة الاستبداد السياسي والتصلب الفكري والجمود الاجتماعي والتعصب الديني. وكان يوسف إدريس - حين صاغ عباراته الانفعالية - صادقاً في ما كان يعانيه من اتساع رقابة الخارج وبطشها القمعي الذي ترك آثاره السلبية فيما أطلق عليه الرقابة الداخلية. وهي الرقابة التي تتزايد داخل المبدع كلما تزايدت شروط القمع المقرون بالرقابة الخارجية واتساع مجالاتها، وذلك في متوالية لا ينفصل طرفاها، فالقدر الذي تعنف به الرقابة الخارجية، وتمارس تسلطها في أشكال متزايدة، ومجالات متكثرة، ينعكس على الداخل، ويؤسس رقيباً داخلياً، هو صدى للرقيب الخارجي، واستجابة له بمعنى لا يخلو من الإذعان. ولم يكن يوسف إدريس من الذين يذعنون للرقيب الخارجي، أو يستسلمون إلى قمع الرقابة الخارجية، وإنما كان يقاوم الرقيب وقمع الرقابة في آن. ولذلك كانت كتاباته - في أنواعها المتعددة - تحدياً للمألوف ومقاومة للقيود بكل أنواعها، واقتحاماً إبداعياً جسوراً للمناطق التي لم يجرؤ الكثيرون على اقتحامها سياسياً وفكرياً واجتماعياً ودينياً. وكان من الطبيعي - والأمر كذلك - ألا تتوقف هذه الكتابات عن إثارة غضب الكثيرين من المستبدين والمتسلطين والمتزمتين والمتعصبين والمتطرفين، وأن تعبّر هذه الكتابات عن قدرة صاحبها على قمع الرقيب الداخلي والتحرر من نواهيه على امتداد الأفق الإبداعي الذي ظل يستبدل بمبدأ الواقع مبدأ الرغبة. وكان الدرس الخلاق الذي تركه لنا يوسف إدريس هو أن الكاتب الحقيقي كالمبدع الحقيقي لا يمكن أن يستسلم للقيود المفروضة عليه وإلا فقد طاقاته الخلاقة، وأن الكتابة نفسها فعل اقتحام بامتياز، وتجسيد إبداعي لتحدّي شروط الضرورة في كل مجالاتها تأكيداً لمعاني الحرية ودلالاتها وحضورها الفاعل ضد كل أعدائها وعوائقها. ومضى على كلمات يوسف إدريس ما يقرب من عشرين عاماً، لم يتناقص فيها قمع الرقابة الخارجية بأشكالها السياسية والاجتماعية والفكرية والدينية، وتزايدت المصادرات باسم السياسة مرة، والدين مرة أخرى، الأمر الذي اقترن بتصاعد الاستبداد السياسي، وتدافع تيارات التعصب الديني التي سرعان ما انقلبت إلى ممارسة للعنف العاري على المفكرين والمبدعين الذين لا يزالون يجدون أنفسهم ما بين مطرقة التطرف الديني وسندان السلطات السياسية. ولم يكن من الغريب - والأمر كذلك - أن يصدر حكم التفريق بين نصر حامد أبو زيد وزوجه بعد سنوات قليلة من وفاة يوسف إدريس، وهو الحكم الذي أصدرته محكمة الاستئناف في الرابع عشر من حزيران يونيو سنة 1995، وتبعه بالتأييد حكم محكمة النقض الذي صدر في صباح الاثنين الموافق الخامس من آب أغسطس 1996، أي بعد خمس سنوات فحسب من وفاة يوسف إدريس الذي بدا كما لو كان يتنبأ بالمستقبل الذي سيصنعه المتطرف الديني في قصته القصيرة - العلامة "اقتلها". وكان الحكم على نصر أبو زيد علامة فاجعة على دخول حرية التعبير في نفق مظلم، خصوصاً بعد أن أصبح الاجتهاد المغاير في دراسة الخطاب الديني ضرباً من الكفر والإلحاد والخروج على الملّة. ولم يكن الأمر - في التصاعد القمعي لعمليات خنق حرية التعبير - مقترناً بالخطاب الديني وحده، وإنما امتد ليشمل كل أشكال الإبداع والتفكير، فأخذنا نسمع منذ منتصف التسعينات عن دعاوى حسبة مرفوعة ضد ثلاثة وزراء في مصر: صفوت الشريف لإجباره على إخضاع التلفزيون إلى رقابة إسلامية، وعمرو موسى وزير الخارجية في ذلك الوقت بهدف "أسلمة" البروتوكول في العلاقات الخارجية، ووزير الصحة علي عبدالفتاح لموقفه من الختان. وكانت هذه الدعاوى موازية لدعوى إيقاف عرض فيلم "المهاجر" ليوسف شاهين، ونجاح هذه المحاولة في المحكمة الابتدائية وفشلها في محكمة الاستئناف. وجاء تموز يوليو 1995 بدعوى حسبة ضد نجيب محفوظ فيمدينة المنصورة، استناداً إلى بعض ما نشر في جريدة "الأخبار" القاهرية، وذلك في السياق الإرهابي الذي تعرض له نجيب محفوظ منذ محاولة اغتياله في الساعة الخامسة والربع تقريباً من مساء يوم الجمعة الرابع عشر من تشرين الأول أكتوبر 1994. وهو السياق الذي اشتدت وطأته بعد حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل، وبدأ بآراء أمثال عمر عبدالرحمن الذي أفتى بتكفير نجيب محفوظ صاحب "أولاد حارتنا" سنة 1989. وفي كتابات أمثال الشيخ عبدالحميد كشك الذي أفتى بالكفر نفسه في كتابه الذي أصدره عن نجيب محفوظ بعنوان "كلمة في الردّ على أولاد حارتنا - نجيب محفوظ" وأصدرته دار "المختار الإسلامي". وتزايدت الدعاوى القضائية المرفوعة من المتطرفين دينياً بذريعة "الحسبة" فشملت الجرائد والمجلات وعلى رأسها "روز اليوسف"، كما شملت أساتذة الجامعات، ومنهم عاطف العراقي أستاذ الفلسفة في جامعة القاهرة الذي اتهم بالخروج على صحيح الإسلام. حتى إعلانات الأفلام لم تنج من الدعاوى القضائية، ومنها الدعوة التي تسبَّبت في الحكم بحبس صاحب صالة سينما ثلاثة أشهر بسبب "أفيش" فيلم سينمائي. وأعلنت "أخبار الأدب" القاهرية أن هناك خمسين دعوى تفريق جاهزة ضد عدد من المثقفين، للحكم عليهم بما حكم به علي نصر أبو زيد. وهي دعاوى أعدَّتها لجنة لتكفير الكتَّاب التي ضمَّت بعض المحامين من رموز التطرف الديني. واقترن ذلك برفع دعوى حسبة ضد الشاعرين أحمد عبدالمعطي حجازي وعبدالمنعم رمضان، وخصصت "روز اليوسف" عدداً بتاريخ 27/8/1995 عن "نساء على قوائم التكفير". وكان ذلك هو السياق الذي انفجرت فيه حملة تكفير حسن حنفي في حزيران 1997، وذلك في السنة نفسها التي قُدِّم فيها كتاب سيد القمني "رب الزمان" إلى محكمة شمال القاهرة الابتدائية، فحكم القاضي بتبرئة الكاتب في أيلول سبتمبر 1997، الحكم الذي لم يمنع حملات التكفير المستمرة. وكان واضحاً أن ما يحدث في مصر يحدث في غيرها من الأقطار العربية، حتى لو كان التركيز الإرهابي على مصر له معناه وهدفه، فقد أصدرت محكمة كويتية حكمها النافذ بالسجن لمدة شهر على أستاذ جامعي - هو أحمد البغدادي - لأنه اجتهد اجتهاداً مغايراً للخطاب الديني السائد، فنال جزاءه الحبس الذي يرهب غيره، ويمنع من المضيّ في الاجتهاد. وكان الحكم في تشرين الأول سنة 1999، وفي سياق سبقته محاولات رقابة قمعية لاستبعاد الكتب المغضوب عليها من معرض الكويت للكتاب، وسبقه حكم بالسجن ستة أشهر صدر في مطلع عام 1999 على رئيس تحرير "القبس" الكويتية في ذلك الوقت، محمد الصقر، في قصيدة تتعلق بتوهّم الإساءة إلى الدين. وكان ذلك في السنة نفسها التي أثيرت فيها قضية مارسيل خليفة، ومعها شعر محمود درويش في قصيدة "أنا يوسف يا أبي" وما اقترن بها من طلب أصدره قاضي التحقيق في لبنانبعقوبة مارسيل خليفة بالسجن من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات. ولم ننتقل من عام 1999 إلى عام 2000 إلا ويطالعنا مطلع العام بالحكم بالسجن على الكاتبتين ليلى العثمان وعالية شعيب في الكويت. ونصل إلى شهر آيار مايو من العام نفسه لنواجه الضجَّة التي قامت حول إعادة نشر رواية حيدر حيدر "وليمة لأعشاب البحر" في مصر. وأنا لا أهدف - في هذا المقال - إلى إحصاء الحالات التي اقترنت بالمواقف المتزمتة أو المتطرفة أو القمعية التي أدت - ولا تزال تؤدي - إلى إعاقة حرية التعبير والتضييق عليها، وتزايد هذه المواقف على نحو يجعل المقارنة بأيام يوسف إدريس مقارنة بسنوات رحيمة بالقياس إلى السنوات التي تلتها، والتي شهدت محاولات اغتيال المثقفين والمبدعين، وهي المحاولات التي أودت بحياة أمثال فرج فودة وعبدالقادر علولة، وكادت تودي بحياة مكرم محمد أحمد ونجيب محفوظ. وكان اختراق القضاء موازياً لإنشاء مكتبات تتولى نشر كتب التطرف التي لم تخل من الهجوم على الرموز المقترنة بحرية الإبداع والتفكير، كما كان اختراق القضاء علامة على بروز الأدوار المتصاعدة للأجهزة الرقابية التي تعددت، وتبادلت الأدوار في عمليات قمع الإبداع الحر والتفكير المستقل إلى اليوم. وكما برز دور الجهاز الرقابي المرتبط بوزارة الإعلام في مصر، وهو الجهاز الذي اقترن بمنع مجلات من دخول مصر ومصادرة كتب إبداعية وفكرية ومنعها من التداول في مصر، برز الدور القمعي الذي يقوم به مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر، وهو المجمع الذي تصدَّر عملية المصادرة الرسمية لرواية "وليمة لأعشاب البحر" سنة 2000، وكان ذلك حين تلقَّى المجمع نص الرواية من مباحث أمن الدولة لإبداء الرأي فيها، فعُرض الموضوع على لجنة البحوث الفقهية التي كلَّفت اثنين من أعضائها بإعداد تقرير عن الرواية. وكان التقرير التكفيري مقدمة للبيان الذي أصدره شيخ الأزهر، يطالب فيه بمراقبة كل ما له علاقة بالدين، أو يشير إليه، في الأعمال الإبداعية والفكرية... والمفارقة المحزنة حقاً أن الجميع في هذه الأيام يتحدثون عن الإصلاح وضرورة البدء في عملياته الجذرية، تفعل ذلك الولاياتالمتحدة وحلفاؤها بعد أن اكتوت بنار الإرهاب التي أسهمت في تغذيتها، فكانت كارثة الحادي عشر من أيلول علامة فرضت نفسها على وعي العالم الأول الذي انتبه إلى أهمية التحالف الدولي لمواجهة الإرهاب بعد أن امتدت إليه نيرانه. والحكومات العربية تتحدث عن الإصلاح السياسي الذي يعني الديموقراطية، والإصلاح الاقتصادي الذي يعني حرية رأس المال، والإصلاح الثقافي الذي يعني إطلاق سراح العقل في مدى التفكير والوجدان في مدى الإبداع. ولم تترك المؤسسة الدينية الفرصة، فتحدثت هي الأخرى عن تجديد الخطاب الديني وإصلاحه. وجميع الذين يتحدثون عن الإصلاح يعرفون أنه لا إصلاح من دون حرية فكرية وإبداعية، وأن بداية تقدم أية أمة مقرونة بأفق الحرية المتسع لمفكريها ومبدعيها، وإلغاء القيود التي تعرقل خطواتهم الجسورة لصوغ خرائط عقلية وإبداعية جديدة وواعدة. ولكن، لا يزال ذلك كله واقعاً في باب الكلام الذي لا مصداق فعلياً له من الواقع، فلا تزال الصحف والمجلات التي نكتب فيها محتفظة بقلم الرقيب الذي يتدخل على الفور إذا ظن فينا الشطط أو الانحراف عن الجادة، ولا تزال المؤسسات الدينية جامدة في موقفها من حرية الإبداع والتفكير، ويبدو بعضها كما لو كان يستجيب إلى دعاوى الإصلاح استجابة المعاندة، فيمضي في إسرافه أو تطرّفه. ولا يزال الكثير من الدول العربية تراقب الكتب في معارضها، وتمنع عناوين كثيرة لأسباب سياسية أو دينية أو اجتماعية. وتزداد ميلودرامية المفارقة المضحكة المبكية مع صعود دعاوى الإصلاح الواردة من الخارج. ولا شك في أن حكَّامنا استمعوا مثلنا إلى حوار الرئيس بوش مع الصحافيين بعد انتهاء مؤتمر الثماني الكبار في مساء العاشر الماضي من حزيران يؤكد أن هناك ثوابت لا يمكن التنازل عنها وهي حرية الصحافة المقترنة بحرية الكتابة، وحرية الأديان على كل المستويات. وكنت أسمع كلام الرئيس الأميركي الذي لا أثق فيه، ولا أثق في تتابع الحكومات الذي جاء في سياقها، وأنا أتساءل عن إمكان أن يتحمس رؤساؤنا حماسة الرئيس الأميركي في الحديث عن الحريات، وأن يتقبَّلوا مثله النقد الذي ينهال عليه في بلده، وأن يعملوا على توسيع مساحة الحرية في بلدانهم، ويتحمسوا في القضاء على عوائق هذه الحرية. وكانت الإجابة المتكررة هي استحالة هذا الإمكان، فطبائع الاستبداد قد تجمَّدت، ودعاة التعصب رسخوا واتسعوا بما يخيف، ونحن لا نزال نحلم بمستقبل نرجو ألا يتحول إلى كابوس، ونتذكر عبارات يوسف إدريس عن الحرية التي لا تكفي الإبداع، والتي تتقلص على مستويات كثيرة وفي مجالات عدة - على رغم دعاوى الإصلاح - إلى الجسد الذي يدفع السؤال الموجع: أين حرية التعبير في العالم العربي الذي نعيشه؟