منذ لحظة فشل الاستفتاء على فك الارتباط عن قطاع غزة في قواعد حزب ليكود كان واضحاً أن الفرق بين شارون ونواب ليكود المعارضين لخطته أنه يفكر استراتيجياً بالفرصة التاريخية المتاحة لاسرائيل بعد الحادي عشر من أيلول وبعد ولوج غالبية الأنظمة العربية مرحلة إقناع الولاياتالمتحدة لقبولها كما هي مقابل أي شيء. في حين يفكر نواب ليكود ويحكمون على التطورات من زاوية الانتخابات المقبلة. الأهم من ذلك أن الاعتبارات التي قد يؤخذ بها في ظل ديموقراطية برلمانية من النوع ال"هايبر"، الكثير الحركة من دون بركة كما يقال، هي اعتبارات تضع السياسة موضع السخرية المحرجة للبرلمانيين. فالكثير ممن صوتوا ضد الخطة مقتنعون بها اقتناعاً تاماً بل بأكثر منها. هنالك بين المعارضين من يعارض لأسباب ايديولوجية. والأيديولوجية كعائق امام التحرك السياسي، اذا كان هذا التحرك في مصلحة المجتمع أو الدولة المعنيين، هي تفاهة وتعصب أيضاً. لكنها تفاهة برونق. وهنالك أيضاً من يعارض لأسباب سياسية استراتيجية، وهي معارضة من نوع مفهوم في السياق الاسرائيلي أي أن المعارض كان سيتفهم الخطوة ويصوت إلى جانبها لو أنها تمت باتفاق مع الفلسطينيين... ومن هذه النقطة تبدأ من جديد دائرة الشيطان الاسرائيلية المفرغة: نريد اتفاقاً ولا يوجد من نتكلم معه... الخ. وتعود معارضة غالبية المعارضين من ليكود أي من خارج الأحزاب الأيديولوجية لأسباب لا علاقة لها بهذا او ذاك. فمنهم من يصعب عليه فراق الموقف القديم المتمسك بكل مستوطنة، ومنهم من يعارض لأنه لا ينتمي الى معسكر أولمرت وموفاز، ويبدو أن شارون يرشح الأخير لخلافته. وهنالك منافسون يعتبرون مرور أو تمرير أية مبادرة من قبل هذا المعسكر نجاحاً للخصم وفشلاً له. ففي منطق التنافس الانتخابي على نفس المنصب يعتبر إعلامياً نجاح أي مرشح ولو في تصفيف الشعر فشلاً لغريمه. وفي نظر حزب المفدال، مثلاً، بلغ شارون من العمر أرذله، أي أصيب بخرف. لكن شارون وهو ابو الاستيطان يفكر استراتيجياً ومعه حليفان أساسيان لا غنى عنهما بالنسبة الى أي رئيس حكومة صهيوني: أولاً: أن غالبية الشارع الاسرائيلي تؤيد الانسحاب من غزة ولا ترى مستقبلاً لاسرائيل هناك، وبلغة شارون"لا مستقبل للمستوطنات اليهودية في غزة". هذه قناعة عميقة وراسخة في الشارع الاسرائيلي. والسؤال الذي اشغل هذا الشارع هو هل من الأفضل الانسحاب من المناطق المكتظة بالسكان عموماً في إطار اتفاق لم يعد يشغله في ما يتعلق بقطاع غزة. فقضية الانسحاب من غزة باتت منتهية منذ اعلن عنها. وذلك لأنه لا يوجد والد يرغب في أن يقتل ابنه الجندي على أرض أعلنت النية على الانسحاب منها. فهذا يعتبر موتاً عبثياً. ولأن رئيس حكومتهم التزم لأميركا وقبض مقابل ذلك وعوداً أميركية متعلقة بالحل الدائم تسقط حق العودة وتضع حداً واضحاً لل"تنازلات"الإسرائيلية من طرف واحد وتضمن عملياً بقاء الكتل الاستيطانية تحت السيادة الاسرائيلية. فما يخشاه الإسرائيلي المتوسط من الخطوة من جانب واحد هو أنها"قد تشجع الفلسطينيين على المطالبة بالمزيد من دون مقابل"، وهذه مسائل تعهدت أميركا بشأن حلها لإسرائيل بكرم حاتمي يتجاوز توقعات أي صهيوني في هذه المرحلة قبل التفاوض، وقد تقتنع أميركا بالمزيد. وتعوض رسالة الضمانات الأميركية لشارون عن المفاوض العربي، فالموقف الأميركي من الحل الدائم هو ما سيطالب به العرب كما يعتقد الاسرائيليون. فقد جرت العادة على ألا يحدد العرب، بما في ذلك الفلسطينيون، موقفهم من الدول بموجب موقفها من قضاياهم بل يعومون الموقف من القضايا على موجات العلاقات الاساسية مع الدول الاساسية ومع الولاياتالمتحدة بالاساس. الخوف الثاني هو من تطور نموذج شبيه بجنوب لبنان يستنتج منه الفلسطينيون انهم اجبروا اسرائيل على الانسحاب من دون قيد او شرط وان هذا الاستنتاج قد يشجعهم على المقاومة. والحقيقة، اولاً، أن الإسرائيلي المتوسط يدرك الفرق بين امكانات غزة المحاصرة على القتال ضد الجندي الاسرائيلي اذا كان خارجها وإمكانات المقاومة اللبنانية بعمقها اللبناني والسوري. ومع ذلك يترك شارون للدول العربية المعنية بعلاقة جيدة مع أميركا أن تجيب عن هذه المخاوف بشأن منع تطور قدرة كهذه لدى غزة في المستقبل حتى لا"تضطر"اسرائيل الى العودة لاجتياحها كما تنص الخطة الإسرائيلية بوضوح، وكما يؤكد تبادل الرسائل بين بوش وشارون على حق اسرائيل ب"الدفاع عن نفسها"، إقرأ"الاجتياح والاعتداء والإغارة". ثم أن الولاياتالمتحدة، ثانياً، تدعم خطة شارون بشكل مطلق. وهذ اعتبار لا يجوز العبث به. ولا حتى لمنتسبي ليكود. ويعرف هذا الأمر بشكل خاص كل من يرشح نفسه لمنصب رئيس الحكومة. شالوم - لفنات - نتانياهو... للاختصار مجموعة"شلن". مع أخذ الغالبية الاسرائيلية والدعم الاميركي في الاعتبار، يدفع شارون باتجاه إعادة الانتشار من قطاع غزة ومحاصرته براً وبحراً وجواً في إطار نظام أمني إسرائيلي يتحكم بكل شيء فيه: ما يخرجه وما يدخله واقتصاده وغير ذلك، والى فرض الحدود من طرف واحد في الضفة الغربية وتعزيز المستوطنات التي ستبقى تحت السيادة الاسرائيلية في أي حل دائم مقبل على حد تعبير شارون. لا يمكن لمناورات حزبية أن تواجه مثل هذه الاعتبارات إذا أتقن شارون اللعبة السياسية، وهو كما يبدو يتقنها، وليس لديه ما يخسره في أرذل العمر هذا. فهو ماض رغم كل شيء في تنفيذ خطته. صحيح أنه أجل بتّ إزالة المستوطنات، ولكن الواضح من إقرار الخطة مبدئياً أن هذا هو هدفها، وقد اقرّ الهدف. لقد منح القرار الأخير وزراء ليكود المعارضين سلماً لينزلوا عن شجرة المعارضة العالية التي تسلقوها. أما وجود اليمين المتطرف من خارج ليكود في الائتلاف، بما فيه حزب المفدال، فهو وجود موقت الى ان يقرّ سحب المستوطنات، عندها سينسحب ما تبقى من المفدال ويدخل حزب العمل الذي ينتظر على أحر من الجمر الى الحكومة. في هذه اللحظة تصبح مهمة شارون تأمين بقاء ليكود موحداً خلف حكومته. والخطر الاكبر هو نشوء غالبية يمينية من 61 نائباً بما فيها أحزاب شاس واغودات يسرائيل التي اقصيت تماماً عن تحركات شارون ترشح نتانياهو. ويبدو هذا تطور بعيد الوقوع حالياً. وفي أي حال لا يكفي غياب بعض نواب الائتلاف عن التصويت لإسقاط الحكومة، فهذا قد يرجح كفة المعارضة على الائتلاف بين الحضور لكنه لا يجلب لها 61 صوتاً، أي الغالبية من مجمل النواب، اللازمة لإسقاط الحكومة في نزع ثقة. واضح أن شارون قد كسب وقتاً وسيبدأ حرب استنزاف ضد معارضيه واثقاً بأنه سيربحها بفعل قوة العاملين اعلاه، وبفعل أن تمترسه في دهاليز الدهاء الحزبي والتآمر لا يقل من تمترسه في ساحة القتال والمجازر. قلنا سابقاً أنه لا يجوز الاعتماد على ليكود لإفشال المبادرة، وقلنا أن شارون جدي. فكيف يحاول العاجز رؤية مبادرة شارون؟ تصوَّر المبادرة كأنها انسحاب من طرف واحد ضمن سلسلة تنازلات اسرائيلية. وفي الحقيقة يواجه الشعب الفلسطيني في هذه"المبادرة"محاولة فرض إملاء إسرائيلي بشأن طبيعة الحل. وقد سخف الأسلوب الاملائي الفرق بين الحل الدائم والمرحلة الانتقالية واستبدلهما بمنطق يعتمد الاملاء الاسرائيلي من طرف واحد كمرحلة انتقالية لنشوء قيادة فلسطينية تقبل بالحل الدائم، أو بمرحلة انتقالية طويلة الأمد، تشمل دولة فلسطينية تعفي اسرائيل من الاحتلال المباشر على السكان ومسؤولياته ومن خطر الدولة الثنائية القومية على المدى البعيد، ولكنها دولة بالشروط الاسرائيلية التي كانت مرفوضة. المرحلة الانتقالية الجديدة هي الاملاء الاسرائيلي من طرف واحد نحو المرحلة الثانية وهي نشو قيادة تقبل بما رفض. وفي مكان قيادة تقبل او لا تقبل بالحل تفرض اسرائيل حلا يقبل أو لا يقبل بالقيادة، بل حلا يغتال القيادات ويهدم البيوت في المناطق الحدودية، وينشئ قيادة على صورته ومثاله. وسيجد الحل انواعاً من الناس الذين يدعون أنهم يقبلون بالجديد وينسقون مع كل ما هو جديد لا لأنهم يشمون اتجاه هبوب الريح فينصبون أشرعة الانتهازية لتدفعها الريح الجديدة بل لأنهم ينتقدون القيادة من منطلقات مختلفة. وفي الحقيقة انهم يتملقونها أيضاً اذا وجب من منطلقات مختلفة وقناعات مختلفة ولكن يجمعهم على التعاطي مع ما يفترض انه حل مرفوض لأنه مفروض من طرف واحد المصلحة والحرص على العلاقة مع اميركا. كانت الخطوة السياسية الأولى بعد الاجتياح ومحاصرة القيادة الفلسطينية يوم 29 آذار مارس 2002 ، وقد أعلن بوش"رؤياه"لحل الصراع يوم 24 حزيران يونيو 2002. وقد بدأ الضغط السياسي على القيادة المحاصرة بعد هذا الإعلان لتعيين رئيس حكومة فلسطيني ونقل المسؤولية عن الأجهزة الأمنية له أو إلى وزير داخلية. وكان شارون قد توقع بداية تطبيق تصوره لخارطة الطريق مع هذه الحكومة. ولكن نفس تصوره الذي ينفذ الآن في غزة وما اوصله الى منطق فك الارتباط من طرف واحد هو ايضاً ما جعل اول رئيس حكومة فلسطيني يستقيل. وقد أفشل التناقض بين الإملاء والقيادة الفلسطينية والشرعية في تلك المرحلة هذه الحكومة التي كان من المفترض ان يتم التوصل معها الى اتفاق. لقد تبنت الحكومة الفلسطينية خارطة الطريق دون تحفظ. أما شارون فلما يتبنها لحظة واحدة وبقي مصرا على ما يسميه"رؤيا بوش"في خطابه الذي يحظى في نهايته الفلسطينيون بدولة من دون حدود بعد صفحات طويلة من الإلتزامات الفلسطينية. وبعد استقالة الحكومة الفلسطينية مباشرة يوم 6 أيلول سبتمبر 2003 على بعد ثلاثة اشهر من مؤتمر العقبة الذي عقد يوم 4 حزيران 2003 القى شارون خطابه في هرتسيليا يوم 18 ديسمبر كانون الأول 2003 والذي أكد فيه أنه لن يبقَ المجتمع الاسرائيلي رهين التقلبات الفلسطينية والعجز الفلسطيني عن الالتزام أمنياً لاسرائيل، وأنه سيقوم بطرح خطة من طرف واحد تتضمن فك ارتباط مع غزة وسحب مستوطنات من"شمال السامرة"، أقرأ منطقة جنين. وعرض شارون خطته للانفصال من طرف واحد على الحكومة الاسرائيلية يوم 18 نيسان ابريل 2004. وفشل في الاستفتاء الداخلي في ليكود، ولكنه اصر ونجح يوم 6 حزيران 2004 في تمريرها معدلة في الحكومة. بعد مرور عام بالضبط على مؤتمر العقبة الذي زاره شارون بأفكاره وتحفظاته الاربعة عشر على خارطة الطريق، عاد شارون وطرح أفكاره وحده من دون مؤتمر ومن دون شريك فلسطيني وبدعم كامل من الولاياتالمتحدة، وتنضم اليها الرباعية بعد مرحلة تلكوء كما تفعل أوروبا عادة في مسألة الموقف مما يسمى"عملية السلام". أخرجت خارطة الطريق مبادرة السلام العربية من التداول الديبلوماسي، وأخرجت خطة شارون خارطة الطريق من التداول. ثم كادت الخلافات الاسرائيلية الداخلية داخل معسكر اليمين تحديداً تتحول الى خبر في كل بيت عربي. وبات الجميع، وأصبح وهو ينتظر ما سيفعله هذا الوزير أو ذاك من المفدال. عندما ينتظر العالم العربي ورود تفاصيل من هذا النوع من اسرائيل، وعندما يحفظ المعلقون أسماء الوزراء المعارضين وأسماء أعضاء البرلمان من ليكود عن ظهر قلب فإن هذا دليل على أنها"اللعبة الوحيدة في المدينة"، أما الدليل على أن السلوك السياسي العربي، بما فيه الفلسطيني، يجعلها كذلك فهو حاضر في الضمائر والأذهان لا يحتاج الى استحضار. * كاتب عربي.