تتنوع قصص "شمل العائلة"* تنوعاً واسعاً يشير الى اتساع العالم الذي تنهل منه شخوصها وحوادثها المؤسفة وغير العادية، وهي تنطوي على غرابة تحتشد الحياة بأمثلة منها كثيرة ومتنوعة. والغرابة هنا ليست مجرد حالات أناس غريبي الأطوار، أو أحوال شاذة عن المسارات الطبيعية في الحياة، إنها - في الأساس - رؤية الكاتب وأسلوبه في الكتابة، أي في نقل الواقع من واقعيته الى أدبيته، الى ما يجعله أدباً. وما يقوم به الكاتب، هنا، هو تقريب الكتابة الأدبية - وعملية القص - الى الحياة المعيشة، بما فيها من بساطة وتفاصيل صغيرة وهوامش تبدو بلا معنى، لكن حضورها في الكتابة يبرز هذا المعنى ويجليه. هي واقعية تعيد ترتيب الواقع وتنظر اليه من زاوية خاصة فتعيد تركيب العناصر الفاعلة فيه. في المجموعة الجديدة هذه، التي تأتي بعد ست مجموعات قصصية، يبرز الجانب الشعوري لشخوص القصص، بوصفه العنصر الأبرز والمميز لنماذج و"أبطال" الريماوي، وهو جانب يكتظ بمشاعر تبدو صغيرة، لكنها كبيرة في حضورها داخل حياة الشخص، وفي تفاعلها مع العالم الخارجي. فمعظم شخوص القصص هنا، هم أناس عاديون، منهم غريبو الأطوار الى حد ما، وفي صورة من الصور. ويتأتى الخروج على المألوف على صعيد السرد، كما على مستوى البناء العام والخاص، الداخلي والخارجي، للشخصيات. بعض قصص المجموعة تعود بنا الى عالم الطفولة، فيما تذهب قصص أخرى الى كهولة أشخاص مختلفين، من بينهم يطل رأس المؤلف الذي يتخذ قناع الراوي. وما بين الطفولة والكهولة، تتمدد حيوات عدة لأشخاص يتميز معظمهم، في صورة أساسية، بتجارب تشير الى حيوية وحب للحياة، وخوف من الموت في أشكاله المتعددة، الموت المادي والمعنوي، الوحدة والعزلة، الاغتراب والغربة، السوداوية الأقرب الى عالم إدغار ألن بو، والرعد والانسحاق اللذين يذكران ببعض شخوص كافكا. والسخرية الخاصة التي تبدو فيها ملامح من عالم يوسف إدريس. مع احتفاظ الشخوص هنا بمسافة وخصوصية تبعدان عنها شبح الذوبان، من دون أن تبعد عنها إمكان التأثر بتلك العوالم. في قصص المجموعة، عدد من الأطفال، لكن أبرزهم هو "الولد الصغير الذي يتوافر على قلب كبير"، والذي يحمل ملامح من المؤلف/ الراوي، فهو يقدم لنا مشاهد من الريف في عيني طفل قادم من المدينة، فنرى معه عودة الطفل وجدته من الحقل محملين بسلتين مملوءتين بالتين الجديد النديّ، وبشيء من نبات الميرمية، وبنباتات برية تعرفها الجدة خير المعرفة، ومشهد الكلاب الرهيبة التي يخافها الطفل لأنها لا تعرفه ولا هو يعرفها... وقبل كل شيء، ثمة ذلك المشهد الذي سكن قلب الصغير فجعله كبيراً، وهو مشهد غروب الشمس في بحر يافا، شمس القرية تحديداً، لا أي شمس. ومن عالم الطفولة، نقف مع الطفل المعجب بلاعب ذي مهارات خاصة في لعبة كرة الطائرة، هذا الإعجاب البالغ حد الانبهار أولاً، ثم الذي يختلط بشيء من العقدة تجاه "الأجنبي"، فاللاعب الفذ يستخدم "الطريقة الروسية" في إرسال "السيرف" وهذه الكلمة منصصة في القصة، دلالة على تلك العقدة، وهو يلعب كما لو أنه "لاعب أجنبي". فالعقدة تبدأ منذ الطفولة، وتتخذ ثياباً عدة. ما يمنح النص مساحات مفتوحة للتأويل والتحليل. البيت... الوطن تجمع قصة "تعال أريك شيئاً" بين ذكريات شخص وتأملاته، حين عاد، في زيارة عابرة وسريعة، الى بيته الذي عاش فيه طفولته وشبابه، واضطر الى الهجرة عنه مطروداً مدفوعاً بريح صفراء ومصير تعس، فيأتي بعد تسعة وعشرين عاماً من الغياب، ليحل "ضيفاً" على أهله وعلى البيت الذي لم يشعر تجاهه بالحب المفترض. فهو يتأمل في ما آل اليه البيت، ويتأمل في ذكرياته عن البيت والحي والأهل، في غيابه وعودته، في مشاعر الحنين والغربة التي تتملكه وهو يرى "شيئاً" أراد والده العجوز أن يريه إياه، وإذا به أمام صدع "يرسل إشارات مظلمة" الى رأسه. وما بين الصدع الماثل في الجدار، والصدع الجاثم في روح الرجل الذي حلّ ضيفاً، تنبني القصة في مناخ حزن وأسئلة تأخذها من الخاص الى العام، ومن حال البيت الى حال الوطن المصدّع بفتح الدال المشددة وكسرها بعدم قدرة أبنائه على العودة الدائمة اليه. وتكون العبارة الوصفية القصيرة خير معبر عن ارتباك الرجل وضياعه. يتسع مفهوم الشمل، ليشمل حال الرجل "الضيف" في وطنه وبيته، وحال عائلته المبعثرة، غير القادرة - لظروف الشتات كما لظروف الوطن الناقص - على العودة. كما يشمل ما يحدث في عائلة أبي راجي، الذي يرفض الدفن بين الموتى، ويصر على أن يدفن في بستان البيت، ويذعن أبناؤه لوصيته، على رغم ما يمكن أن يقوله المتدينون الذين "ليس لهم من عمل سوى الثرثرة والتسبيح". وبعد الأب، تصر أم راجي على أن تدفن في جوار زوجها، فيجتمع شمل الزوجين، ويغدو البستان مدفناً للعائلة، حتى يصعب على الأبناء بيع البيت "فمن يبيع عظام أمه وأبيه؟". وفكرة جمع الشمل هذه، تتكرر في صور أخرى قريبة، كما حدث مع العجوز الذي فقد شريكة حياته، وبعد أربعين يوماً من الحزن على "العزيزة"، وعلى فقد "الجوهرة" كما يدعوها، يبدأ لديه شعور غريب بالوحدة، ثم تنمو في رأسه - وفي جسده أيضاً - فكرة الزواج من امرأة أخرى لا يعرف من تكون، أو كيف يختارها، لذا يقرر الاستعانة بخبرة زوجته الراحلة، وينفذ الأمر فيذهب الى قبرها، وهناك يستعيد علاقته بالراحلة، فيصاب بالحمى ويكتشف أن الوهن يفترس بدنه، فينام نوماً هانئاً ربما يكون "النوم" الأخير. وما بين حس الطرافة ووعي المأساة، يرسم المؤلف عدداً من المواقف التراجيكوميدية، المعبرة عن تناقضات الحياة وقسوتها. ففي "تسوية الأمور" صراع على القمامة بين عمال النظافة من جهة، وبين من يلتقطون من القمامة ما يمكن أن يبيعوه. وفي الصراع هذا، كما في أي صراع، منتصر - العاملان هنا - ومهزوم. وفيه شاهد يراقب ولا يعرف مع من سيقف، لأن لدى كل من الطرفين مبررات للمعركة. ومن المواقف الساخرة والمأسوية في آن، موقف "آمنة بنت الحاج محمود الصفدي"، الحامل التي ترفض، في أثناء الحصار على أحد المخيمات الفلسطينية، أن تأكل - كبقية أهل المخيم - الفئران المشوية والكلاب المطبوخة، وحتى القطط المحمرة "وكأنها بنت قصور"، ويستمر رفضها حتى تموت من دون أن تستوعب مبررات من يفرضون الحصار، وهي مبررات وطنية تقدمية، ومع ذلك "يصر البعض أن يجعلوا منها قصة، فتصوروا!". أما لماذا جعل المؤلف هذه المرأة الرافضة حاملاً، وكأن كونها إنساناً لا يكفي ليكون وضعها مأسوياً، فتصوروا! لكن المؤلف أراد - كما يبدو - أن يضاعف في مأسوية الحالة، لكن الأمر لم يكن محتاجاً - في رأيي - الى ذلك التضخيم، فالحالة ضخمة بذاتها. وثمة قصص تعالج أحوال الوحدة والعزلة والبطالة والضجر، لا تقل مأسوية عما قرأنا في باب الموت المادي والمعنوي في كثير من قصصه. لكنها هنا تشكل تنويعاً، تعمقاً، وتوسعاً ربما. فالكهلان اللذان يلتقيان يومياً، لا يعيران رواد المقهى أي اعتبار، لا يلبثان أن يتحمسا للافتراق كأنهما "يتخلصان بعضهما من بعض". والرجل الوحيد الذي يدعي أنه يريد قطة لطفله، يتحايل ليحصل عليها ويسهر ليلته الأولى معاً كما لو كانت انساناً. والشخص الذي ينادي "يوسف" لشخص يظنه صاحبه، سيكتشف أن يوسف مات وتركه وحيداً ينتظر الموت. وفي عتمة السينما التي لا تستمر - في العادة - دقائق، ليبدأ الفيلم، تبدو للرجل الوحيد كأنها الدهر. والشاب الذي يبحث عن عمل لأن أمه تريده أن يفعل ذلك، يلتقي في مؤسسة بصديقة قديمة تقنعه بضرورة أن يلتقيا ثم تغيب، وتتصل به لا لتلتقي به، بل لتدعوه الى زفافها من رجل آخر. وتتعدد النماذج التي تصب في الاتجاه نفسه تقريباً، مع اختلاف في اللغة والتفاصيل الصغيرة. وتظل لغة الريماوي الرشقة، المتظارفة، الدقيقة في الوصف، واحداً من أبطال كل قصة. * صدرت في منشورات "المجلس الأعلى للثقافة"، القاهرة، 2000.