تصادف هذه الأيام ذكرى مرور 56 عاماً على قيام دولة إسرائيل. وعلى رغم أن مشروع إنشاء تلك الدولة كان بدأ قبل نصف قرن من قيامها، إلا أن الصراع الذي أفرزه ما زال محتدما حتى هذه اللحظة والأرجح أن يستمر معنا لفترة طويلة مقبلة، وذلك لسبب بسيط وهو أن المحاولات التى جرت لحسمه، سواء بالوسائل العسكرية أو بالوسائل السياسية والديبلوماسية، باءت جميعها بالفشل حتى هذه اللحظة، فضلاً عن أن احتمالات التوصل إلى تسوية نهائية للصراع لم تكن في يوم من الأيام أبعد مما هي عليه الآن. ومن المثير للانتباه أن إدارة الصراع بالوسائل العسكرية استغرقت مرحلة زمنية تكاد تكون مماثلة للمرحلة التي استغرقتها محاولات إدارته بالوسائل السياسية والديبلوماسية، فضلا عن أن كل مرحلة شهدت تحولات درامية بدت لهذا الطرف أو ذاك وكأنها تقربه من حسم الصراع نهائيا لمصلحته. فبينما شهدت المرحلة الأولى 1948-1973 اندلاع حروب: 1948و 1956و 1967 و1973، إضافة إلى حرب الاستنزاف، شهدت المرحلة الثانية 1974-2000 إبرام: اتفاقي كامب ديفيد 1978، معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية 1979، اتفاق أوسلو 1993، معاهدة السلام الأردنية - الإسرائيلية اتفاق وادي عربة: 1994، إضافة إلى العديد من المبادرات التي شكلت معالم مهمة على طريق التسوية: زيارة السادات للقدس وخطابه في الكنيست 1977، مؤتمرات: كامب ديفيد الأول 1978، مدريد 1991، كامب ديفيد الثاني 2000. وإذا كانت نتائج بعض الحروب دعمت من طموح أحد الأطراف في حسم الصراع عسكريا لمصلحته حروب 48 و67 بالنسبة لإسرائيل، فإن حروبا أخرى شككت في واقعية هذا الطموح حروب 56 و 73. أما معاهدات"السلام"العديدة التي تم إبرامها حتى الآن فعكست نهجاً لإدارة الصراع بوسائل أخرى، وليس لحل الصراع أو تسويته على نحو شامل ونهائي. ومن هنا يبدو من المفيد ومن الواجب أن تتحول ذكرى قيام إسرائيل هذا العام بالذات إلى وقفة لتأمل حقيقة ما جرى وللتحسب لما هو آت. ومن المؤسف أن يتصدر الساحة السياسية والفكرية في العالم العربي الآن مدرسة ترى أن تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي هو تاريخ الفرص الضائعة، وأن السبب الرئيسي في استمرار هذا الصراع هو عجز العالم العربي عن اغتنام فرص"التسوية"التي أتيحت أمامه في كل مراحل تطور هذا الصراع واضطراره، المتأخر دائما، للقبول في مراحل تالية بما كان يرفضه في مراحل سابقة، مما جعله يبدو وكأنه في حالة دوران حول النفس ولهث دائم وراء نوع من السراب المراوغ. غير أنني لا أتفق مطلقا مع هذه المدرسة. ففي تقديري أنه لم تتح في أي وقت من الأوقات فرصة لتسوية قابلة لوضع نهاية حقيقية للصراع، وبالتالي فالقول إن العالم العربي مسؤول عن المأزق الراهن بسبب عجزه عن اغتنام واحدة من الفرص العديدة التي أتيحت له هو قول يعكس رغبة غير مبررة في جلد الذات بأكثر مما يعكس استنتاجا مبنياً على تحليل علمي دقيق لطبيعة الصراع وأبعاده. ومن المؤكد أن إسرائيل والدول الغربية تروج لمدرسة جلد الذات هذه، والتي تجد لها، بحسن النية أو سوئها، صدى لدى شريحة من النخب العربية. غير أننا نود أن ننبه منذ الآن إلى نقطة جوهرية وهي أن رفض مقولات هذه المدرسة لا يعني أبدا إسقاط مسؤولية الدول العربية عن أخطاء عديدة وكبيرة وصلت أحيانا إلى حد الخطيئة في إدارتها للصراع مع إسرائيل. لكننا نعتقد أن هذه الأخطاء تعود في الوقت نفسه إلى الفشل في حشد كل الإمكانات المتاحة لمواجهة التحديات التي يفرضها هذا الصراع بأكثر مما تعود إلى الفشل في اغتنام الفرص التي أتيحت لتسويته. فحقيقة الأمر أنه لم تتح قط أي فرصة حقيقية لتسوية شاملة ونهائية للصراع العربي - الإسرائيلي في أي مرحلة من مراحل تطوره. ولكي نتمكن من توضيح حيثيات هذا الاستنتاج المهم، والذي قد لا يحظى بقبول الكثيرين، يجب علينا أن نتذكر حقائق أساسية تتعلق بطبيعة هذا الصراع: الحقيقة الأولى: أن السبب الأساسي، وربما الوحيد، لهذا الصراع يكمن في وجود مشروع صممته الحركة الصهيونية، وتبنته ورعته القوى الطامعة في الهيمنة على المنطقة، وأن الهدف الأساسي لهذا المشروع كان وما يزال خلق دولة في فلسطين يصبح من حق أي يهودي في العالم أن"يعود"إليها، ويستوطنها ويتمتع فيها بحقوق المواطنة كافة. ولأن هذا المشروع لم يكتمل بعد، رغم انطلاقته منذ أكثر من نصف قرن، فإن القائمين على أمره لم ولن يتخلوا عنه، واستخدموا وسيستمرون في استخدام كل الوسائل المتاحة المشروعة وغير المشروعة للوصول به إلى غايته النهائية و بشكل تدريجي وعلى مراحل، وفق ما تسمح لهم به إمكاناتهم في إطار الظروف المحلية والإقليمية والدولية المتاحة. الحقيقة الثانية: أن الطرف الفلسطيني كان في حالة دفاع دائم عن النفس ومطالب بصد هجمة لا قبل له بها تستهدف أرضه وهويته، وأن تعاطف بعض العرب وبعض المسلمين مع قضيته، لأسباب تتعلق بأمنهم الوطني أو بمشاعر تضامن قومية أو دينية، لم يرتفع بالعلاقات الفلسطينية العربية أو الإسلامية في أي يوم من الأيام إلى مستوى العلاقات الإسرائيلية الغربية أو المسيحية. لذلك انطوت موازين الصراع منذ البداية على خلل هيكلي دائم، على رغم امتلاك العرب والمسلمين، نظريا على الأقل، مقومات تمكنهم من الارتفاع إلى مستوى التحدي لو أنهم كانوا تمكنوا من حشد كل إمكاناتهم لإدارة هذا الصراع ووضعوه على صدارة جدول أعمالهم. لكن ذلك لم يحدث قط. والواقع أن من يتأمل مسار العملية المخططة والمبرمجة لتحويل المشروع الصهيوني من نطاق الحلم إلى حيز الواقع يسهل عليه أن يلاحظ أن الحركة الصهيونية وحلفاءها ظلوا ممسكين على الدوام بكل خيوط المبادرة والفعل. ولو أنهم كانوا رغبوا عن اقتناع في التوصل إلى حل وسط أو إلى مصالحة تاريخية لكان قد أمكن التوصل إلى مثل هذا الحل أو تلك المصالحة منذ فترة طويلة. ولأنهم ظلوا على ثقة تامة من أن الوقت يعمل لمصلحتهم، فقد تبنوا منهجا تدريجيا مرحليا هدفه الأساسي تقوية الذات وإضعاف الخصم، والارتكاز على ما يتحقق في مرحلة للبناء فوقه في المرحلة المقبلة، مع العمل بكل الوسائل الممكنة على طمس وإخفاء أهدافه النهائية والكاملة، والتي ما زال البعض مقتنعا أنها تشمل بناء الدولة اليهودية الخالصة من النيل إلى الفرات. فعندما صدر وعد بلفور كان الهدف المعلن لا يتجاوز"إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين"وصدرت تأكيدات أن هذا"الوطن القومي"لا يعني"دولة يهودية". وعندما تحول وعد بلفور إلى مشروع تتبناه"عصبة الأمم"ورد في صك الانتداب صراحة التزامه بعدم إلحاق أي ضرر بحقوق السكان الأصليين من عرب فلسطين. لكن ما جرى على ارض الواقع كان مخالفا تماما لهذا الالتزام. فقد جرى الاستيلاء على الأرض الفلسطينية بوسائل مشروعة وغير مشروعة، وجرى تسليح المهاجرين الجدد المقبلين إلى إسرائيل تحت عين وبصر قوات الاحتلال البريطاني استعداد لإقامة"دولة يهودية"بقوة السلاح إذا لزم الأمر. وعند الاقتراع على مشروع لجنة تقصي الحقائق في الجمعية العامة مورست ضغوط دولية هائلة لإقرار مشروع التقسيم. ولم يكن رفض هذا المشروع من جانب العرب فرصة ضائعة لسبب بسيط وهو أن التسليم بحق اليهود في 65 في المئة من فلسطين التاريخية لم يكن يكفي في حد ذاته ضمانا لردع الحركة الصهيونية عن اختلاق الذرائع مستقبلا لاستكمال مشروعها التاريخي، خصوصا وأن هذا القرار غير العادل أصلا صدر عن جهة لا تملك سلطة التقرير المنفرد لمصير شعب وليس لها إصدار القرار الملزم أصلاً. ويلاحظ أن إسرائيل كانت جاهزة تماما لحرب 48 وتستعد لها منذ فترة، وهي حرب مكنتها من ضم مساحة تزيد 22 في المئة عن المساحة المقررة لها في قرار التقسيم، ومن طرد ما يقرب من مليون فلسطيني لتخلق مشكلة جديدة حادة هي مشكلة اللاجئين الفلسطينيين والتي يستحيل تسوية القضية من دونها. وحين لاحت خلال الفترة من 53 - 55 فرصة لتسوية، بوساطة أميركية مع مصر، بدا عبد الناصر على استعداد لحل وسط يقوم على قبول إسرائيل والاعتراف بها وتطبيع العلاقات معها على اساس قرار التقسيم مع تعديلات طفيفة في الحدود تضمن لإسرائيل المساحة نفسها المقررة لها في قرار التقسيم وتضمن لمصر امتدادا جغرافيا مع المشرق العربي. لكن إسرائيل رفضت رفضا قاطعا، وبدأت تبحث عن فرض حل عسكري غارة إسرائيل على غزة عام 55 ثم مشاركة إسرائيل في العدوان الثلاثي عام 56. وعندما بدأ العرب يتخلون تدريجيا عن مطالبهم القديمة بعد حرب 67 ويصبحون مستعدين لتسوية على أساس حدود 67 وعودة اللاجئين الفلسطينيين، بذلت إسرائيل كل ما في وسعها لنسف أي فرصة للتسوية على هذا الأساس. ولو أن إسرائيل كانت قبلت العودة إلى حدود 67 وأبدت استعدادها لتحمل المسؤولية لأمكن حل مشكلة القدسالشرقية تلقائيا ولأصبحت مشكلة اللاجئين قابلة لحلول مبتكرة توفق بين حق العودة وبين مخاوف إسرائيل الديموغرافية. لكن إسرائيل اصرت على اعتبار الأرض الفلسطينيةالمحتلة أرضا متنازع عليها يتعين تقسيمها، وراحت حتى بعد إبرام معاهدة سلام مع مصر تكثف مستوطناتها في الضفة والقطاع على نحو غير مسبوق. وعندما جرؤ أحد قادة إسرائيل على إبرام اتفاق أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية اغتاله اليمين الإسرائيلي المتطرف الذي نجح في نهاية المطاف في وضع العراقيل لنسف اتفاق أوسلو. ولم تشكل الصفقة التي عرضها بارك في كامب ديفيد الثانية في تقديري، أساسا لحل دائم، خصوصا أن رابين رفض أي سيادة فلسطينية أو إسلامية منفردة على المسجد الأقصى كما رفض الاعتراف بحق اللاجئين في العودة. أما الحل الذي يطرحه شارون الآن يتمثل في خطة للانفصال أحادي الجانب من غزة يفترض أن تمهد الطريق لمفاوضات لاحقة مع سلطة فلسطينية معتدلة عليها أولا أن تثبت جدارتها في تصفية فصائل المقاومة قبل أن تنال شرف الجلوس على مائدة المفاوضات مع شارون ولتحصل على مساحة إضافية من الضفة الغربية قد تصل إلى24 في المئة، وبذلك يمكن إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح خلال مرحلة قد تستغرق عشر سنوات وعلى مساحة لا تتجاوز 01 في المئة من فلسطين التاريخية. واعتبر شارون أن هذا الحل كريم وشجاع إلى درجة تستحق ثمنا كبيرا قبل بوش أن يدفعه راضياً في صورة خطاب ضمانات مكتوب يوافق فيه على الموقف الإسرائيلي لعودة اللاجئين ولحدود 67. المذهل في الأمر أن حزب ليكود لم يوافق على الخطة موجها صفعة قاسية للرئيس بوش بعد أن حصل شارون منه على ضمانات لم تكن تحلم بها إسرائيل. وبصرف النظر عما إذا كانت هذه المناورة تدخل في لعبة توزيع الأدوار أم تنم عن خلافات حقيقية في وجهات النظر إلا أن حزب ليكود يعرف أنه لن يكون بوسع بوش أن يتراجع عن الضمانات التي قدمها، خصوصا في سنة انتخابية، كما يعرف أن اللوبي الصهيوني في الولاياتالمتحدة سيكون جاهزاً لكي يحول خطة شارون في نهاية المطاف، إلى سقف للمطالب الفلسطينية والعربية. فها هو هنري كيسنجر يخرج علينا بمقال نشرته صحيفة"الشرق الاوسط"في عددها الصادر في 9/5 تحت عنوان"فرصة سانحة لاختراق الجمود في الشرق الأوسط". وفيه يعلن موافقته على ما قاله توني بلير من أن"مبادرة بوش - شارون يمكن أن تتحول إلى فرصة مهمة للعالم العربي وللفلسطينيين على وجه الخصوص. فالانسحاب الإسرائيلي من غزة سيوضح ما إذا كان يمكن تأسيس كيان فلسطيني سلمي تقدمي لا تهيمن عليه قوة خارجية يملأ الفراغ الذي سيتركه الانسحاب الإسرائيلي. ومن شأن هذه الخطوة أن تساعد على تعزيز فرص التعايش السلمي في المنطقة، أكثر من أي صيغة تفاوضية أخرى". لكنه لم يكتف بذلك وإنما راح يوزع الأدوار على الولاياتالمتحدة والدول العربية"المعتدلة"من أجل وضع خطة شارون موضع التطبيق. فهل هذه حقاً فرصة متاحة لتسوية، أم استمرار للمحاولات الرامية لتطويع الموقفين الدولي والعربي للرؤى الإسرائيلية للتسوية، وهي رؤى لم ولن تتخلى في نهاية المطاف عن تحقيق مشروع"إسرائيل الكبرى"، وفرضه كحقيقة واقعة على الجميع. الواقع أنني لا أملك سوى القول إن المشكلة الحقيقية تكمن في أنه في الوقت الذي راح العرب يبحثون عن حل عادل أو تسوية نهائية مبدين استعدادهم لحل وسط تاريخي، ظلت إسرائيل منشغلة بإدارة الصراع على نحو يقربها من تحقيق أهدافها النهائية من دون أن تلقي بالاً لأي حلول وسط. وعند الحديث عن الاحتياجات الأمنية لا يؤخذ في الاعتبار سوى أمن إسرائيل، التي تملك 500 قنبلة نووية وترسانة هائلة من جميع أنواع أسلحة الدمار الشامل إضافة إلى واحد من أقوى وأفضل جيوش العالم تسليحاً وتدريباً. أما أمن العرب فلا أحد يفكر فيه أو يبدي ضمانات لتحقيقه، وكأن انتهاك حرمات الشعوب العربية وأراضيها هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق أمن إسرائيل وحلفائها الغربيين. وعندما يصل الأمر إلى حد احتلال العراق وانتهاك حرمته على هذا النحو الفاجر، أليس من حقنا أن نطرح السؤال: لماذا يكرهوننا إلى هذا الحد؟. فما أصابهم في 11 أيلول سبتمبر كان حدثاً عابراً من فعل قلة لا تمثلنا شعوبا أو حكومات، لكن ما يفعلونه بنا منذ عشرات السنين هو سياسة رسمية منظمة وعنصرية. * كاتب وأكاديمي مصري.