يحدث شيء ما. يحدث تغيير في العلاقات الدولية وفي كيفية تعاطي إدارة جورج دبليو بوش مع الشركاء والمنافسين، مع الأصدقاء والأعداء. العراق يمر بحدث تاريخي بالتأكيد، على رغم أنه انتقالي وهش. فلسطين على منعطف قد يأتي لها بدولة مستقلة أو قد يرميها فريسة للمزيد من التحايل والتفكك والوعود الزائفة. الإصلاح بات وعداً في المتناول، لكنه يبقى سجين تردد حكومات عربية ورهينة لتطور فكر ومزاج جورج دبليو بوش وإدارته المتأرجح بين عقلانية تجنب الاملاء وبين اندفاعية أحداث التغيير عبر حروب وفوضى. معادلة الإصلاح كشرط مسبق لحل النزاع العربي - الإسرائيلي بدأت تتراجع شأنها شأن معادلة معالجة النزاع العربي - الإسرائيلي كشرط مسبق للإصلاح، على رغم أن المعسكرين المتمسكين بالمعادلتين المتضاربتين مستمران بالدفع بهما إلى الأمام. شيء ما يحدث. إنما الفاعل المجهول، المسمى الإرهاب، لا يزال يمتلك الأدوات إلى التعطيل، أو إلى فرض الاستدراك كما يرى البعض. المقاومة للاحتلالين، الأميركي للعراق والإسرائيلي لفلسطين، فرضت عليهما بعض اليقظة وتصحيح الأخطاء، إنما غاياتها وأهدافها مختلفة عن مشروع الإرهاب، ومن مصلحتها الاختراق العلني معه. بما يحدث عالميا وفي منطقة الشرق الأوسط والخليج حدث قيد الفرز أمام الاعتدال فرصة اختطاف مصيره من التطرف. من أوروبا إلى مجلس الأمن الدولي في نيويورك إلى القمة الصناعية في سي ايلاند، حاكت إدارة جورج دبليو بوش في الأسبوعين الماضيين نسيجاً للمصالحة والاجماع وتراجعت عن نمط الغطرسة والاملاء. ما حدث في مجلس الأمن أثناء التفاوض على قرار مستقبل العراق، الذي تبناه المجلس يوم الثلثاء، كشف مدى استعداد الإدارة الأميركية لقطع شوط كي تضمن الاجماع. كشف أيضاً مدى تقبّل الدول التي عارضت حرب العراق لطي صفحة الخلاف والانقسام، إنما بحرص تام على عدم دخول الورطة العراقية بقوات. قنّن مجلس الأمن، بقراره، العلاقة الأميركية - العراقية في خانة الثنائية، بشرعية دولية، وبصلاحيات باركها شملت الشراكة الاستراتيجية وحق استخدام كل الاجراءات الضرورية لمساعدة العراق في مسيرته إلى الديموقراطية كما لمكافحة الإرهاب. لا سابقة للقرار 1546 الذي يجمع بين تأكيد سيادة حكومة موقتة وبين تشريع بقاء قوات أجنبية بطلب من حكومة"في الانتظار"لم تنتقل السيادة إليها رسمياً بعد. ولم يسبق لمجلس الأمن أن حجب صلاحيات شن حرب ليأتي بعد سنة ونصف سنة ويضفي الشرعية على نتائجها. إلى حد ما، تداخل التفاؤل بمستقبل العراق مع التشاؤم من واقعه في اعتبارات كثير من أعضاء المجلس. فإذا كان العراق ما زال في ورطة، لتبقى الورطة أميركية - بريطانية حصراً من دون الالتزام بالمساعدة على انقاد الدولتين اللتين سارعتا إلى الحرب بلا صلاحية دولية. وإذا كان العراق على طريق التعافي، ليكن للقار 1546 فضلاً في دعم العملية السياسية واخراج العراق رسمياً من الاحتلال. هاتان الفكرتان راودتا خواطر عديد من أعضاء مجلس الأمن أثناء صوغ قرار مستقبل العراق. الولاياتالمتحدة استفادت على أي حال، كما الحكومة العراقية الموقتة. والقرار يعد بفائدة كبيرة للعراق إذا لم يقتحمه مجدداً صقور وزارة الدفاع الأميركية، وإذا نفذت الحكومة الموقتة حقاً وعود العملية السياسية. هذه العملية تشمل انتخابات عامة بحلول 31 كانون الأول ديسمبر 2004 أو في"موعد لا يتجاوز في أي حال 31 كانون الثاني يناير 2005"، تؤدي إلى حكومة انتقالية وصوغ دستور دائم"تمهيداً لحكومة منتخبة انتخاباً دستورياً بحلول 31 كانون الأول 2005. القوات الأميركية التي تعمل الآن"كقوة متعددة الجنسية"بقيادة أميركية، باقية في العراق حتى استكمال العملية السياسية حين تنتهي ولايتها، حسب قرار مجلس الأمن. هذا إذا لم تطلب إليها الحكومة العراقية المغادرة قبل ذلك الموعد. والولاية قابلة للتمديد بطلب من الحكمة العراقية. أحد التعديلات المهمة في القرار أعطى الحكومة الموقتة الحالية صلاحيات السيادة الكاملة بما في ذلك حق طلب مغادرة القوات الأجنبية. في نصوصه الأولى، حجب مشروع القرار هذه الصلاحية عن الحكومة الموقتة وحصرها في الحكومة الانتقالية التي ستسفر عنها الانتخابات بعد سبعة أشهر. لكن وزير الخارجية العراقي السيد هوشيار زيباري نجح في اقناع الولاياتالمتحدة وبريطانيا بتغيير اللغة إلى"حكومة ذات سيادة"بدلاً من الحكومة"الانتقالية"، وتأكد من تصنيف الحكومة"الموقتة"حكومة سيادية. نجح أيضاً في ايضاح صلاحية الحكومة السيادية في السيطرة على الموارد الطبيعية وانفاق أموال العائدات النفطية، فنص القرار على أن هذه الصلاحية"حصراً"للحكومة العراقية - موقتة كانت أو انتقالية أو دائمة. العلاقة العسكرية بين الحكومة العراقيةوالولاياتالمتحدة، حسب القرار، علاقة تنسيق وتشاور وثيقين بين القيادتين العسكريتين، بما في ذلك عند القيام ب"عمليات هجومية حساسة"، يحق للقيادة العراقية ألا تشارك في عمليات للقوة المتعددة الجنسية، إذا شاءت. إنما يحق للقوة المتعددة الجنسية بقيادة أميركية أن تقوم بعمليات هجومية حساسة من دون اشتراط الموافقة العراقية المسبقة عليها. وهنا سيكون الامتحان الصعب للحكومة العراقية الموقتة، فهي مهددة بأن يُنظر إليها كشريك للاحتلال، حتى وإن ازيلت صفة الاحتلال رسمياً، إذا شاركت في العمليات العسكرية"الحساسة". وهي قد تُتهم بالافاعلية إذا رفضت المشاركة وفشلت في اقناع القيادة الأميركية بالعدول عن عملية حساسة. ستكون هناك عمليات هجومية، بالطبع، إنما من الضروري للولايات المتحدة الآن الاستماع إلى الرأي العراقي بدقة. عليها أن تتجنب الانسياق وراء الفكرة البائسة لمكافحة الإرهاب. فإذا تمسكت الإدارة الأميركية بهذا المنطق الخطير، أنها تغامر بالعراق كما تغامر بمستنقع لها فيه. هناك جيوب إرهابية في العراق، إنما هناك أيضاً مقاومة للاحتلال ومعارضة للحكومة الانتقالية وكيفية تشكيلها. الخلط بين الاثنين خطير جداً، كما التعامل معهما بمعيار عسكري واحد. ويُستحسن ان يتخلى جورج دبليو بوش عن خطابه السياسي الذي يدمج مساعدة العراق في العملية السياسية بالحرب على الإرهاب. أهم حليف ضد استخدام العراق ساحة للإرهاب هو الشعب العراقي. في هذا المنعطف بالذات، من الضروري الاستثمار في هذا الشعب ليتحول من الاحباط والشكوك والخوف إلى التفاؤل والثقة والمسؤولية. مساهمات الادارة الاميركية والحكومة العراقية الموقتة في مثل هذا التحول هي الأهم، انما هناك ايضاً واجبات دولية واقليمية بلا تحفظ لتأمين الوظائف للعراقيين وللاستثمار في تطلعاتهم واحلامهم. على البيئة العربية بالذات مسؤوليات مميزة. عليها اتخاذ الاستعدادات لتلبية دعوة الحكومة العراقية للمساعدة في قوات حفظ سلام مستقبلاً. وعليها البدء حالاً في مساعدة الشعب العراقي عبر استثمارات مالية توفر لهم فرص العمل كي لا تؤدي البطالة الى إفشال مسيرة العراق نحو التعافي. الفرد العراقي يريد ان يكسب لقمة العيش. لا يريد أكياس طحين وهبات ومعونات عابرة. لا يستفيد من"التضامن"معه أو على حسابه طالما في شعارات استهلاكية. هذا شعب عنده حساسية ضد الشفقة تعب من المزايدة عليه. تحرر من الاستبداد وسيتحرر من الاحتلال. وهو أفضل استثمار عربي في مكافحة الارهاب وهزمه ومنع تصديره. لذلك، فإن المصلحة العربية، وليس فقط العراقية، تقتضي تمكين الشعب العراقي بوظائف واستثمارات تعزز الثقة والتفاؤل. فالعراق ساحة مؤهلة للتخلص من الاحتلال كما تخلص من الاستبداد، ولانتصار الاعتدال على التطرف بكل أشكاله. بعض الدول المجاورة يخاف من نجاح التجربة العراقية وانعكاساتها عليه ويخشى ان يؤدي النجاح الى تباهي الإدارة الاميركية بصحة الحروب الاصلاحية أمام هذا البعض خياران: إما المغامرة بالعزل كما بضربات عقابية اذا استخدمت الحدود قناة عبور للمتطوعين من شبكة"القاعدة"وأمثالها الى العراق كي يكون مستنقع انهيار عظمة الولاياتالمتحدة الاميركية أو الاستثمار في اصلاحات داخلية ضرورية كما في العزم العراقي على التخلص من الاحتلال، والانتصار على التطرف، باستراتيجية تدريجية واعية ورؤيوية. وللتأكيد، هذه ليست دعوة الى ثقة تلقائية بالإدارة الأميركية أو الى مباركة حربها في العراق. هذا ليس حكماً مسبقاً بأن العراق لم يعد مرشحاً للانهيار وحروب اهلية وحروب الآخرين في عقر داره. وبالتأكيد، هذا ليس نداء الى تقبل الانعطاف التلطيفي الآتي من الإدارة الاميركية على انه انحسار دائم للمتطرفين فيها وللمحافظين الجدد والصقور الرابضين حالياً بعد اخطائهم الفادحة في العراق. انما ما يحمله الهجوم التلطيفي والاستعداد لتصحيح الاخطاء، وحشد الاجماع الدولي، والمصالحة مع أمثال فرنسا والمانيا، والتراجع عن لغة الفرض والإملاء، ليست أمور عابرة تجاهل هذه التطورات سيء، واسوأ منه عدم استغلالها والتأثير فيها لجعلها دائمة. ففي هذا فسحة لإبقاء المتطرفين الاميركيين في زاوية الانحسار وربما العزل مستقبلاً. انها فرصة للاعتدال بعدما استولى التطرف على الساحات الاميركية والاسرائيلية والعربية. وهي جزء من الاصلاح الضروري في منطقة الشرق الأوسط كما في الولاياتالمتحدة. القادة العرب الذين حضروا قمة الدول الصناعية الثماني في سي ايلاند هذا الاسبوع عملوا على اصلاح مشروع الاصلاح الاميركي. ردود الفعل العربية فرضت على الادارة الاميركية اعادة النظر في مشروع"الشرق الأوسط الكبير"الذي حمل نبرة الغطرسة وأعفى اسرائيل من كل محاسبة. الأوروبيون في القمة ايضاً عملوا على اصلاح المنطق الاميركي الخاطئ القائم على اشتراط الاصلاح الديموقراطي العربي كشرط مسبق لحل النزاع العربي - الاسرائيلي. تركيا حذّرت بلسان رئيس وزرائها رجب طيب اردوغان من فشل المشروع الاميركي برمته ما لم تتوقف الادارة الاميركية عن غض النظر عن التجاوزات الاسرائيلية، قال:"لكي نقدم منظوراً ديموقراطياً حقيقياً واستراتيجية اصلاح للشرق الأوسط وافريقيا، علينا اتباع سياسات تنهي العنف في الصراع الاسرائيلي - الفلسطيني، وتعيد الوضع في العراق الى حالته الطبيعية". بسبب"الاحتجاج والمساهمة في احداث تغيير، تحول مشروع الشرق الأوسط الكبير الى اعلان"الشراكة من اجل تحقيق تقدم ومستقبل مشترك"على"خطة عمل"تتضمن الخطوات العملية نحو تعزيز الديموقراطية وحقوق الانسان في المنطقة. تشديد اعلان قمة الثماني على الحاجة الى حل النزاع العربي - الاسرائيلي كجزء من اصلاح المنطقة ليس كافٍ، لكنه أفضل بكثير من تحييد هذا الملف، كما أراد متطرفون في الادارة الاميركية، لإعفاء اسرائيل من أي استحقاقات. حاجة المنطقة العربية للتحديث ملحة، والتحديث مصلحة عربية، أولاً، يتطلب الإسراع باجراءات حكومية ومؤسسات ديموقراطية وبالكف عن تخوين الاصلاحيين العرب. ضمن ما يحدث على الساحة العربية صفحة جديدة من المعركة بين صفوف الاعتدال وصفوف التطرف. بالامس القريب طغى فكر التطرف وعقيدة التدمير على فكر الاعتدال وعقيدة البناء، وتمكين التدميريون والمتطرفون من عزل واضعاف الاصلاحيين والمعتدلين. تمكنوا من ذلك نتيجة طغيان التطرف الاميركي على الاعتدال الاميركي مما سحب كل الأوراق من المعتدلين العرب. اصلاح السياسة الاميركية نحو العراق يبشر باعتلاء الاعتدال المنصة، عربياً واميركياً. الحلقة الأصعب ستكون اصلاح السياسة الاميركية نحو اسرائيل، المنحازة لها نوعياً. ففي هذا الأمر، تعتلي الكلمة الاسرائيلية على الكلمة الاميركية، خصوصاً في المرحلة الانتخابية، رغم ذلك، فإن الشراكة بين التطرف الاميركي والتطرف الاسرائيلي مجمدة حالياً، وهذا بحد ذاته مفيد. شيء ما يحدث، لم يكتمل بعد، يعد بأن يكون ايجابياً، شيء آخر قد يحدث هدفه تماماً العكس تستفيد منه فقط رابطة المتطرفين العالمية.