قضيت السنوات 1935-1939 في بريطانيا أطلب العلم في جامعة لندن. في السنة الأولى كان رفيق الدراسة عيسى نخله فلسطين الذي كان يدرس القانون. في سنة 1936 انضم إلينا عبدالعزيز الدوري وعبدالغني الدلي وعبدالرحمن البزاز العراق وفرحات زيادة وموسى عبدالله الحسيني. لم نكن الوحيدين لكن نحن جمعتنا أحوال وأسباب، فكان بيننا صداقات متنوعة الاتجاه خالية من الغرض. كان عبدالعزيز الدوري يدرس التاريخ الاقتصادي في دنيا العرب والإسلام. والدلي كان يدرس الاقتصاد والسياسة وعبدالرحمن البزاز انصرف الى القانون كما اتجه فرحات زيادة. موسى الحسيني كان اتجاهه الأدب العربي وكان قد درس في الأزهر قبلاً. أما انا فكنتُ أدرس تاريخ اليونان والرومان. الفترة التي اتحدث عنها 1935-1939 كانت بالنسبة لعالمنا العربي فترة تتقلب فيها الاحوال على نحو غريب. فلسطين كان وعد بلفور قد تعمقت جذوره فيها. لبنان وسورية كانتا تعانيان مشكلات متنوعة، فيها الكثير من القسوة على أيدي فرنسا. العراق كان يحاول تثبيت اقدامه دولة مستقلة تحت غطاء بريطاني. مصر كان يتأرجح سياسيوها بين الوضع البريطاني القوي فيها على رغم معاهدة الشرف التي عقدها مصطفى النحاس باشا مع بريطانيا سنة 1936. والجزيرة كان يمنها يتمتع بحكم الإمام يحيى الذي كان يمنع طائراً من التحليق في بلده إلا باذنه. والملك عبدالعزيز آل سعود كان قد ضمّ شمل نواح كثيرة من الجزيرة بما في ذلك الحجاز في المملكة العربية السعودية 1932 وكان يحكمها بسيف العدل الشديد فنشر الأمن في ربوعها. لكن البلاد العربية لم تكن بعيدة من الاهتمام إن لم يكن الحب الغربي الشديد لما فيها من ثروات. وباقتراب السنة 1939 ذلك ان الحديث عن حرب أوروبية الذي طل بقرنه سنتي 1936 و1937، زاد قرناه قوة في السنتين التاليتين اذ ان الطبول اخذت تقرع سنة 1938، حتى يتبدل صوتها بصوت المدافع في سنة 1939. أحسب ان كلامنا كان يدور فرادى وجمعاً حول هذه الصلة بين بلادنا وبريطانيا أولاً ثم مع فرنسا. لم تكن اهتماماتنا ببلادنا على درجة واحدة. فموسى عبدالله الحسيني، الذي يمتّ الى الزعامة الفلسطينية يومها بصلة نسب قوية كان الاكثر، لا أقول عناية، بل انغماساً في القضية الفلسطينية. ولم تكن علاقاتنا الواحد بالآخرين على درجة واحدة. لكن أود ان أشير الى ان موسى وعيسى نخله وأنا كنا نحاول ان نخدم قضيتنا. كان في لندن مكتب بسيط يسمى المكتب العربي عمله يدور حول الشأن الفلسطيني. رئيس المكتب عزت طنوس. كان من الطبيعي ان تكون لموسى صلة بالمكتب. ومن طريقه انضممت أنا وفرحات الى القيام بواجب نحو فلسطين كان عيسى نخله قد سبق له التعرف الى المكتب وأهله. أود اليوم ان أذكر ما آل اليه أمر أولئك الذين ذكرتهم في مطلع المقال اذ اننا تفرقنا كلنا في النهاية عن أوطاننا إلا موسى عبدالله الحسيني. كان الأول بيننا الذي بلغ أعلى منصب يمكن ان يصل اليه أولئك الذين يحترفون السياسة، هو عبدالرحمن بزاز. بعد ان عاد الى العراق وعمل في الشأن العام استاذاً للقانون آلت اليه عمادة كلية الحقوق في بغداد. واهتمامه المباشر وانغماسه في السياسة حمله الى رئاسة الوزارة. عبدالرحمن أصيب في ما بعد بمرض عضال انتهى به الى الموت كان الثاني الذي غيبه الموت أما الأول فكان موسى عبدالله الحسيني والثالث عيسى نخله. عبدالعزيز الدوري أنهى دراسة البكالوريوس 1939 لكنه تأخر بعض الوقت في العودة، فأتم العمل للدكتوراه. ورأيته للمرة الأولى بعد أيام التلمذة سنة 1951 في اسطنبول لمناسبة عقد مؤتمر المستشرقين الدولي. وبعد عمل تعليمي في العراق وعمادة الكلية ترأس جامعة بغداد. وأصابه سيف الغضب الذي أصاب الكثيرين من مثقفي البلاد، فترك العراق وزارنا استاذاً كريماً في الجامعة الأميركية في بيروت، ثم استقر في الجامعة الأردنية، وما زال هناك. لكن المهم ان عبدالعزيز الدوري هو اليوم - ومنذ فترة طويلة - علم من أعلام التاريخ العربي الإسلامي. عبدالغني الدلي عاد الى بغداد. درّس بعض الوقت لكن السياسة جذبته. عندما زرت العراق للمرة الأولى سنة 1956 كان الدلي وزيراً كان البزاز لا يزال عميداً لكلية الحقوق. علّم الدلي سنة في الجامعة الليبية في بنغازي، لكنه شاف فيها نجوم الظهر. ولما آن له ان يعود الى بغداد، عاد الى المجال السياسي وكان سفيراً لبلاده في المغرب. وهو اليوم متقاعد بعد ان استقر في لندن وقد زارني في بيروت الأسبوع الماضي ما حرك هذه الذكريات. أنا عدت الى فلسطين وانصرفت الى عملي الأساسي وهو التدريس. كنتُ مدرساً في الكلية العربية والكلية الرشيدية في القدس. بقيت هناك الى سنة 1947. حتى ان عدت الى لندن للحصول على الدكتوراه. بعد نكبة فلسطين 1948، بدأت أبحث عن عمل وكان من حسن حظي انني عثرت عليه في الجامعة الأميركية في بيروت سنة 1949. وبقيت في لبنان. فرحات عاد الى فلسطين. عمل في القضاء بعض الوقت. ثم رحل الى الولاياتالمتحدة. عمل في جامعة برنستون ثم عهد اليه بادارة او لعله بانشاء دراسات الشرق الادنى في الجامعة الرئيسة في ولاية واشنطن. ولا يزال يقيم في الولاياتالمتحدة. عيسى نخله ذهب الى الولاياتالمتحدة. لا أذكر تماماً فيما اذا كان انتقل اليها من لندن رأساً أم بعد عودة قصيرة لفلسطين لكنني أرجح الأول من الأمرين. هناك عمل في سبيل قضية فلسطين على جبهات كثيرة منها أروقة الأممالمتحدة. وقد توفي قبل زمن قصير. أما موسى عبدالله الحسيني فقد كانت السنوات التي عقبت تفرقنا من لندن مشتتة. لم يغادر لندن قبل الحرب، وبقي هناك بعض الوقت ثم انتقل الى ألمانيا. فضلاً عن عمل سياسي في خصوص فلسطين، فقد حصل على دكتوراه في التاريخ الإسلامي. وتزوج سيدة ألمانية، وهو الوحيد بيننا الذي تزوج أجنبية. نفي الى سيشل في أحوال لم تتضح لي تماماً، لكنه عاد الى فلسطين وسكن القدس وكان يعمل في سبيل قضية فلسطين. وقد التقينا عدداً من المرات في القدس. عندما اتضح انني سأترك عملي في الكلية الرشيدية في القدس سعيت له فعيّن مكاني. بعد استقراري في بيروت زارني موسى كثيراً، وزرته أنا في عمان، ولو ان هذه الفترة لم تتجاوز السنتين. في سنة 1951 اغتيل الملك عبدالله ملك المملكة الأردنية الهاشمية. واتهم موسى عبدالله الحسيني بالمؤامرة وحوكم وحكم عليه بالاعدام. كنا نأمل ان يكون ثمة نقض للحكم في الاستئناف أو ان يكون هناك تخفيف للحكم بالذات. في مساء يوم من ايام شهر آب اغسطس سنة 1951، كنت في زيارة للجزائر وكانت مدينة قسنطينة محطتي الأولى في ذلك القطر. مساء ذلك اليوم كنت أجل في مقهى. تناولت الجريدة لأقرأ فيها خبر اعدام موسى عبدالله الحسيني.