مما لا شك فيه، أن انتهاء حلقات المسلسل الكوميدي الأميركي الشهير "فريندز" الأصدقاء، سيترك فراغاً كبيراً في قلوب ملايين المشاهدين الذين تابعوا حلقاته ال236 على امتداد عقدٍ من الزمن. عقد كامل منذ أن دخل مقهى "سنترال بارك" الذي يلتقي فيه الأصدقاء الستة "رايشل"، "مونيكا"، "فيبي"، "روس"، "جوي" و"تشاندلر" منازلنا كمشاهدين. الأبطال الستة عاشوا كجيران. وكان لأسلوب حياتهم المُصور الفضل في جعلنا نسمع عبارة: "كم أتمنى أن أعيش مثلهم"، تنطلق من أفواه شباب يحلم بحياة أكثر حرية، بخاصة وأن كثيراً من هؤلاء لا يستطيعون الاستقلال عن أهلهم سواء مادياً أم اجتماعياً. ولا تقتصر لائحة الأمنيات التي نتجت من مشاهدة هذا المسلسل وغيره من البرامج الأميركية على "أريد بيتاً أسكن فيه وحدي"، على أن يكون البيت في مدينة تعج بالحركة، بل تتعداها إلى طلب تكوين "أصدقاء شلة نعيش معها المواقف واللحظات الطريفة التي ستنزع صفة الروتين عن حياتنا اليومية"، وقد تجمعك في أي لحظة بفتاة حسناء/ شاب وسيم في المكتبة أو لدى المصبغة وبالتأكيد في المقهى. كما أن أسلوب الحياة الذي قد يعتبره كثيرون ليبرالياً ومثالياً، يغري قسماً كبيراً من شباب يعيش في بيئات تمنعه من إبداء رأيه في أموره المصيرية، مثل التخصص الجامعي، الوظيفة، سن الزواج وشريك الحياة ناهيك بالسياسة. فكيف هي الحال عندما يقلب محطات التلفزيون شاب تحكمه قيود تمنعه من رؤية الجنس الآخر أو التحدث معه، ليتوقف عند "فريندز" أو "سكس أند ذا سيتي" الجنس والمدينة ويرى كيف ان الأمور تتم ببساطة في الخارج. ف"جوي" ممثل كان يكتفي بالابتسام وإلقاء تحيته المعهودة How you doin-، ليتعرف الى فتاة حسناء في المقهى، من دون مطاردتها داخل المراكز التجارية أو ملاحقة سيارتها. وعلى رغم إدراك الجميع أن ما يجري مع "جوي" هو مجرد تمثيل مبني على نص وسيناريو، تبقى هناك "غصة" لدى البعض تجاه أسلوب الحياة المصور، عندما تتم مقارنته بالواقع، بخاصة أن المسلسل هو من نوع situation comedy وليس خيالاً علمياً لا يمكن تصديقه. لكن هذه ال"غصة" لم تمنع "فريندز" من تسلية متتبعيه، فمن منا لم يبتسم لعفوية "فيبي" أو نكات "تشاندلر"، ومن منّا لم يتساءل عن مصير العلاقة بين "روس" و"رايتشل". ويبدو أن منتجي البرنامج أحبوا إبقاء ذلك سراً حتى النهاية. ويرمز هذا التزاوج في شكل غير مباشر إلى الانفتاح واللاطائفية اللذين يتصف بهما "الحلم الأميركي"، ف"روس" و"رايتشل" ينتميان إلى ديانتين مختلفتين. وفي هذا الإطار يعتبر البعض أن المسلسل نجح في تعريف المشاهدين الى بعض التقاليد اليهودية، كأن يحاول "روس" في إحدى الحلقات، إقناع ابنه من زوجته السابقة بالابتهاج بعيد "هونيكا" اليهودي، تماماً كما يبتهج في عيد الميلاد. ويحاول خلق شخصية "أرنب الهونيكا" ليحبب العيد أسوة ب"بابا نويل". إلا أن ذلك لا يجعل المسلسل جزءاً من "المؤامرة الغربية الهادفة إلى سلخ هويتنا وتطبيعها"، وهي التهمة الكلاسيكية التي يلصقها البعض بكل ما يصل إلى البلاد العربية من الخارج. فالواقع مغاير لتلك الفكرة، ف"فريندز" إنتاج أميركي ضخم يتقاضى فيه كل بطل من الستة الرئيسيين مليون دولار عن الحلقة. كما انه يستهدف أولاً وأخيراً الأميركيين أنفسهم، إذ شاهد 51 مليون شخص منهم الحلقة الختامية من المسلسل، وسعرت خلالها الثلاثون ثانية الدعائية بمليوني دولار. أما السبب الأهم فهو أن هذه المسلسلات الكوميدية لا تكتب بغرض غسيل أدمغة مشاهديها، بل تستند إلى الواقع بالفعل. كما أن غياب القيود على كتابة النصوص في الولاياتالمتحدة، وحرية الحديث عن السياسة أو الدين أو الجنس، أو حتى السخرية من المواقف المتعلقة بهذه المواضيع، هي أكثر ما يلفت الانتباه. والدليل هو الإقبال الكبير الذي تحظى به البرامج التلفزيونية الفكاهية، كالتي يقدمها "جاي لينو" أو "كونان أوبراين"، والتي تسخر من الواقع وتصرفات الشخصيات السياسية والاجتماعية والفنية. ولو لم يشعر الأميركيون أنّ بإمكانهم ربط ما يشاهدونه بالواقع لما تابعوا "فريندز"، بهذا الشغف لمدة عشر سنين. وفي هذا المجال يقول الكاتب جاشوا ليفز في مقالة منشورة على أحد المواقع الإلكترونية الأميركية بأن "فريندز" كان "ينجح دائماً في نقل نبض المجتمع، وإن كان هذا النبض خاصاً بشريحة اجتماعية معينة". وللأسف لم ينجح أو ربما يفكر أي من رجال الأعمال أو المستثمرين العرب الذين ينادون بضرورة تحسين صورة شعوبهم لدى الغرب في استغلال هذا المسلسل الذي كبر معه جيل كامل من الأميركيين. فحلقات المسلسل أظهرت تقريباً كل الأعراق الموجودة في الولاياتالمتحدة، مثل الأميركيين الأفارقة، والأميركيين الآسيويين، لكننا لم نشاهد أي شخصية عربية - أميركية تشارك في الأحداث. وربما كان إقحام شاب عربي وسيم ومثقف أو شابة عربية جميلة تتقن الإنكليزية إلى المسلسل، عبر نفوذ الأموال العربية، أفضل بأشواط في إيصال فكرة أن "الإرهابيين ليسوا سوى قلة من العرب"، من المواقف التي يجود بها ساستنا، والتمخض في كتابة الخطب المدججة بالكلمات والتعابير الثقيلة التي لا يفهم معناها أو يسمعها سوى من يلقيها.