فاضل الأنصاري. قصة الاستبداد - أنظمة الغلبة في تاريخ المنطقة العربية. وزارة الثقافة، دمشق. 2004. 488 صفحة. فاضل الأنصاري أستاذ جامعي له مؤلفات عدة. كان عضواً في القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي. لجأ الى دمشق فراراً من نظام صدام في السبعينات، وظل مقيماً فيها بصفته المذكورة الى أن توفاه الله قبل أشهر قليلة. والكتاب الذي بين أيدينا آخر أعماله، وكان من المقرر أن يكون بداية لسلسلة من الكتب حول استبداد الأنظمة العربية، كما جاء في المقدمة، لكن استبداد الموت كان أسرع. بل ربما أرحم من استبداد الأنظمة التي تحدث عنها، وكان لديه المزيد. يقول المؤلف بداية انه لا يوجد سلطان أو ملك في تاريخ الاسلام لم يسيس العقيدة الدينية لصالحه. لا يوجد تعريف شمولي للاستبداد بما يصلح لكل زمان ومكان. ولقد استمر النقاش في تاريخ الفكر السياسي حول طبيعة الاستبداد منذ البواكير الأولى لهذا الفكر. ومن بين المؤرخين او المفكرين المسلمين الذين تحدثوا عن الاستبداد: ابن قتيبة والجاحظ والغزالي. وفي العصر الحديث كان الكواكبي من أبرز من تناولوا الظاهرة التي يصفها بأنها "صفة مطلقة العنان للحاكم للتحكم في شؤون الرعية كما يشاء بلا خشية من حساب ولا عقاب". وكان مونتيسكيو قد وصف المستبد بأنه "من يحكم حسب نزواته بلا قوانين وبلا قواعد من مبدأ الخوف". وفي تاريخنا العربي استخدم عبدالملك بن مروان، الخليفة الأموي، القمع وسيلة لأغراض ترسيخ الحكم الأموي. وكان واليه على العراق الحجاج بن يوسف الثقفي نموذجاً للقمع في العراق، هو الذي نطق ب"حكمة" الاستبداد الخالدة: "من تكلم قتلناه، ومن سكت مات بدائه غماً". وممن فاق الحجاج بطشاً كان أبو مسلّم الخراساني، والي العباسيين على خرسان، والذي تذكر كتب التاريخ انه قتل ستمئة ألف شخص. ويرى المؤلف، بمطابقة تاريخية لمشاهير المستبدين، ان أشدهم نموذجية أولئك الذين عاشوا طفولة شقية أو غير سوية. وهم غالباً ما يصلون الى السلطة بالمناورة والخديعة ولا يتورعون عن ارتكاب أبشع الجرائم في سقام ذهني يتفاقم كلما امتد بهم الحكم وأدمنوا السلطة، وقد يبيدون مدناً كاملة بمجازر جماعية عندما يتمرد بعض الأفراد أو الجماعات تعبيراً عن ظلم يحيق بهم! وتنشط أجهزة متخصصة من كتاب ومفكرين ووعاظ في أدلجة تسويغ الاستبداد و"هويته"، في إطار الترويج لانتصارات الحاكم ومؤهلاته المذهلة، بوصفه بطلاً منقذاً أتت به العناية الالاهية. وبدوره يبالغ المستبد السفاح باحتياطياته، فيكثر اجراءات الحراسة الاجهزة الأمنية في وقتنا الحاضر، وينفق بلا حساب على أمنه الشخصي، وتتحول حياته الى أسر حقيقي ينعزل فيه عن الناس. ويزيده التحسب والارتياب قمعاً وانتقاماً. وبهذه الهواجس يبرز دور الحلقات الأمنية المتويعة باستمرار، وتصبح تصرفاتها فوق القانون، فتسوّغ أي شيء، لحماية المستبد، والتصدي للمخاطر التي تهدد سلطته. وتتوالى عمليات التطهير، وتشجيع الوشاية وتجهد في جمع المعلومات حول كل ما يفعله المواطنون أو يقولونه، فتصبح حياة الأفراد وكراماتهم رخيصة سهلة المنال. كما تنشط هذه "الأجهزة" في التسرب الى صفوف المعارضة، ورصد الأنشطة الثقافية المتنوعة، وضبط حركة المثقفين، وتشجيع نمط معين من الثقافة، ومنع أو حجب الأنماط الأخرى. ويرى أرسطو في كتابه الشهير "السياسة" ان الطغيان حكم أقلية، وحكم تضليل ومنافع ذاتية، لا يرمي الى مصلحة من المصالح العامة. أما تاريخنا الاسلامي الذي كثيراً ما نتحدث عنه بشيء من التقديس وكثير من الإجلال، فحافل بدوره بطغاة، كالخليفة العباسي المنصور والخليفة العباسي هارون الرشيد في قصاصه من البرامكة. ويستعرض المؤلف شخصيات عدد من مشاهير الطغاة في التاريخ، فيرى أن ثمة خصائص نفسية، أو لنقل أمراضاً نفسية، تجمع بين الكثيرين منهم. ومن أبرزها انفصام الشخصية وعبادتها. وعندما تستشري عبادة الشخصية عند الحاكم المستبد لا يكون مستعداً لسماع أي وجه للاعتراض. اذ تتقمصه الشخصية الكاملة المتفوقة المحصنة من الأخطاء. ومن صفات الطغاة حب البذخ المفرط. كذلك يُعتبر التظاهر بالتدين من الصفات الملازمة لكثير من الطغاة. و"الحاشية" جزء لا يتجزأ من النظام الاستبدادي. فالحاكم المستبد يختص بحاشية من الأصحاب والاقرباء وابناء العشيرة الذين يقودون المؤسسات ويروجون للحكم، وتمتد أيديهم الى سائر مفاصل الدولة والمجتمع، وقد يكون بينهم سياسيون وعسكريون ومثقفون ورجال دين معظمهم يجيد ثقافة التملق والمداهنة التي ترضي المستبد. كما يجهد هؤلاء في تقليد طباع سيدهم وخواصه بتجبرهم على الأدنى، وهم لا حد لشراهتهم للمنافع والثروات ولا نهاية لغلبة مصالحهم الشخصية على ما عداها. وثقافة المديح والاشادة بمواهب المستبد باتت فناً اعلامياً قائماً بذاته، فكم من هتلر عربي كان بحاجة الى غوبلز، اي الى صوت سيده؟ إن هذا الكتاب مرجع في طبائع الإستبداد والمستبدين.