ما أن بدأت الأخبار تتردد بعد أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001م بأن أميركا تعد لضرب العراق، وتتوعد بمعاملة العالم العربي بالقوة، لأنّ العرب لا يفهمون إلاّ القوة، ولا يعرفون غير الحكم الاستبدادي، وفي الوقت الذي ظهر بعض الأصوات ينادي بأن جاء عهد الإمبراطورية الأميركية، ولا يمكن تحقيق ذلك إلاّ بأن تكون أميركا قوية عنيفة تحقق المقولة المشهورة: "كن عنيفاً وإلاّ فارحل" Get tough or get out وقد عرف العالم أن كل ما سبق لم يكن إلاّ بتحريض من المحافظين الجدد الذين يتولون أهم المناصب في إدارة الرئيس بوش الابن من أمثال وليام كريستول، وبوب ولفوويتز وريتشارد بيرل وكونداليزا رايس وديك تشيني، يشاركهم عدد من المستشرقين وعلى رأسهم المستشرق الأميركي، الجنسية، برنارد لويس. ودانيال بايبس وكريس كروتهامر وكيرتز وإن كان بعضهم يعد خبيراً في الشرق الأوسط وليس مستشرقاً مثل لويس وكان رد الفعل في العالم العربي قيام عدد من الباحثين والعلماء بالكتابة حول السياسة الخارجية الأميركية وارتباطها بالاستشراق. وكان رأي البعض أن الاستشراق قد "عاد على طائرة ب 52"، الذي يقول فيه خيري منصور القدس العربي 2/12/2001م "إن عودة الاستشراق الآن هي المرادف النّظري والمعرفي لعودة الاستعمار، على رغم أن كليهما كانا على وشك الغروب". وكتب عبد الوهاب الأفندي مقالة بعنوان: "الاستشراق ما زال حياً وبخاصة في العراق". وكتبت كاتبة أخرى مقالة بعنوان "الاستشراق في خدمة الإمبراطورية". وكتب عادل عوض بعنوان "تشيني يستفهم عن الشرق الأوسط من فؤاد عجمي وبرنارد لويس" القدس العربي 2/9/2002م يقول فيه: "قد يُعد من قبيل التغيير أيضا معرفة أن الإدارة الأميركية قررت الإصغاء الى آراء بعض المتخصصين من أمثال عجمي وبرناد لويس أشهر الغربيين الذين كتبوا عن الإسلام والعرب". ويضيف الكاتب: أن لويس قد استدعي إلى البيت الأبيض سراً، لكي يجيب على سؤال بوش: لماذا يكرهنا العرب والمسلمون؟". فأي استشراق هذا الذي عاد وأي استشراق ذاك الذي ولّى؟ وأي استشراق هذا الذي يتعرض إلى هجوم قاس من قبل بعض المتخصصين في دراسات الشرق الأوسط وبخاصة من اليهود والمتصهينين؟ إن الاستشراق لم يغب حتى يعود مع احترامنا وتقديرنا لمن أبّنوا الاستشراق وأعلنوا وفاته. نعم تغير الاستشراق إلى حد ما وتطوّر وازدادت التخصصات العلمية التي تدخل في دراسة عالمنا العربي الإسلامي، وأخذ بعض الباحثين الغربيين وبخاصة الأميركيين يتنازلون عن الروح الإمبريالية، ورفض بعضهم أن يُستخدم لفرض الهيمنة والسيطرة الأميركية بخاصة والأوروبية بعامة على العالم الإسلامي. لكن كثيراً من أقسام دراسات الشرق الأدنى والأوسط لا تزال تعمل بكل قوة على استمرار النهج الاستشراقي القديم، فالمصادر الأساسية للباحثين والطلاب في أقسام دراسات الشرق الأوسط إنما هي كتب جولدزيهر وشاخت ومارجليوت وهاملتون جب، وجوستاف فون جرونباوم، ومايكال كوك وإبراهام يودوفيتش وفاتيكيوتس وسنوك هورخرونية ونيكلسون وتوماس آرنولد، وغيرهم. ومن يرغب في التأكد من هذه المعلومات عليه أن يدخل أحد المكتبات التجارية الملحقة بالجامعات الأميركية ليقرأ عناوين الكتب المقررة على طلاب أقسام دراسات الشرق الأوسط أو الأدنى. وقد تساءلت ذات مرة ألم يكتب في اللغة الإنكليزية كتاب بعد كتاب توماس آرنولد الذي نشر أول مرة عام 1907م؟ والموضوعات المختارة للدراسة هي عينها التي درسها المستشرقون والآراء حول القرآن والسنّة إنما هي آراء المستشرقين القدامى مع بعض الإضافات التي تناسب العصر في الطريقة والأسلوب. والاستشراق أو دراسات الشرق الأدنى في الجامعات الأميركية تغلغل فيها النفوذ اليهودي ونفوذ جماعات الضغط الصهيونية منذ عهد بعيد فها هي الجماعات اليهودية تدخل الجامعات الأميركية من خلال الطلاب ومن خلال الأساتذة. فقد استطاع اللوبي اليهودي الصهيوني أن يوزع ثلاثة إلى خمسة آلاف طالب على الجامعات الأميركية في الولايات جميعها وذلك ليحققوا للصهاينة اليهود معرفة عميقة بهذه الأقسام، ومن فيها من الأساتذة وكذلك ما يتم فيها من نشاط علمي مهجي ولا منهجي. ولا يتوقف الأمر على الطلاب فهناك عدد كبير من الأساتذة ذوي الميول اليهودية الصهيونية ينتشرون في معظم الجامعات الأميركية، ومراكز البحوث والمعاهد العلمية ومراكز التفكير Think Tanks، وبالإضافة إلى الأساتذة المقيمين هناك عدد كبير من الأساتذة الزائرين من إسرائيل الذين لا تكاد تخلو منهم الجامعات الأميركية والأوروبية. وفوق ذلك كله فإن الحضور الإسرائيلي في المؤتمرات الدولية والمحلية والإقليمية أمر لا يحتاج إلى دليل. ومن الأمثلة على ذلك أن إسرائيل أرسلت أكثر من أربعين باحثاً إضافة إلى اليهود من الجامعات الأوروبية والأميركية، إلى المؤتمر العالمي الأول حول دراسات الشرق الأوسط الذي عقد في مينز في ألمانيا في شهر أيلول 2002م بينما كان الحضور العربي الإسلامي مخجلاً في عدده ونوعه. والسيطرة الصهيونية اليهودية في مجال الدراسات العربية الأميركية لا نحتاج فيها إلى شهادة إدوارد سعيد، مع أن شهادته تستحق الاحترام والتقدير والثناء، ولكن لنذكر بسرعة كتاب بول فندلي "من يجرؤ على الكلام؟" الذي تناول فيه في فصلين سيطرة اليهود الصهاينة على هذا المجال وكذلك محاربتهم لأي توجه لتقديم عرض متوازن لقضايا العالم العربي الإسلامي في الجامعات الأميركية ومثال ذلك ما حصل للدكتورة شيلا سكوفيل في جامعة أريزونا بمدينة توسان حتى اضطرت للاستقالة وربما مغادرة الولاياتالمتحدة الأميركية الفصل السابع والثامن من كتاب فندلي. ولمعرفة المزيد عن السيطرة اليهودية الصهيونية يمكننا الرجوع إلى التقرير الذي أعدّه الأميركي المسلم الحاج تعليم على T. B. Irving الذي نشر في كتاب بحوث في الاستشراق الأميركي المعاصر لكاتب هذه السطور يؤكد هذه السيطرة. هذا عن الاستشراق الذي عاد أما الاستشراق الذي بدأ يتعرض للهجوم بعد أحداث الحادي عشر من أيلول فهو الاستشراق الذي يزعم المهاجمون أنه لم يفلح في تنبيه أميركا إلى إمكان وقوع هجوم أيلول 2001م من قبل من نسبوا إلى الشرق الأوسط بعامة وإلى المملكة العربية السعودية بخاصة. الاستشراق الذي ازداد الهجوم عليه إنما هو الاستشراق الذي يحاول أن يقدم وجهات نظر متوازنة حول القضية الفلسطينية وما تقوم به إسرائيل من أعمال وحشية ضد المواطنين الفلسطينيين من قتل وتشريد وهدم البيوت وبناء جدار الفصل العنصري، والإصرار على قتل كبار قادة المنظمات الإسلامية. والاستشراق الذي يهاجم هو الاستشراق الذي ينادي بعدم اعتبار كل المسلمين أعداء للغرب وأعداء للحضارة والتحديث. إن أي صوت معتدل في مثل هذه القضايا يتعرض للنقد الشديد وتسفيه الرأي والمحاربة. هذا الهجوم على الاستشراق تمثل في كتاب صدر بعد أشهر من أحداث أيلول وهو كتاب الباحث اليهودي مارتن كريمر - تلميذ برنارد لويس - رئيس معهد موشيه ديان لدراسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في تل أبيب السابق والذي صبّ فيه جام غضبه على الدراسات الشرق أوسطية لأنها لم تستطع أن تتنبأ بأحداث الحادي عشر من أيلول. وفي كتابه انطلق ليهاجم عدداً كبيراً من الباحثين والعلماء المتخصصين في دراسات الشرق الأوسط وعلى رأسهم إدوارد سعيد وغيره مثل روجر أوين من جامعة هارفارد. ولم يتوقف الهجوم على الاستشراق أو دراسات الشرق الأوسط عند حد كتاب كريمر بل إن دانيال بايبس المتخصص في دراسات الشرق الأوسط، ومؤسس مجموعة الشرق الأوسط في فيلادلفيا Middle East Forum أنشأ موقعاً على الإنترنت لمتابعة دراسات الشرق الأوسط ونشر في أوساط هذه الدراسات تشجيعاً لمن يقدم نقداً لأساتذة هذا الفن. فبدأت المقالات تظهر في الموقع تنتقد الكثير من أساتذة دراسات الشرق الأوسط. وقد قدم الموقع عدداً كبيراً من هذه المقالات أذكر منها مقالة ستانلي كيرتز Stanley Kurtz بعنوان "القائمة السوداء لدراسات الشرق الأوسط" يمتدح فيها الجهود التي بذلها دانيال بايبس لمتابعة دراسات الشرق الأوسط، ومراقبة أساتذتها لمعرفة من يبث الآراء التي تخالف السياسة الأميركية وتنتقد الحكومة الأميركية، وتعريف الجمهور بما يحدث في هذه الدراسات وكيف تنفق أموال الحكومة الأميركية على أقسام علمية يخالف أساتذتها السياسة الأميركية أو ينتقدونها. وكتب نوفيل دو أتكن ودانيال بايبس مقالة طويلة بعنوان "دراسات الشرق الأوسط ما الخطأ الذي حدث؟" نشرت في مجلة "أسئلة أكاديمية" شتاء 1995م يتحدثان فيها عن العديد من القضايا في دراسات الشرق الأوسط وكأنها دفاع عن عدد من الباحثين في دراسات الشرق الأوسط وعلى رأسهم برنارد لويس وفؤاد عجمي وجوديث تكر وغيرهما وتوجيه النقد العنيف الحاد لإدوارد سعيد ويفون حداد وجويل بنين وغيرهم. وإن أخطر ما يتعرض له مجال دراسات الشرق الأوسط أن ينادي هؤلاء المحافظون الجدد أو المدافعون - بزعمهم - عن الموضوعية ومصالح الولاياتالمتحدة بإنشاء مجلس حكومي يقره الكونغرس الأميركي ومجلس النواب لمتابعة دراسات الشرق الأوسط في الجامعات التي تحصل على دعم الحكومة الأميركية التي زادت مقدار دعمها لهذه الدراسات عندما اكتشفت في كل من عام 1990م و عام 2001م أنها تحتاج إلى مزيد من المتخصصين في اللغات الأجنبية وبخاصة اللغة العربية فقدمت المنح لهذه الدراسات مما يجعل طلاب اللغة العربية يتضاعفون في العديد من الجامعات. وهذا المجلس إنما هو للمتابعة والملاحظة والتقويم لأداء الجامعات التي تحصل على الدعم الحكومي. ولكنه فيما لو استولى عليه المحافظون الجدد - وهو المتوقع - سيكون سيفاً مصلتاً على رؤوس المتخصصين وسيعيد أميركا إلى المكارثية. ولم يسكت أساتذة هذه التخصص بل إنهم كتبوا ينتقدون هذا التوجه الخطير في تحويل أميركا إلى دولة من دول العالم الثالث في المراقبة والمتابعة والتحسس حتى إن المئات من الأساتذة أرسلوا إلى الموقع الذي أسسه بايبس يطلبون أن يضمهم إلى القائمة السوداء. ولعل هذا الموقع وهذه الحملة في النزع الأخير. وإن كان من المعروف عن مثل هذه الجماعات أن لا تتوقف. وإن الشرفاء من الأميركيين الذين لا ينطلقون من العداء للإسلام والأمة الإسلامية، ستسود وجهة نظرهم. * مؤسس مركز المدينة لدراسات وبحوث الاستشراق - السعودية