استنفار ما يسمى بالمحافظين الجدد الاميركيين ضد السعودية ليس جديداً، فهو تصلب عندما انطلقت مبادرة الامير عبدالله بن عبدالعزيز للسلام والتعايش بين الدول العربية واسرائيل على أساس انسحاب اسرائيل الكامل من الاراضي المحتلة عام 1967 مقابل التعايش والتطبيع معها في الشرق الاوسط. وبعدما تبنت القمة العربية في بيروت المبادرة السعودية في الشأن العربي - الاسرائيلي وتبنت قرارات عارضت عمليات عسكرية ضد العراق، اتخذت عصابة من المحافظين الجدد قرار نقل الحملة الاعلامية على السعودية الى مرتبة جديدة. اليوم، ومع ازدياد الكلام عن حرب اميركية على العراق لتغيير النظام الحاكم فيه، جندت زمرة من المحافظين الجدد كل قواها لاستقطاب قوى فاعلة في الادارة الاميركية خصوصاً في مكتب نائب الرئيس ديك تشيني وفي وزارة الدفاع البنتاغون، بهدف وضع السعودية في خانة العداء لاميركا. ظاهرياً، كل هذا خال من المنطق، من وجهة النظر العربية كما من وجهة نظر كثير من الاميركيين. باطنياً يثير مثل هذه "الاجندة" الاهتمام ويتطلب اجراءات للتصدي لها. تعرف السعودية اسباب هذه الحملة ولديها تصور واضح لكل ما عليها ان تفعله لكن كل هذا لا علاقة له بالدوافع الحقيقية لزمرة الاميركيين الفاعلين في صنع السياسة الاميركية. فكل قصة هؤلاء هي اسرائيل، وليس المصالح الاميركية. وولاء هؤلاء هو لاسرائيل على حساب اي شيء آخر، بما في ذلك المصلحة الاميركية. وحرب على العراق مفيدة لهم لأنها تحول الانظار عن حرب اسرائيل الكبرى ضد الفلسطينيين. فأهم اولوية عند هؤلاء تجسدت بعد لقاء الامير عبدالله بالرئيس جورج دبليو بوش في مزرعته في كراوفورد قبل شهرين حيث تبين ان العلاقة الاميركية - السعودية متينة لدرجة شكلت خطراً على العلاقة الاميركية - الشارونية. فهؤلاء لا يبالون بمن يحكم في اسرائيل مهما كا نصعبا الدفاع عنه او تبرير ما يفعله. بل اكثر من ذلك، هؤلاء مقتنعون بطروحات رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون برغم تطرفها المذهل. فهم التطرف بعينه، والاعتدال عدوهم. السعودية شنت هجوماً سلمياً لم تكن اسرائيل شارون في وارد التجاوب معه، فتطلب الأمر "قتل" حامل الرسالة. والسعودية زاحمت اسرائيل على علاقة مميزة مع الولاياتالمتحدة وأتت الى تلك العلاقة بثقل عربي نوعي، وبذلك داست على خطوط حمر لدى الملتزمين الدفاع والاعتذار عن اسرائيل وحماية علاقتها العضوية مع الولاياتالمتحدة تحت اي ظرف كان. فليس مقبولاً، لدى هؤلاء، على الاطلاق مزاحمة اسرائيل على العلاقة مع الولاياتالمتحدة، وليس وارداً ابداً السماح بشراكة عربية عضوية مع الولاياتالمتحدة، حتى ولو كانت تحت عنوان الحرب العالمية على الارهاب. لذلك، قام القرار الاستراتيجي عند بوتقة المحافظين الجدد على الأسس الآتية: اولاً، تحييد السعودية وغيرها من الدول العربية والاسلامية في التحالف او الائتلاف الدولي ضد الارهاب كي لا تصبح هذه الدول رئيسية، مع العمل المنظم على نسفها من التحالف والائتلاف. ثانياً، تقويض اهميتها ومركزيتها في اية عملية عسكرية ضد العراق واعتبارها غير ضرورية لحرب على هذا البلد كي لا تؤثر في قرار ضربه، وكي لا تقف عقبة امام استكمال ما يترتب على الحرب على العراق في المنطقة، نفطياً خصوصاً. هذه المجموعة تريد بالمقدار نفسه اضعاف الاعتدال في المنطقة كي لا يكون له صوت مؤثر في صنع السياسة الاميركية. وهي تريد التطرف نظيراً لها في المنطقة ليكون في الامكان تسويق تطرفها على اساس انه مجرد رد لاحتواء تطرف الآخرين. هذه مجموعة تزعم انها ضد السلطة الفلسطينية ورئيسها ياسر عرفات لانه "احتضن" الارهاب، حسب تعبيرها. وهي تزعم انها تريد من الحرب على العراق مجرد اسقاط رئيسه صدام حسين لأنه بطش بالعراقيين وصنّع اسلحة دمار شامل وتحدى قرارات مجلس الأمن ومنع عودة المفتشين، وهي تدعي ان مصر والسعودية والاردن ليست جدية في تحالفها وصداقتها مع الولاياتالمتحدة طالما انها تسمح لقطاعات في شعوبها بالتعبير عن الامتعاض من السياسة الاميركية وتبنيها لاسرائيل. وهذه مجموعة تلعب دورين متناقضين مع دول مثل قطر، تارة بمهاجمة قناة "الجزيرة" وتارة في الدعوة الى غض النظر عنها لأن القواعد العسكرية في قطر تخدم غايات الحرب على العراق. والأهم ان هذه المجموعة تريد استفزاز الاعتدال في الساحة العربية كي يصبح تطرفاً. فبذلك تزيل عقبة الاعتدال امام تطرفها. فهي لا تبالي بفكرة التوجه الى الشعوب العربية لاقناعها بجدوى السياسة الاميركية. أما تبالي به فهو تنفيذ مخططها في المنطقة. وهذا المخطط يتطلب الفوضى وليس الاصلاح. وهذا ما على الساحة العربية، حكومات وشعوب، التنبه له والعمل على افشاله. هذا ما يتطلب من الحكومات الاسراع، وبهرولة، الى اصلاحات جذرية ضرورية على اي حال وبغض النظر عن خطة الاخرين. وهو ما يتطلب من الشعوب العربية، "شارع" ونخبة، ان تستيقظ الى ما تتطلبه الساعة. ما تتطلبه تحديات الساعة ليس الاصطفاف وراء هذا الزعيم او ذاك، فهي ساعة الخيارات العربية الحقيقية في الصميم، على الصعيد الداخلي بما يتطلبه من اصلاح، ونحو الولاياتالمتحدة بما يتطلبه من ايضاح. فلو كانت مجموعة المحافظين الجدد هامشية لكان في الامكان تجاهلها موقتاً. لكنها ليست هامشية، والوقت لا يتحمل الاستكانة الى "لاحقاً". والتحدي ليس فقط للساحة العربية وانما هو ايضاً للساحة الاميركية اذ ان ما تقوم به هذه المجموعة هو توريط للولايات المتحدة في دهاليز حروب، وتوريط منطقة الشرق الاوسط في مستقبل قاتم. ولأن لهذه الزمرة اثراً وتأثيراً في داخل الادارة الاميركية، وبالذات لدى نائب الرئيس ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد، فهي ليست هامشية. وهنا نموذج عن تفكيرها، كما نقلته صحيفة "واشنطن بوست" يوم الثلثاء، حيث كشفت عن تقرير نوقش في اجتماع لمجلس استشاري تابع لوزارة الدفاع الاميركية أوصى بانذار السعودية عن "التوقف عن دعم الارهاب" وإلا فإنها ستعامل كجهة معادية. في طيات ذلك التقرير علاقة متداخلة بين الحرب الاميركية على العراق، والحرب الاسرائيلية على فلسطين، وحرب زمرة المتطرفين المحافظين الجدد على السعودية. ريتشارد بيرل، المسؤول السابق في وزارة الدفاع يرأس "المجلس الاستشاري" وهو من اكبر الدعاة الى حرب على العراق وأشد المدافعين والاعتذاريين عن اسرائيل. والتقرير الذي اعده لورين موراويك، المحلل في مؤسسة "راند"، يمثل تياراً فاعلاً بين الكتاب والمؤسسات التي تضم المحافظين الجدد وبينهم عدد كبير من العاملين السابقين في الادارات الاميركية. وقد نص التقرير على ان نظاماً صديقاً في العراق سيسمح بنفطه كمصدر طاقة اساسي للغرب، ما يقلل من مدى اعتماد الولاياتالمتحدة على النفط السعودي. والتقرير يطالب السعودية باجراءات عدة، بينها ايقاف تصريحات معادية للولايات المتحدة واسرائيل داخل البلاد، واذا لم تنفذ، يدعو التقرير الى معاقبتها من خلال استهداف حقول النفط للاستيلاء عليها ومن خلال الاستيلاء على الاموال السعودية في الولاياتالمتحدة. ونقلت "واشنطن بوست" عن مسؤول في ادارة جورج دبليو بوش من جناح الصقور قوله "ان الطريق الى الشرق الاوسط بأكمله يمر عبر بغداد. وبعد ان يُؤسس نظام ديموقراطي في العراق مثل النظم التي ساهمنا في تأسيسها بعد الحرب العالمية الثانية، فهناك العديد من الامكانات"... هذا الرأي ليس استثناء في صفوف الادارة الاميركية لكن البيت الابيض اسرع الى رسم مسافة بين الادارة وبين التقرير الذي قدم الى "المجلس الاستشاري للشؤون الدفاعية" التابع لوزارة الدفاع، واعلن ان ما يتضمنه لا يمثل ولا يعكس من وجهة نظر الادارة الاميركية، وان الرئيس وادارته يعتقدان ان السعودية بلد صديق وحليف وثيق وقوي للولايات المتحدة. المشكلة اننا لا نعرف من يحكم حقاً في هذه الادارة. وزير الخارجية كولن باول تم تحييده، اقلة الآن، و"المجلس الاستشاري" ليس وزارة في الحكومة الاميركية لكن نفوذه اقوى من وزارة الخارجية وهو يضم افراداً لهم ايضاً مصالح شخصية لا ايديولوجية فقط. نائب الرئيس جاء الى منصبه بعدما كان ترأس شركة "هاليبرتون"، وهذه الشركة لها الآن اكبر العقود الدفاعية. وقد كتبت الصحافة الاميركية بتساؤل عن هذه التداخلات علماً بأن ديك تشيني لا علاقة له الآن بتلك الشركة. شركات النفط الكبرى لها نفوذ تقليدي في صنع القرارات، انما ليس واضحاً الآن ان كانت منقسمة او متفقة مع نمط التفكير السائد بين الصقور وارباب التطرف داخل الادارة وخارجها. وقد تكون هناك منافسة بين شركات النفط وشركات تصنيع الاسلحة على التأثير في قرارات الادارة الاميركية وسياساتها نمو منطقة الخليج والشرق الاوسط. فبعض الخبراء يرى ان شركات النفط لا تريد انخفاض سعر البرميل الى 6 أو 7 دولارات لأنه لا يغطي كلفتها، وبالتالي فانها تريد استمرار الوضع الراهن وتعارض حرباً على العراق. البعض الآخر يقول ان هذه الشركات قد ترى فائدة على المدى البعيد من سيطرة اميركية على حقول النفط وبتفكيك منظمة "اوبك" وبالتالي قد لا تعارض خريطة جديدة للمنطقة. تنافس وغموض وتستر وتقلب، هذه هي اجواء الادارة الاميركية وما يحيط بها من اصحاب المصالح الكبرى ومجموعات النفوذ. والساحة هي الخليج والشرق الاوسط. الرأي العام الاميركي عاد الى الانشغال بأولوياته المحلية، وهو لا يشارك فعلياً في صنع القرارات. مجموعات النفوذ لغايات ضيقة هي التي تعمل ليلاً نهاراً من اجل املاء اولوياتها على الادارة الاميركية. وقد نجحت الى حد كبير. ارييل شارون بات معفى تماماً من اي محاسبة وهو يتخذ اجراءات تتنافى مع القانون الدولي ضد الفلسطينيين. العالم يغض النظر لانه سئم العمليات الانتحارية ضد المدنيين الاسرائيليين، وهو في تعاطفه مع الضحية الاسرائيلية تناسى الضحية الفلسطينية بل اعتبرها افرازاً طبيعياً في حرب اسرائيل على الارهاب وكأن الاحتلال نزهة ممتعة للشعب الفلسطيني المقهور. مجلس الامن بات مقعداً ليس في الملف الفلسطيني فحسب وانما في الملف العراقي ايضاً فلا روسيا ولا الصين ولا فرنسا في وارد تحدي الولاياتالمتحدة في هذين الملفين، والامين العام كوفي انان يقفز بين الالغام كما كان واضحاً في تقريره عن احداث جنين وفي رسالة رده على دعوة العراق لرئيس لجنة "انموفيك" هانز بليكس الى بغداد للبحث في متطلبات عودة المفتشين الى العراق. الساحة العربية ممزقة، جزء منها يخفي ويتستر ويدعي علناً عكس ما يفعله سراً، وجزء آخر يلبي لن لا خيار آخر لديه، وجزء يزايد لان المزايدة حقنته الوحيدة للادعاء. ما على العالم العربي ان يفهمه هو ما يحدث على الساحة الاميركية في عهد جورج دبليو بوش. فالشراكة التقيلدية فقدت اسسها. والولاء لم يعد محركاً او درعاً. والاذعان لم يعد مثمراً والتحدي البهلواني أصبح مضراً للغاية. ما يراد للمنطقة هو الفوضى والرد الوحيد على هذا المخطط هو الاصلاح. الاصلاح الجذري والسريع والانقلاب على عادات سيئة. فزمرة الفاعلين في ذهن الرئيس الاميركي وطاقمه في غاية التنظيم والاصرار. ولا انقاذ للمنطقة العربية سوى عبر المصارحة والمصالحة على اسس اصلاح مؤسساتي يستفيد من الطبقة الوسطى وقاعدة الاعتدال. هكذا يمكن التصدي للتطرف الداخلي والخارجي. هكذا يمكن بناء شراكة مع الاعتدال في الساحة الاميركية، فهو حليف ضروري ومصيري.