بنايتان، الأولى قيد الإنشاء تجانب الأخرى ذات الطابقين. شقة في الطابق العلوي تحوي غرفة جلوس وأخرى للنوم، وشقة في السفلي تتمثل بمطبخ وممر يصل إلى بقية الغرف. شارع أمام البنايتين، يفصله عنهما ستار أحمر يُرفع ويُسدل، بحسب ما يناسب الحدث. إضافة إلى مشاهد سينمائية تعرض على الستارة، وتارة على إحدى البنايتين. كل تلك الفضاءات توجدها المخرجة اللبنانية عليّة الخالدي في مسرحيتها "أيام بيروت". المسرحية عن رواية لنازك سابا يارد، تعرض في الجامعة اللبنانية الأميركية - بيروت، حتى 23 أيار مايو الجاري. يكتسب العمل أهميته من موضوعه وطريقة تقديمه. وعلى رغم أن الأداء التمثيلي في مجمله يبدو ضعيف المستوى - لأن الممثلين بين طلاب وهواة، فإن الإخراج يبرهن على مخيلة واسعة لم يحدّها عمق المسرح وعرضه. فالخالدي تحاول استحضار بيروت على خشبة تظهر ضيقةً للوهلة الأولى. لكن مصمم الديكور - ريان تابت يملأ "مسرح غولبنكيان" بتراكمات على مستوى الديكور، قد تدفع المتلقي إلى الشعور بأنه أمام أكبر قاعة مسرح في لبنان. كل العالم يعرف بيروت. وقد يعرفها البعض بالاسم فقط - بأنها عاصمة لبنان. لكن المدينة، في مسرحية "أيام بيروت"، تختلف بعض الشيء عن تلك التي عرفها أهلها وزوارها، أو من سمع بها. بيروت في المسرحية تعج بالممثلين. ورشُ بناء ودكاكين ألعاب إلكترونية. عائلات منهمكة في ألم الحياة، وأُخر في ترفها. فتى يهرب من أمه بحثاً عن عالم الحرية. شوارع بيروت القديمة والجديدة، حالات أخرى متعددة ليست على المسرح فقط، بل على شاشة الفيديو أيضاً، التي يبدو أنها صارت هوساً في المسرح العربي. ترسم المسرحية بيروت مدينة للعبور من القديم إلى الجديد. وتسلط الضوء على مجتمع ما بعد الحرب، مفاهيمه وعلاقاته المتفككة. تلك العلاقات التي يحاول بناءها فنيان دون العشرين لم يعاصروا الحرب، يعملون في البناء، ويتعرضون للاستغلال بينما يفترض أن يكونوا في المدارس. وآخرون يتسكعون في محلات الألعاب الإلكترونية، ولا يتوانون عن الشجار مع من يضايقهم. التسكع في "أيام بيروت" ليس من اختصاص الأطفال المشردين فقط، بل هناك شبان الميليشيات - سابقاً، الذين لا يملكون عملاً. يترك العرض انطباعات وأسئلة عن مصير أطفال ما بعد الحرب الأهلية. لكنّ ذلك لا يعني وجود بحث مفتعل، فالنص يمزج أفكاراً تقليدية بحداثة تتمثل بصرياً، مما يخلق فوضى تخلّ في ترابط عناصر السينوغرافيا. مسرحية أشبه بالسينما المسرحية تبدو مركبة على الطريقة السينمائية. ذلك لا يعود إلى أن ثلاثة وثلاثين ممثلاً وممثلة لعبوا أدوار أكثر من سبعين شخصية. فالسبب الرئيس، في كون المسرحية أشبه بفيلم، يمثل تعدد الأزمنة والأماكن في عرض بدا كأنه فصل واحد مركب من مشاهد عدة. تتنقل هذه المشاهد مع البطل في كل مكان، كأفلام السينما. وتصاغ مفردات العرض بلغة بسيطة، لا تتمثل على صعيد الحوار فقط، بل ان أداء الممثلين غير المقنع يُظهر عدم الاهتمام بأبعاد الشخصيات وتفاصيلها. فبعض الممثلين اختفوا، باستثناء الشاب الميليشياوي أبو ناصر البيروتي والطفلة الصغيرة، ولم يكونوا الأهم في قائمة عناصر السينوغرافيا. إذ يبدو في العرض أن الخالدي اهتمت بطريقة تقديم متن الحكاية بصرياً، أكثر من أي شيء آخر - كمخرجة محترفة. تقوم الحكاية على قصة فريد الذي يبلغ من العمر ثلاثة عشر عاماً. تصادق أمه الأرملة رجلاً جديداً، ما يحمله على الهرب بحثاً عن عالم آخر. ينتقل إلى بيروت، منزل جده وجدته، المسافرين خارج لبنان. بيت جده في الطابق الثاني، بينما يسكن الطابق الأول ثلاث أخوات منهمكات في مرض أمهن. يلتقي فريد رجلاً كان في الميليشيات سابقاً، وفتىً في السادسة عشرة من عمره. قصص كثيرة تتشعب في اتجاهات عدة. أهمها غرامه بفتاة، لا يراها إلا مرة واحدة، ثم تتوه في زحمة المسرحية - كما يحصل في الحياة بعض الأحيان. إيقاع المسرحية الموسيقي نسجه زياد الأحمدية ب"رقصة العرس" لزياد الرحباني و"لحن الخلود" لفريد الأطرش و"لقاء" لمحمد عبدالوهاب، وسواها... بينما المشهد ما قبل الأخير بتوقيع زياد سحاب - الممثل، وآلة عوده. نساء في العزاء يلبسن الأسود على الموضة. رجال يعملون في البناء بتناسق حركي قد يكون من تصميم دينا أبو حمدان، مصممة الرقص في المسرحية. وأخيراً غناء هالة المصري "لبيروت" في لوحة تجريدية تختم العمل. كثيرة هي المشاهد الجميلة، على رغم وجود أسئلة حول إمكان حذفها. وقد يكون ذلك ما تريده الخالدي! فوضى تشبه كثيراً فوضى الحياة. تظل المسرحية تجربة جديدة مميزة، غنية في تركيبتها المختلطة باتجاهات مدارس مختلفة في السينما والمسرح والرقص، على رغم أنها قد تتطلب جهداً أكبر على مستوى التمثيل. وبكلام آخر، إنها ذات رؤية عميقة تبدو في حاجة إلى تنفيذ دقيق.