لم يكن أشد المتفائلين بين عشاق كرة القدم في تشيخوسلوفاكيا قادراً على التنبؤ بإحراز بلاده كأس الأمم الأوروبية الخامسة عام 1976 ولكن كرة القدم قالت كلمتها بصوت عال، وأهدت المنتخب المجتهد أغلى ألقابه طوال تاريخه على حساب منتخبات عملاقة مثل إنكلترا والبرتغال في الدور الأول والاتحاد السوفياتي في ربع النهائي وهولندا في نصف النهائي، وأخيراً بالفوز على منتخب ألمانيا الغربية حامل اللقب في المباراة النهائية التي استضافتها يوغوسلافيا. ولأن النتيجة كانت غريبة جداً، حفلت تلك النهائيات التي تغير خلالها اسم البطولة من كأس الأمم الأوروبية إلى البطولة الأوروبية بعدد قياسي من المفاجآت والغرائب من بدايتها إلى نهايتها، وهي الأولى التي تحسم بركلات الجزاء الترجيحية في المباراة النهائية، ولم تتكرر تلك الواقعة حتى اليوم. المنتخب التشيخوسلوفاكي كان فقيراً للغاية في نجومه، ولم يكن لديه أي لاعب شهير في القارة الأوروبية أو على الصعيد العالمي، ولم يكن موجوداً على ساحة نهائيات كأس العالم في الدورة السابقة 1974 في ألمانيا الغربية. النهائيات الخامسة التي أقيمت بين 1974 و1976 كانت الأغرب في تاريخ البطولة الأوروبية، وتراجعت خلالها الأسماء الكبرى مثل إيطاليا وإنكلترا وفرنساوهنغاريا وتعثرت في التصفيات، ولم تعبر منتخبات الاتحاد السوفياتي وإسبانيا بطلا 1960 و1964 على التوالي وبلجيكا وصيف 1972 حاجز الربع النهائي ولحقت بهم يوغوسلافيا وهولندا وانتهى الأمر بالسقوط الألماني الغربي المريع. الإثارة بدأت باكراً بدأت الإثارة بعد وقوع عدد من المنتخبات القوية في مجموعات صعبة في التصفيات، ورشح الخبراء المنتخب الإنكليزي لصدارة المجموعة الأولى بعد منافسة قوية مع البرتغال مع مناوشات من تشيخوسلوفاكيا واستسلام من قبرص. وتأكدت الترشيحات في المباريات الأولى حين اكتسح الإنكليز ضيوفهم من تشيخوسلوفاكيا 3-صفر، وصمد المنتخب البرتغالي في ملعب ويمبلي العريق في لندن أمام مضيفه الإنكليزي وتعادلا سلباً. ولكن فرحة الخبراء بصدق توقعاتهم لم تدم، وفاجأ منتخب تشيخوسلوفاكيا منافسيه بفوز أسطوري في براغ على البرتغال التي "دوخت" الإنجليز 5-صفر وتوقفت الماكينة البيضاء بعدها عن الدوران للخلود إلى الراحة بعد ضمان الفوز. المباراة العجيبة كانت نقطة تحول في المجموعة، وأعطت ثقة هائلة لمنتخب تشيخوسلوفاكيا وتوالت انتصاراته وكان أهمها وأقواها في برايتسلافا على منتخب إنكلترا المتصدر 2-1 وعاد بعدها من بورتو بتعادل ولا أثمن مع البرتغال 1-1 وهي النتيجة التي حققها المنتخب الإنكليزي في البرتغال مما أعطى لتشيخوسلوفاكيا الفرصة لانتزاع بطاقة التأهل بعد فوزها في قبرص 3- صفر، ودفع المدرب الإنكليزي الشهير دون ريفي ثمناً غالياً وترك منصبه. المنتخبان النمساوي والهنغاري كانا مرشحين للتنافس على بطاقة الترشيح عن المجموعة الثانية مع مناوشات لمنتخب ويلز ومشاهدات لمنتخب لوكسمبورغ ولكن المسألة تكررت وفازت ويلز بالبطاقة وتنافست هنغاريا والنمسا على المركزين الثاني والثالث، وحجز منتخب ويلز صدارته في مباراته الأخيرة التي فاز فيها لدى الجميع بعد هدفه الثمين في تلك المباراة، وأعطى هذا التداخل شهرة عالمية للمدرب الويلزي مايكل سميث. وفي المجموعة الثالثة كان تأهل منتخب يوغوسلافيا منطقياً وسهلاً على حساب آيرلندا الشمالية والسويد، وكان المنتخب الآيرلندي بحاجة إلى معجزة في مباراته الأخيرة في بلغراد أمام 40 ألف يوغوسلافي، والفوز بفارق هدفين هو طريقه الوحيد لقلب الطاولة على مضيفه ولكنه خسر صفر-1 بجدارة. وتكرر الفوز المنطقي لإسبانيا في المجموعة الرابعة على رومانيا واسكتلندا والدنمرك وضمن الإسبان بطاقتهم باكراً بفوزين هائلين خارج ملعبهم في افتتاح المباريات على الدنمرك في كوبنهاغن وعلى اسكتلندا في غلاسغو بنتيجة واحدة 2-1 وهو الأمر الذي عوضهم إهدار نقطتين ثمينتين بالتعادل في مدريد وفالنسيا مع رومانيا واسكتلندا 1-1. إيطالياوهولندا وجهاً لوجه قمة الإثارة كانت في المجموعة الخامسة التي ضمت إيطاليا بطل 1968 ووصيف مونديال 1970 وهولندا وصيف مونديال 1974 وبولندا ثالث مونديال 1974 ومعها فنلندا واكتظت مباريات تلك المجموعة بأشهر لاعبي العالم. وبعد انتصارات هادئة للجميع على فنلندا بدأت المصادمات بفوز هولندي كبير على إيطاليا 3-1 في روتردام مع تألق لافت لكرويف. وازدادت جراح المنتخب الإيطالي الأزرق بإهدار نقطة أخرى على ملعبه بالتعادل السلبي مع بولندا، وعادت الآمال للجميع بفوز ساحق لبولندا على هولندا 4-1 ولكن الإيطاليين خرجوا نهائياً من المنافسة بتعادل سلبي عجيب مع أضعف المنتخبات وهي فنلندا وأمام 30 ألف مشاهد في روما، وانتزع الهولنديون بطاقة التأهل بفوزهم على بولندا 3-صفر في مباراة رد الاعتبار، وجاءت الصحوة الإيطالية متأخرة جداً بتعادل سلبي في بولندا وفوز غير مهم على هولندا 1-صفر. المنطق وقف بجوار السوفيات في المجموعة السادسة أمام آيرلندا وتركيا وسويسرا ولكن المنافسة كانت أقوى من كل التوقعات، وسقط السوفيات في أول وآخر مبارياتهم أمام آيرلندا صفر-3 وتركيا صفر-1 ولكن فوزهم المتتالي على كل منافسيهم في كييف وفي زيورخ على سويسرا أهداهم بطاقة التأهل بفارق نقطة واحدة عن آيرلندا. سقوط فرنسي السقوط الفرنسي في المجموعة السابعة أكد استمرار الهبوط للديوك الزرقاء على الصعيدين الأوروبي والعالمي، ولم ينل منتخب فرنسا سوى 5 نقاط في 6 مباريات ولم يفز إلا مرة واحدة على ملعبه على آيسلندا المغمورة، وانتزع منتخب بلجيكا الترشيح من ألمانياالشرقية رغم خسارته على ملعبه 1-2. وأهدت كرة القدم المجنونة للبلجيك مقعداً في ربع النهائي لأن الألمان خسروا للمرة الأولى في تاريخهم والأخيرة أيضاً 1-2 أمام آيسلندا في كبرى مفاجآت العالم والبطولة. آخر المجموعات شهدت تأهلاًَ معروفاً لمنتخب ألمانيا الغربية حامل اللقب على حساب اليونان وبلغاريا ومالطة، ولكن مرحلة الذهاب في المجموعة لم تكن سهلة أبداً على الألمان الذين تعادلوا مرتين في اليونان وبلغاريا وفازوا بعد مشقة على مالطة 1- صفر وفي الإياب قدم الألمان الفارق وتأهلوا قبل مرحلة من النهاية. ربع النهائي انتظر المنتخب التشيخوسلوفاكي طويلاً لرد اعتباره أمام نظيره السوفياتي الذي هزمه في نصف نهائي البطولة الأولى، وبالفعل تحقق الحلم بعد 16 عاماً وفاز 2-صفر ذهاباً وتعادل 2-2 إياباً، وكان المنتخب التشيخي أقرب أيضاً إلى الفوز إياباً أمام 100 ألف متفرج في كييف لولا براعة بلوخين الذي أحرز التعادل لأصحاب الملعب في اللحظات الأخيرة. وأعطت المباراة شهادة تقدير للمهاجم التشيخوسلوفاكي جوزيف مودير الذي أحرز 3 أهداف في المباراتين. وأطاح الألمان الغربيون بالإسبان بالتعادل 1-1 في مدريد والفوز 2- صفر في ميونخ، ولاحظ الجميع الفارق السلبي في أداء الألمان عن البطولتين السابقتين في أوروبا 1972 ومونديال 1976 ووضح أن غياب غيرد مولر وغونتر نيتزر وبول برايتز وغرابوفسكي أضر كثيراً بالفريق. تكررت النتيجة في مواجهة يوغوسلافيا وويلز، وصعد الأول بالتعادل إياباً 1-1 في كارديف بعد الفوز ذهاباً 2-صفر في بلغراد. المنتخب الوحيد الذي ترك انطباعا ًممتازاً وبصمة رائعة في ربع النهائي كان الهولنديون الذين اكتسحوا جيرانهم البلجيك بخماسية نظيفة في روتردام في مباراة العمر لهينزنبرنك الذي سجل أربعة أهداف بمفرده. وفي لقاء الإياب في بروكسل كانت المهمة مستحيلة على الحارس البلجيكي فافس ولم يتمكن من حماية فريقه من الهزيمة وخسر 1-2 أمام 19 ألف متفرج نصفهم من الألمان. نصف النهائي مباراتا الدور نصف النهائي جاءتا متشابهتين كثيراً، المنتخب الهولندي الممتع راح ضحية أخطاء تحكيمية عجيبة من الويلزي كليف توماس واستفاد منتخب تشيخوسلوفاكيا وأحرز فوزاً كبيراً 3-1. بادر المدافع وقائد تشيخوسلوفاكيا أنطون أوندروس بالتسجيل لبلاده على عكس سير اللعب، وقدم الحارس فيكتور مباراة بطولية وأنقذ مرماه مراراً حتى كان الخطأ الذي ارتكبه أوندروس وسجل في شباكه هدف التعادل لهولندا، وانتهى اللقاء وامتد إلى وقت إضافي أحكم خلاله الهولنديون سيطرتهم وهاجموا بكل اللاعبين ولاسيما في الدقائق الأخيرة حتى لا يصلوا إلى ركلات الترجيح التي يجيدها الحارس فيكتور، ولكن الاندفاع غير المحسوب أسفر عن هدفين معاكسين لنيهودا وفيسلي. في بلغراد كان المنتخب اليوغوسلافي صاحب الملعب والجمهور الأفضل من نظيره الألماني الغربي بكل المقاييس، وانتشى 70 ألفا فرحاً بهدفين باكرين في الشوط الأول، لكن انتفاضة الألمان قلبت الطاولة وتعادلوا 2-2 بهدفين، وجاء الوقت الإضافي اكتساحاً من اليوغوسلاف الباحثين عن الفوز قبل ركلات الترجيح ومواجهة الحارس الألماني المخضرم سيب ماير، وتكرر سيناريو المباراة السابقة ووسط هجوم يوغوسلافي كاسح سجل الألمان هدفين معاكسين من هجمتين مرتدتين لنجم المباراة ديتر مولر. خابت آمال اليوغوسلافيين في إحراز اللقب وقاطعوا مباراة تحديد المركز الثالث ضد هولندا وجاء أداء أصحاب الملعب باهتاً وكانوا خاسرين 1-2 حتى الدقيقة قبل الأخيرة التي تعادل فيها زاغيتش ولكن تمكن الهولندي رود غيلز من إحراز هدفه الثاني وهو الثالث لبلاده في الشوط الرابع الإضافي واقتنص الميداليات البرونزية. المباراة النهائية أمام 30790 متفرجاً في ملعب النجمة الحمراء في بلغراد أطلق الحكم الإيطالي سيرغو غونيلا صافرة المباراة التاريخية التي انتظرها الجميع. تطايرت التوقعات من الوهلة الأولى بهجوم للمنتخب التشيخوسلوفاكي أسفر عن هدف باكر في الدقيقة الثامنة، وعندما انطلق الألمان بقيادة القيصر بيكنباور وصانع الألعاب الجديد بونهوف بحثاً عن التعادل كان الرد صاعقاً بهدف ثان بعد 23 دقيقة لدوبياس، والطريف أن صاحبي الهدفين هما اللذان استبدلا لاحقاً في المباراة. الألمان عادوا سريعاً إلى المباراة وأبقوا آمالهم قائمة بهدف لديتر مولر بعد 29 دقيقة، ووقف الدفاع التشيخوسلوفاكي صلباً أمام الهجوم الألماني المكثف لمدة 61 دقيقة مع سلسلة إنقاذات بارعة للحارس فيكتور وعندما تأكد الجميع أن الكأس في الطريق إلى براغ فاجأ الجناح الزئبقي هولستاين الجماهير بإحراز التعادل للألمان في الدقيقة الأخيرة، وعجز الطرفان عن هز الشباك في الوقت الإضافي واعتمد كل طرف على مهارة حارس مرماه. وتوقفت القلوب عندما احتكم غونيلا إلى ركلات الترجيح للمرة الأولى في تاريخ أي مباراة كبرى، وتبادل الطرفان التسجيل حتى تعادلا 3-3، بعدها سجل كميك وأخفق هونيس ثم سجل بانينكا هدف البطولة وفاز 5-3.