من المعروف أن القاص والروائي الفلسطيني رشاد أبو شاور قد نشأ وتكون أدبياً وفنياً في مخيمات الشتات الفلسطينية، وفي أحضان المقاومة الفلسطينية المسلحة... وهو كغيره من أبناء هذا الجيل كان يعتبر الكتابة فعلاً مقاوماً بالمعنى المباشر... أي أنه كان يؤمن بالدور النضالي للأدب، وهذا ما طبع كتاباته القصصية والروائية بالرؤية الإيجابية التي يفرضها الانخراط المباشر في العمل السياسي، فكانت شخوصه مؤمنة بالنضال وبحتمية النصر، وكانت أحداثه ووقائعه تعكس تلك الرؤية الإيجابية ذاتها... وهو حتى بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى لم يستطع أن يتحرر من هذا الهاجس، أو من هذه القوالب، كما حدث في روايته "شبابيك زينب". ونحن هنا لسنا بصدد تقويم تلك التجربة، ولا ننكر على رشاد أو سواه موضوعاته واهتماماته في كتاباته، ولكننا نرى أن على التجربة أن تتطور وأن تتحرر من أطر التنميط التي تشكل في نهاية الأمر زنزانة ضيقة للأدب... والتطور الذي نعنيه هو ما انتبه إليه غسان كنفاني منذ البدايات، عندما تناول الإنسان الفلسطيني في حالاته المتعددة والمختلفة، فكانت شخوصه متعددة الملامح، منها ما هو قوي وصلب ومنها ما هو ضعيف وهش ومتخاذل، وأحسب أن هذا هو ما ميز كنفاني عن سواه من كتاب المقاومة الفلسطينية!! في مجموعته الجديدة هذه "الموت غناء"، المؤسسة العربية، 2004 نتلمس اختلافاً واضحاً عن كثير من الأعمال السابقة، وهو الاختلاف الذي يعود إلى انحسار في زخم التجربة الذاتية... التجربة التي تشكل كما يبدو الممول الرئيس لكتابات رشاد... والانحسار الذي نعنيه هنا يتعلق بتجربة المقاومة المباشرة، والانخراط المباشر في العمل السياسي... هنا يعود رشاد أبو شاور إلى ذاكرته المبكرة في مخيمات الشتات... إلى الطفولة والصبا... وهنا أيضاً يعطي رشاد لخياله فرصة كبيرة ربما لم يتمتع بها هذا الخيال من قبل!! في هذه المجموعة نلمح تلك الوجوه المتعددة للشخصية الفلسطينية، من دون أن ننسى هذه الهواجس الإنسانية العامة الأخرى، وهو الأمر الذي لم يكن الكاتب معنياً به من قبل. يبني المؤلف قصصه ببساطة محببة، من دون أي محاولة لصرف الأنظار عن الموضوع الرئيس الذي يتناوله، ومن دون أي اعتبار للتقنيات المركبة، وهو بذلك يؤكد اهتمامه الأساسي على مضامينه... لكن أجمل ما تنطوي عليه هذه المجموعة هي القصص التي يلعب فيها المخيال الفني دوراً بارزاً، إلى الحد الذي يغدو معه التأويل مرادفاً للإدراك الجمالي في النص... ومن هذه القصص مثلاً: البحث عن جودت ونصف رغيف ناشف وفرصة العمر وخوف قديم وموت صاحب الحكاية وإلياس يموت وغيرها... ففي البحث عن جودت إحالة إلى مسرحية بيكيت الشهيرة "في انتظار غودو"... ولكن اللافت في هذه القصة هو أن جودت يأتي أكثر من مرة، بينما يكون الرجلان المنتظران نائمين، الأمر الذي يغضبه، ويجعله يشدد على أن من واجب من ينتظره أن يظل يقظاً!! وبالتأكيد فإننا سنطرح على أنفسنا أكثر من سؤال مشروع يقف في طليعتها بالطبع ذلك السؤال التقليدي: من هو جودت؟ ولكن الأسئلة الأكثر إلحاحاً وجدوى هي: من هما الرجلان؟ ولماذا ينتظران السيد جودت؟ وإذا كان جودت مهماً إلى هذا الحد، فلماذا ينامان؟ ثم تأتي تلك الإضافة الحقيقية في هذه القصة، حين يقرر بائع الصحف والمجلات الذي أصبح طرفاً في الموضوع من خلال أسئلة الرجلين عن جودت، وأسئلة جودت عن الرجلين، أن يخرج من دكانه الذي يشبه الجحر ويرى الفضاء الواسع والشمس... هكذا تشير القصة إلى أن البحث عن السيد جودت يعني ممارسة الحياة، وليس الجلوس كحجر في جحر!!! أما في قصته "إلياس يموت"، فثمة ذلك القلق الوجودي الذي يصل إلى حد التطرف عند الشاب إلياس... فهو ما أن يسمع أن أحداً قد مات حتى يصاب بشيء من الفرح، والجميل هو أننا لا نعرف سر هذا الفرح إلا متأخرين... عندما نكتشف أن سبب ذلك الفرح هو أن الميت شخص آخر غيره... لكن السيد إلياس يموت في نهاية الأمر، ويذهب ذلك الفرح من دون جدوى!! وفي قصص أخرى نتذوق مرارة تلك السخرية كما هي الحال في قصته "أغنية لا"... في هذه القصة يواجه البطل كل ذلك القمع والاستبداد العربي بالأغنية... فهو يقرر أولاً أن يذهب إلى صندوق الاقتراع ويكتب "لا" في الاستفتاء الذي تنظمه الدولة على فترة جديدة للرئيس، لكنه ما إن يصل حتى يخبره القائمون على عملية الاقتراع أنهم قد وفروا عليه الجهد، لأنهم يعرفون أنه سيكتب "نعم"... أي أنهم انتخبوا بالنيابة عنه، فيصاب بمزيد من القهر، ويخرج... وفي الطريق يجد نفسه يدندن بأغنية قديمة يقول فيها "لا يا حبيبي لا"... وهنا يسمعه أحد رجال الأمن فيقبض عليه، ويعنفه لأنه لا يجد سوى هذه الأغنية في ذلك اليوم، وينصحه بأن يغني لعبدالحليم حافظ "نعم يا حبيبي نعم"... هكذا يتضح لنا أن السخرية هي حقاً ثقافة شعبية في مواجهة الثقافة الرسمية، حين يصل القهر والقمع والاضطهاد حداً يخنق الناس، ولا يجدون بين أيديهم ما يرد عنهم ذلك كله سوى هذه السخرية!! وتطل رائحة السخرية في شكل أقل في قصة "فرصة العمر"، حين يقرر المخرج السينمائي أن يسند الدور الثاني في فيلمه الجديد إلى ممثل عجوز أمضى حياته في أدوار هامشية... يفرح العجوز لذلك ويأخذ في ابتياع الملابس الجديدة، وهو يؤكد أن فرصة العمر قد جاءت أخيراً... وفي حفل توزيع الجوائز يضطر المخرج إلى استلام جائزة الرجل العجوز عن دوره، لأن الممثل العجوز قد أصبح في مقعده جثة هامدة!! ربما تذكرنا هذه القصة برواية نجيب محفوظ "حضرة المحترم"، وربما تحيلنا أيضاً إلى عوالم أنطون تشيخوف في قصصه القصيرة، ولكنها تختلف لأن الرجل هنا يموت فرحاً... والموت فرحاً يشير إلى مساحة هائلة من الألم والحزن والقهر... وهي مساحة يعبر عنها القاص هنا من خلال ذكريات الممثل العجوز مع عمالقة السينما من أبناء جيله... والسؤال هو: هل حقق الممثل العجوز أمنيته التي انتظر تحقيقها عمراً كاملاً؟ وهل موته كان احتجاجاً على هدر كل ذلك الزمن من دون جدوى؟ أم أنه الخوف من العودة إلى الهامش الذي أمضى حياته فيه؟ ولا نبالغ عندما نقول إن الإجابات كلها ممكنة، وربما تكون صحيحة تماماً، وهذا ما يؤكده كثير من النقاد في الغرب حالياً، وهو أن التأويل بلا نهايات!! في هذه المجموعة، تبرز المعاناة البشرية - الفلسطينية تحديداً - بشكل مغاير لما خبرناه من قبل عند المؤلف... هنا تتطلب المعاناة شخوصاً نموذجية لا نمطية، وتنبني الوقائع على قاعدة الخيال الفني الصلبة، لا على النقل الحرفي للواقع وتصويره فوتوغرافياً... وأحب هنا أن أشير إلى مسألة مهمة، وهي أن التصوير الفوتوغرافي ليس رديئاً دائماً، ويمكن للمصور الموهوب والمبدع أن يعطينا صورة ربما تعجز عنها ريشة الفنان التشكيلي... المهم هنا هي زاوية الصورة وأبعادها، والمهم هو أن يعرف الكاتب الوجه الذي ينبغي له تصويره ليخرج علينا بعمل إبداعي... وما دفعني إلى هذا التوضيح هو أن بعض القصص في هذه المجموعة تبدو وكأنها حكايات حقيقية، ولكن هنالك فارقاً بين واحدة وأخرى، وهذا الفارق بالتحديد هو الذي يجعلنا نؤكد دور المخيال الفني حتى لو كانت القصة واقعة حقيقية... لقد حدث هذا في قصة "نصف رغيف ناشف" مثلاً، حين يختلي أحد التلاميذ يومياً أثناء الاستراحة، ويتناول لفافة الطعام خاصته من حقيبته، ويأخذ في قضمه بطريقة تؤكد أنه يأكل شيئاً من اللحم، وهذا ما يثير حفيظة الزملاء الذين ينجحون ذات يوم في مغافلة ذلك التلميذ، وسرقة لفافته من حقيبته، ويفاجأون برغيف ناشف فقط... وحين يعيدون اللفافة إلى ذلك التلميذ يصاب بالغضب وهو يفتحها ويسأل بجدية بالغة: من الذي تناول اللحم من الرغيف؟ وفي اليوم التالي يعود إلى سيرته الأولى... انه يؤكد على رفض الأمر الواقع بالتحايل عليه... انه يتحدى نفسه والآخرين، ويرفض الخضوع نفسياً لمرارة البؤس والمعاناة التي يعيشها الفلسطيني في مخيمات الشتات، وهذا الرفض هو المحرك الرئيس للفعل المضاد، وهو أكبر وأهم من الحنين الطوباوي للأرض التي لا يعرفها هذا الجيل أصلاً!! ولا ينسى المؤلف أن يتطرق إلى الذاكرة الشعبية والى آثارها على الناس البسطاء، حيث يلعب الوعي الجمعي النمطي دوراً بارزاً في مسيرة الشخوص ورؤاهم للحياة وما يحيط بهم، ومن ذلك مثلاً قصتاه "خوف قديم" و"موت صاحب الحكاية"... فعلى رغم الخوف المطبوع في ذاكرة العم صاحب الحكاية من الضبع، إلا أنه يكتشف بالتجربة أن هنالك ما يمكن عمله في مواجهة الضبع، وهذا ما يجعله ينجح أخيراً في قتل الضبع... لكن العكس تماماً هو ما يميز القصة الثانية "خوف قديم"، حيث نرى الشاب عوض وهو يطارد حماراً في الليل، ولكنه حين يعود إلى المزرعة، يخبره العم الأكبر أن ذلك الحيوان لم يكن حماراً، ويصاب الشاب عوض بالذهول وهو يكتشف أن الحيوان ضبع من تلك التي تتسلل في الليل وتأخذ فريستها والناس نيام... وهنا ينقلب عوض من ذلك الشاب الذي كان يتحدث ببساطة عن مطاردته للحمار، إلى ذلك الفتى المرعوب غير القادر على مواصلة العمل في المزرعة... لقد انتصرت عليه الحكاية المألوفة، ونسي سريعاً كيف كان الضبع يفر من أمامه وهو يطارده... وعلى رغم هذه الجوانب المضيئة في هذه المجموعة القصصية، إلا أننا ما زلنا نلمس ذلك الحرص الكبير أحياناً على الأبطال الإيجابيين بالمعنى الضيق، كما هي الحال في قصة "المعركة الأخيرة" مثلاً، حين يختفي الشابان الفلسطينيان ثلاثة أيام في رحلة صيد في الصحراء، وحين يعثر عليهما أبناء المخيم، يصابون بالدهشة بعد يومين، وهم يشاهدون الشابين يعودان إلى الصيد على رغم كل ما جرى لهما حين أشرفا على الموت! والغريب هو أن المؤلف يتطوع للتفسير فيخبرنا أنهما يفعلان ذلك لأنهما فلسطينيان!! وكأن الفلسطيني ليس من البشر الطبيعيين، أو أن الآخرين من غير الفلسطينيين ليسوا قادرين على ما يقدر الفلسطيني عليه!!