ليس من العسف الحديث عن "استبداد الجغرافيا" الذي يضع موهبة محدودة من مدينة معينة فوق أخرى أكثر اتساعاً من مدينة أخرى، وليس من الافتعال التذكير ب"استبداد الصدفة" الذي يحاصر صوتاً لامعاً ويلمّع آخر محدود الامكان... وهناك بداهة سطوة "الألقاب"، حيث لكلام الحاصل على "جائزة نوبل في الآداب" وقع يتفوق على كلام من لم يحصل عليها، كما لو كانت الجائزة تعيد خلق الفائز وتهبه صدقية مرتاحة متعددة الاتجاهات. ولعل في الرجوع الى كتاب "شهادة الأدب"، الصادر في الفرنسية في الشهر الماضي، ما يطرح أسئلة كثيرة عن "سطوة الكلام المنتصر"، لأن سلطة الكلام من سلطة المتكلم، جاء الكلام صحيحاً وجديداً، أم كانت فيه استعادة لكلام قديم ممزق الأطراف. والكتاب المقصود للأديب الصيني "غاو كسنغيان"، الذي ظفر بجائزة نوبل لعام 2000، المدافع عن حرية التعبير، والذي واجه الأدب السلطوي بأدب حديث مشغول بالحقيقة. "شهادة الأدب" مجموعة من المحاضرات والمقالات والأحاديث، يشرح فيها المبدع الصيني معنى الأدب بعامة، ودلالة الأدب في ممارسته الذاتية بخاصة، معطياً هواجسه شكل قانون كوني. ولأن الكتاب على ما هو عليه، إذ كل "مداخلة نظرية" تستأنف ما جاء في مداخلة سابقة، تأتي الأفكار واضحة شفافة الى حدود التكرار، مؤكدة أطروحات ثلاثاً، تقول الأولى منها: يخلق المبدع عمله في عزلة تامة، يلتحف بروحه ويقطع مع ما هو خارجه، كأن العزلة في ذاتها إبداع، فهي مبتدأ الإبداع وخبره، وهي البوابة الذهبية التي على المبدع أن يمر بها. وتقول الثانية: المبدع مفرد حر، فرديته ابداعه وإبداعه مفرد لا يلتبس بغيره. تساوي الفردية العزلة وتفضي الفردية المنعزلة الى الابداع. الأمر الذي يضع الفردية والعزلة والابداع في دائرة متجانسة مغلقة. يكتمل القول بفكرة ثالثة، تنفي "الأدب النفعي" بالأدب الخالص، وترى الى الأدب فعلاً ذاتياً خالصاً، لا يلتفت الى القارئ ولا يطلب من القارئ أن يتلفت اليه، فلا الأديب ملزم بالتوجه الى خارجه ولا الخارج ملزم بالالتفات الى الأديب والانتباه اليه. لا تنطوي الأفكار السابقة، للوهلة الأولى، على ما يثير الفضول، فهي ممتدة بأشكال مختلفة من رومانسيي القرن الثامن عشر الى رولان بارت. بيد أن في القول المغلق واليقيني في انغلاقه ما يوقظ الفضول أكثر من مرة، وذلك للأسباب الآتية: اذا كان على المبدع أن ينعزل لحظة الابداع فإنه غير منعزل أبداً لحظة الاعداد له، ذلك ان المرجع الداخلي في العمل الأدبي لا يستوي بلا مرجع خارجي، حدثاً كان أو وثيقة أو كتاباً في التاريخ. وما يقول به المبدع الصيني يقول بغير ذلك، فهو يساوي بين المبدع الخالص والانسان اليومي الذي فيه، ويُقصي الطرفين عن حياة البشر، محولاً سؤال "المادة الأدبية" الى سؤال عقيم. كان ادوارد سعيد، كما نعلم، ربط بين الابداع والمنفى، وعيّن الإبداع منفى نوعياً يجابه المنفى المكاني الخارجي ويرد عليه، من دون أن يساوي بين الانسان والمبدع الذي فيه، منتهياً الى "معطى خارجي" يتوجه الى البشرية جمعاء، وينطلق من أسئلتها المشخصة. ولعل اشتقاق الابداع من جوهر انساني عصيّ على التحديد هو ما يحول الفردية المبدعة، في خطاب الأديب الصيني، الى أحجية وعرة، لأنه يرى في اقتراب الأديب من "الآخرين"، أو اقترابهم منه، ما يهدد العمل الأدبي وما يعرّض الأديب الحق الى أخطار ماحقة، ولهذا يقول: "الإبداع الأدبي فاعلية منعزلة، لا يمكنها أن تلتمس العون لدى أي حركة أو فئة، بل ان في العنصرين الأخيرين، وخلافاً للمتوقع، ما يؤدي الى قتل الفاعلية الأدبية...". يصل الأديب، وقد انسحب من التهديد الخارجي، الى غربة شاملة، لا يستقبل من "الخارج" شيئاً ولا يرسل اليه بشيء، كما لو كان في ماهيته المفردة ما يقطع مع ماهية البشر. يرفض الأديب الصيني محقاً "الأدب النفعي"، ثم يوغل في الرفض الى تخوم الرُهاب، طارداً سؤال القارئ طرداً عنيفاً، أو متناسياً السؤال بهدوء كبير. يعود ادوارد سعيد مرة أخرى: اذا كان الابداع عند ادوارد سعيد مواجهة مع المنفى، فإن ابداع "غاو كسنغيان" بحث شغوف عن المنفى واعتصام به وانغلاق فيه. لهذا يكون "الجمهور" علاقة داخلية في العملية الابداعية عند سعيد، فلكل ارسال استقبال دعا اليه، بينما تستقبل "الأنا المبدعة" عند الأديب الصيني أسئلتها الذاتية المكتفية بذاتها. ومع أن من حق الأديب أن يرى الى ما يرى اليه، فإن في ثنايا عزلته المفرطة ما يربك أسئلة نظرية كثيرة، ذلك ان نفي القارئ نفي لتاريخ القراءة، الذي يفضي بدوره الى نفي تاريخ الكتابة، ويصيّر تاريخ القراءة والكتابة الى قضية لا لزوم لها. عندها يغيم موقع المبدع في علاقته بالشق الأدبي المسيطر، ولا تظهر حدود مساهمته، طالما انه يقف فوق تاريخ القراءة والكتابة معاً. وهكذا يتجلى، بوضوح أكبر، معنى الفردية لدى الأديب الصيني، التي تحيل على الانبياء والرسل وتبني جسراً سعيداً بين المبدع واللامرئي وبين الابداع والمطلق. بعد مقولات ثلاث عن العزلة والفردية والأدب غير النفعي، يعود "جاو" الى تأكيد رؤيته بمقولتين لاحقتين هما: نقض الأديب للسلطة ورفض الأدب للمجتمع. فعلى المبدع ألا يلتقي بالسلطة أبداً، وعلى الإبداع أن يحاذر المجتمع ولا يلتفت اليه. والقول صحيح تماماً، لأن في الابداع الأدبي نقداً لكل سلطة، واقتراحاً لقيم جمالية ومعنوية جديدة. غير ان السؤال يصدر مرة أخرى عن العزلة المفرطة، أو عن "الهرب"، كما يقول الأديب الصيني، ذلك ان المدينة الغائبة التي يهجس بها الخطاب الأدبي تقوم على معرفة أكيدة بالمدينة القائمة، التي يرفض الأديب المنعزل أن يتعرّف عليها، كأن يقول: "حينما يبقى الكاتب وحيداً في مواجهة المجتمع، فإنه يعبّر عن ذاته لا غير ويكون صوته حقيقياً". يقف المبدع، بهذا المعنى، في مواجهة المجتمع بقدر ما تقف الحقيقة ضد الزيف، كما لو كان الأول هو الحقيقة وما خلاه أخطاء جائرة. يصبح تصوّر العالم، وهو سؤال أساس في الأدب، لغزاً. واللغز المفترض لا وجود له، فقد استلهم ت. س. اليوت، وهو مبدع كبير، الكاثوليكية، واعتنق لوي آراغون، وهو مبدع كبير آخر، الماركسية، وليس صعباً الوقوع على جملة الأفكار الاجتماعية - الجمالية التي صاغت منظور نجيب محفوظ، التي تحتقب كره السلطة وحب العدالة ونبذ اليقين ومساءلة التاريخ وتفكيك النصوص المغلقة... يضع الأديب الصيني، في تنظيره المطمئن، الابداع في فضاء مفارق للعالم الانساني منتهياً، لزوماً، الى نبذ فكرة "التوسّط"، التي تربط النص الأدبي بنص آخر والنصين بقارئ معين والنصوص والقراء بسياق تاريخي لا يمكن إلغاؤه. ورفض "التوسّط" هو الذي يدفع بالأديب الحائز جائزة نوبل الى حديث غريب عن: "الأدب البارد" الذي يحتاج الى العزلة المغلقة والى شرط حياتي نموذجي يعطي الأديب ما يحتاج اليه ولا يسأله شيئاً. هكذا يولد الإبداع من حياة غنائية، بدلاً من أن يكون أثراً نوعياً للصدام مع حياة مغتربة. والغريب أن يكون اليهودي التشيكي "كافكا" هو المثال المنشود الذي يعود اليه الأديب الصيني بإيقاع كبير، علماً أن أدب "كافكا" جاء أثراً لصدامه المستمر مع حياة اجتماعية تنشر الاغتراب ولا تسمح بالتحقق الانساني، ولرفضه المبدع لرواية بورجوازية تقليدية تقيم تناظراً بين الكلمات والمعيش اليومي. اتكاء على الرفض لا على "الهروب"، الذي يبشر به الأديب الصيني، انتهى "كافكا" الى رؤية جديدة، ترفض الرواية من داخلها وترفض فيها الوعي المغترب في أشكاله المختلفة. ليس صعباً معرفة الأسباب، وهي مشروعة، التي دعت الأديب الصيني الى تنظيره الأدبي. فقد أراد أن يندد ب"الدولة الرسولية"، التي تقمع الانسان باسم مثال أعلى، وأن ينقد "الحزب الرسولي"، الذي يبدأ برسالة عالية وينتهي الى بيروقراطية قاهرة. لكن وهو يندّد بالخطاب الرسولي، وهو خطاب تقليدي منقطع عن الحداثة، التمس بدوره منظوراً رسولياً، يمارس التقليد وهو يظن أنه يدافع عن الحداثة الكاملة. وهذا ما يقوده في إحدى صفحات الكتاب الى الاحتفاء بمبدع غريب يساكن "الآلهة": "ليس في التقريب بين الآلهة والمبدعين ما يفتقر الى الحقيقة". بقي "غاو كسنغيان"، ايديولوجياً، على الأرض التي هجرها، ناشراً في "الغرب" أرواح الشرق الغامضة، التي تلتبس فيها البلاغة بالنبوة، وناشراً أيضاً "استبداداً مضمراً" يقسم البشر الى مراتب لا متكافئة، وينصّب المبدع قمة عالية تنتسب الى السماء وتعفّ عن النظر الى الأرض. لم يكن الحديث القديم عن "الأدب البارد" ممكن القراءة، من دون "جائزة نوبل"، ذلك أن "الصوت المنتصر" يقول ما شاء ان يقول، ويجبر الآخرين على قراءته.