"الإعدام حرقاً" أو "محرقة الإعدام" عبارتان طالما عرفهما التاريخ العالميّ وخصوصاً في مراحل الاضطهاد الديني والعنصري ومن أبرزها مرحلة "محاكم التفتيش" التي كانت تفني حرقاً أصحاب الفكر "المهرطق" والمختلف أو المنشق، وتحرق مخطوطاتهم والآثار التي كانوا يتركونها. واكتسبت هاتان العبارتان لاحقاً معاني أخرى عندما راجت موجة حرق الكتب و"إعدام" المكتبات عبر اضرام النار فيها. وقد شهدت حقبات عدّة من التاريخ القديم والحديث مثل هذه "المحرقات" الرهيبة وربما كانت أبرزها محرقة النازية التي أعدمت في ليل العاشر من أيار مايو 1933 في برلين مجموعة كبيرة من الكتب ومن ضمنها مؤلفات هينرش مان، ارنست غليزتر، إريك كاستنر وسواهم. أما ما حصل في الصين من "محرقات" على أيدي الجيش الجيش الأحمر خلال الثورة الثقافية فيصعب تعداده مثلما يصعب تعداد الكتّاب الذين دفعتهم الثورة الى إحراق كتبهم بنفسهم. والعبارة هذه "الإعدام حرقاً" أو محرقة الإعدام جعلها الكاتب النمسوي الألماني اللغة إلياس كانيتي عنواناً لروايته الشهيرة "أوتو دافيه" وفيها يُقدم البطل الذي يُدعى كاين مستوحى من اسم كانط الذي حملت الرواية اسمه في الطبعة الأولى على إحراق مكتبته رامياً نفسه في نارها، منتحراً ولكن ضاحكاً. وغدت الرواية المبنية على طريقة "الكوميديا الإلهية" من أهم الأعمال الروائية التي تعكس مأساة العصر الحديث وتهتك أبعاده هتكاً ساخراً. لم يكن من المفاجئ إذاً أن يطلق "البرلمان العالميّ للكتّاب" على مجلته الجديدة اسم "الإعدام حرقاً" أو محرقة الإعدام أي "أوتو دافيه". فالاسم يلائم كثيراً أبعاد هذا "البرلمان" الذي يهدف منذ تأسيسه في العام 1994 الى الدفاع عن حرية التعبير وعن حقوق الأدباء المضطهدين والمنفيين والمسجونيين والمطرودين والمطاردين... والمجلة هي بمثابة كتاب نصف سنوي تصدر في خمس لغات حتى الآن الفرنسية، الأميركية، الايطالية، اليونانية والاسبانية. انها فسحة أدبية حرّة يلتقي فيها الكتّاب المضطهدون قراءهم في تلك اللغات أولاً ثم الكتّاب الآخرين الأوروبيين والأميركيين وسواهم... وعلى صفحات هذه المجلة تتآلف النصوص والتيارات والنزعات المختلفة وربما المتناقضة. المفكر الفرنسي جاك دريدا يحاذي الكاتب العربي - الكردي سليم بركات، الايطالي أنطونيو تابوكي يجاور التركي نديم غورسيل، النيجيري وول سونيكا يقارب الأفغاني لطيف بدرام وهكذا الصيني غاو أرتاي والتشيلي روجيليو سونديرس والايطالي فينسنزو كونسولو والكردي محمد أوذن والهندي - البريطاني سلمان رشدي والفرنسية هيلين سيكسو... أما مفاجأة العدد فهو الشاعر والروائي الصيني المنشق بي داو الذي كان مرشحاً دائماً لجائزة نوبل وقد سبقه اليها مواطنه المنشق أيضاً غاو كسينغيانغ... غير أن المجلة - الكتاب ليست مجرد فسحة عالمية للقاء والحوار خارج سطوة المكان والزمن بل هي مجلة أدبية طليعية تجمع بين السؤال السياسي أو الانساني والسؤال الأدبي واللغوي. وصبغتها الانسانية لم تحل دون صعود مشرعها الأدبي الذي ينطلق من معطيات ما بعد الحداثة العالمية. ولعل النصوص الأدبية التي ضمّها العدد الأول تدل بوضوح على الهم الأدبي الذي يعتري الأدباء سواء المضطهدين منهم والمنفيين أو المقيمين والمكرّسين. وإن أعلنت المجلة في عددها الأول أنّ من غاياتها الأولى أن تفسح المجال للشعوب والتجارب المقموعة والمحاصرة أن تعبّر عن نفسها وعن ثقافاتها المهددة بالزوال فهي تدرك أنها لن تتحول الى مجلة، مجرد مجلة انسانية تنشر ما يردها، بل هي تصرّ على أصالة النصوص وحداثتها وطليعيتها حفاظاً على هالة الأدب وسحر الكلمة. أما مواجهة السلطات القمعية والرقابات والسجون فلا تتم إلا عبر الأدب الحقيقي، القادر على فرض نفسه داخل التاريخ الأدبي وليس على هامشه. لكن هذا الموقف لن يحول دون دفاع المجلة والبرلمان حتى عن صغار الكتّاب إن اضطهدوا أو سجنوا. لا تكمن فرادة المجلة في قضيتها التي يختصرها عنوانها الساحر فقط، ولا في نصوصها المتنوعة والمختلفة والمتفاوتة بين القصة والقصيدة والنص المفتوح والشهادة والتحقيق. الريبورتاج والمقالة والحكاية وأدب الرحلة، بل في بنيتها التي تتمثل التاريخ والجغرافيا معاً، الزمن والمكان أو اللازمن واللامكان. تُرى ألم يتحدث سلمان رشدي الرئيس الأسبق للبرلمان عن المواطنية العالمية لهؤلاء الكتّاب كتّاب المجلة والبرلمان الذين ينتمون في الحين نفسه الى "دولة الواقع" أو "دولة الحياة اليومية" وإلى "مملكة الخيال اللامتناهية" أو "أرض الذاكرة المفقود نصفها"؟ هكذا وزّعت المجلة أبوابها على عناوين أو كتب أربعة: كتاب الممنوعات، خرائطية المنفى، حوليات الحبّ والحرب، مناخات وعزلات. وبدا كلّ باب أو كتاب يؤلّف عالماً بذاته، عالماً أدبياً مفتوحاً على مغامرة الكتابة ومكابدة المنفى ومعانقة المتخيل. هذا العالم تصنعه النصوص والشهادات والمقالات على اختلاف أنواعها. تستهل المجلة عددها الأول بما يشبه "البيان السلبي" مختارة مقطعاً من نص للكاتب هيرمان بروك يعلن فيه عام 1934 يأسه من مستقبل الكلمة قائلاً: "ثمة ازدراء فريد للكلمة بل حتى اشمئزاز منها يستحوذان على البشر. ولعلّ الثقة الجميلة في قدرة الناس على أن يقتنعوا بالكلمة، الكلمة والكلام، فُقِد كلّية". لكن المقدمة التي وضعها مديرها كريستيان سالمون تضع القارئ للغور في صميم المشروع الذي تنهض المجلة به، وتلقي ضوءاً على خلفيات البرلمان العالمي للكتاب مرتكزة على المعاناة التي يقاسيها الكتّاب في العالم الأول والثاني والثالث. فالبرلمان كان هدفه حين تأسس في العام 1994، كان هدفه أن "ىكتشف أشكالاً جديدة لدخول الكتّاب في الحياة العامة". ويحصل أعضاؤه على مكافأة وعلى حماية قانونية من الملاحقات والضغوط. ويصف سالمون البرلمان في كونه "برلماناً بلا سلطة ولا قصر... وبلا إمكانات مادية كبيرة". وقد تثير عبارة "البرلمان العالمي للكتاب" بعضاً من التساؤل: هل هو "برلمان" حقاً على غرار البرلمانات العالمية المعروفة أم انه مجلس أدبي مثل بعض المجالس الصغيرة؟ وماذا عن "برلمان" تعاقب على رئاسته سلمان رشدي ووول سونيكا وكلاهما من الكتّاب المضطهدين والمنفيين ولا يملكان "الحقوق البسيطة لأي مواطن عادي"؟ يقول سالمون في مقدمته - البيان: "خلال الأشهر الستة الأولى من العام 1993 تخطّى عدد الكتّاب المضطهدين والمسجونين أو المقتولين الألف. وسواء كانوا جزائريين أم ايرانيين أم مصريين أم أتراكاً أم نيجيريين أم صينيين فهم كانوا يزدادون أكثر فأكثر مواجهين المأزق القاسي الذي كاد الطاهر جعوت يعبّر عنه قبل أيام من مقتله في وسط الشارع قائلاً: "إذا تكلّمت تموت. إذا صمتّ تموت. تكلّم إذاً ومت". ويمعن سالمون في تحليل ظاهرة الرقابة المعاصرة في العالم كافة. فالرقابة بحسبه "غيّرت أشكالها وعملاءها وهدفها" وانفصلت عن السلطة لتنتشر في المجتمع ككل وتصبح أشبه ب"الحال الفكرية". لم تعد الرقابة تشمل الكتب فقط، بل أضحت "تهاجم" الكتّاب مباشرة وتفتك بهم بلا رحمة. إنها "الجريمة الجديدة" كما يعبّر سالمون أيضاً. ويشير الى أن صورة الرقابة تضاعفت منذ سقوط جدار برلين، "الرقابة التي طالما مارستها السلطات التوتاليتارية حين كانت تقمع الفكر المنشق". تضاعفت هذه الرقابة "عبر سيرورة متعددة ومعقدة". أما إنشاء المدن - الملاجئ التي باشر بها "البرلمان العالمي للكتاب" فهدفه كما يقول سالمون "أن نعيد حق المدينة الى المبدعين الذي حلّ بهم المنع، وأن نكسر عزلتهم عبر خلق حال من التضامن الجديد من حولهم". ولكنّ هذا يعني أيضاً أن يرسّخ "البرلمان" مفهوماً آخر للديموقراطية والمواطنية. ولعلّ النص الذي كتبه جاك دريدا في باب "خرائطية المنفى" تحت عنوان "آداب مهجّرة" ينطلق من شعار البرلمان الرئيسي وهو "الحق في الأدب". ويستهلّ دريدا نصه قائلاً: "ان يختاروا مكانهم، أن يتحرّكوا بحرية، هوَذا حقّ الكتّاب الذي يرفضه عالمنا أكثر فأكثر. مرّة أخرى أيضاً ضد الممنوع، نريد أن نتحدّث عن مكان الأدب، عن مكانه في هذا الوقت تحديداً. ليكن للآداب مكان. لعل فضاء أدبياً جديداً مشرّع الآن ورهاناته هي أقلّ تحفّظاً مما في السابق، وتحت مظهر مجرّد، تقليدي أو أقل تقليدية، حيال الفلسفة أو العلم وحيال الشعرية والنظرية الأدبية". ويتأمل دريدا في ظاهرة "التهجيرات" التي أصبحت بمثابة "اسئلة حياة وموت". ويسأل: "ماذا يعني الآن هذا التهجير الذي يقوم غالباً على ألاّ يملك الكاتب مكاناً أبداً؟" ويجيب: "هو أن يُرسل الكاتب الى الموت أو أن يطرد من بلاده تحت التهديد بالأسر، بالتعذيب، بالقتل والاغتيال". يكتب دريدا بجرأة لا تخلو من المرارة، منتقداً أو "مفكِّكاً" هذه الظاهرة السلبية التي تعتور الحياة الأدبية في العالم: "من أجل أن يكتبوا ويتحدثوا بحرية، كثيرون من الرجال والنساء يُجبرون على ترك أماكن لغتهم وذاكرتهم". ولعل هؤلاء وإن حملوا معهم لغاتهم الأم فهم يظلون في حال من الاغتراب العميق. المكان الأوّل يظل مكان الحنين. أما المكان الثاني فهو المنفى حتى وإن كان حديثاً وربّما "جميلاً" وأشدّ طمأنينة. يقول دريدا أيضاً: "ثمة ظواهر نموذجية كثيرة تؤكد على تاريخ الأدب حتى في مرحلته الحديثة أيضاً: آداب مهاجرة، آداب منفية، آداب مغتربة، آداب غريبة في لغاتها الأم، آداب هائمة، آداب سرية، آداب مقاومة، آداب ممنوعة، آداب خارج القانون وخارج المكان". لعلّ فرادة هذه المجلة - الكتاب تكمن أيضاً في تلك الفسحات أو المساحات التي تمنحها للقارئ بدوره. فالنصوص والقصائد والمقالات التي كتبها أدباء من هنا وهناك وهنالك تحمل سمات الإقامة والمنفى معاً، سمات الواقعي والمتخيل، السرديّ والحقيقي. ولعلّها تملأ فراغاً كبيراً في الحركة الأدبية المعاصرة هو الفراغ الذي تركه أدباء المنفى المشتتون في أصقاع العالم. وما أحوج هؤلاء حقاً أن يلتقوا بعضهم ببعض أولاً ثم أن يلتقوا مع كتّاب العالم المقيم ثمّ مع قرائهم الذين يتعددون عبر تعدد اللغات التي تترجم المجلة اليها. ترى هل سنرى هذه المجلة في صيغة عربية ذات يوم؟ ومَن سيجرؤ على نشرها في اللغة العربية مواجهاً سلطة الرقابات أو رقابة السلطات؟ * AUTODAFE, La Revue Du Parlement International des ژcrivains, Automne 2000. Editions: deno‘l, Paris, Anagrama Barcelone, Agra Athڈnes, Feltrinelli Milan, Seven Stories Press New York