من أسباب تعثر النهضة العربية التحديث المغشوش الذي تفرضه عليها نخبنا ذات المعرفة العامية. فهذه النخب أدلجت كل شيء وسيّسته بحكم خدمتها المباشرة أو بصورة غير مباشرة سواء انتسبت هذه النخب إلى التيار التحديثي أو إلى التيار التأصيلي بصنفيهما التابع للحكم والتابع للمعارضة، سواء كانت رفهانة في فنادق الغرب أو جوعانة في سجون ولاته في بلادنا. وفقد الفكر الفلسفي عند العلمانيين والفكر الديني عند الأصلانيين خاصيتهما الجوهرية، ولم يبق أي منهما طلباً للحقيقة لذاتها بل بات الجميع يعتبر الحقيقة من الأوهام حاشا أن يكون القصد المعنى النيتشوي خصوصاً بعد سواد الدهماوية الدينية التي أعمت بصيرة فقهاء الشرع والديماغوجية الفلسفية التي بلّدت أذهان فقهاء الوضع. وزاد الطين بلة سواد نسبوية ما بعد الحداثة المطلقة التي يكتفي البعض بنقدها المركزية الغربية ليعتبرها محررة للبشرية، في حين أنها منطلق العبودية الكونية التي تشكّك في الثوابت العقلية لتزرع الخرافات التوراتية، كما في اليهودية المتصهينة عند من يسمى بفلاسفة فرنسا الجدد وفي المسيحية المتصهينة الأميركية. فقد وجد الكثير من أعشار المثقفين في الريبية والنسبية المطلقتين اللتين يبشر بهما هذا الفكر كل المبررات للعزوف عن طلب الحقيقة بعد التسليم الساذج بمفروضات التشكيك في كل المسلمات باستثناء مسلمات التشكيك التي هي في الحقيقة شرط التفريغ المعد لأرضية البربرية الإرهابية الدينية في تاريخ الأحداث: الإرهاب المادي أو طاغوت فقهاء الشرع والبربرية الإرهابية الفلسفية في تاريخ المعاني: الإرهاب الفكري أو طاغوت فقهاء الوضع. وليس عندي أغرب من الجهلوت الذين يحطون من شأن الثقافة العلمية ويزعمون مواصلة النقد الهيدجري للميتافيزيقا لكأن يوجد عندنا علم فضلاً عن الشطط فيه حتى نحاول الحد من سلطانه بإحياء الثقافة التافهة لبعض متعلمي الفلسفة من مجلات التثقيف العامي والخالطين بين التراجم الذاتية والفكر الفلسفي السامي! لن ينصلح لنا حال ما لم نفحص التحديث المغشوش في المجال الفلسفي ونظيرته التي هي الصحوة المغشوشة في المجال الديني. وسنقتصر هنا على التحديث المغشوش، وقد نعود إلى الصحوة المغشوشة فنعالجها لاحقاً. ما يعنينا هو ثمرات التحديث الفلسفي المغشوش الذي أنتج نجوماً فكرية فقاعية أفسدت النهضة وقتلت التأصيل معها لكونها كانت تأصيلاً وتحديثاً مغشوشين. وليكن مثالنا ما يسمى بالرشدية العربية المحدثة التي سنرمز إليها بعمامة ابن رشد. فبالقياس إلى ابن رشد دون سواه وضع أكثر مشاكل نهضتنا زيفاً المشكل الذي فرضه على تاريخ الفكر ما يسمى بالرشديين العرب الذين غرتهم سخافات رنان العنصرية باستثناء ابن رشد مما يزعمه بلادة سامية حصرا في فروعها العربية. فهم يزعمون أن قطع الحضارة العربية مع آثار ابن رشد الفكرية كان علة انحطاطها زعمهم بأن صلة الحضارة الغربية بفكره كانت سبب نهضتها، فكلا الزعمين فيه كثير نظر حتى لا نقول شيئاً آخر. أصلا التعمم بالرشدية كل مغالطات الرشديين المحدثين نتجت من هاتين المسلمتين اللتين لا يوجد أدنى دليل على امكانهما فضلاً عن الترجيح. فاعتبار اتصال النهضة الغربية بالفكر الرشدي علة في النهضة الغربية كان يكون صحيحاً لو صح أن الغرب اعتمد فيها حقاً على الفكر الرشدي وليس على فكر من قطع معه منهم وقبل ذلك على من تجاوزه منا تجاوزاً كيفياً حتى وإن تقدم عليه بالزمان، قصدت ابن سينا والغزالي أساساً فضلاً عمن تلاهما كابن تيمية وابن خلدون. كما أن اعتبار قطيعة الحضارة العربية مع فكره علة انحطاطنا كانت تصح لو صح أن الشرق انحط لتخليه عن فكر ابن رشد. وطبعاً فنحن في فحصنا الفرضيتين نسلّم جدلاً بما يسمى بالفكر الرشدي، إذ حتى هذا فإن طلب اثباته مشروع فلسفياً. لم أجد في تاريخ الفكر الإنساني الحديث ما يمكن أن يعد حقاً نظرية رشدية في أي مجال من مجالات الفكر الفلسفي التقليدية سواء كان هذا المجال كونياً أو خصوصياً إذا ما استثينا الجدل العقدي حول مسائل التنافي بين ما رجحه من تأويلات علم النفس الأرسطي والعقائد المسيحية التي باسمها حوكمت أفكاره. وهذا طبعاً لا يمكن أن يعد أمراً فلسفياً بل هو مجرد قضايا كلامية تهم الثيولوجيا ولا علاقة لها بالعلم الطبيعي ولا الانساني ولا حتى بالإلهيات الفلسفية، أعني نظرية الوجود والحقيقة والقيمة. ولست أعجب من الأهمية التي يوليها فكرنا لمثل هذه الأساطير: فهو كله بأصلانييه وعلمانييه مقصور على الصراع الإيديولوجي الذي يتوهم أن كون كل شيء ذا بعد سياسي وغير قبل للموضوعية المطلقة يعني بالضرورة أن نقصره على السياسي وان نجعل فضالة الذاتية التي يستحيل التخلص منها مطلوباً ينبغي حصر الفكر فيها. المسألة الأولى: وصل الحضارة الغربية المزعوم مع الرشدية لو زعم شخص أن نقد الفلسفة اليونانية في شكلها المنحط الذي لم يتخلص منه العرب إلا في القرن الخامس بفضل نقد الغزالي لما بعد الطبيعة في تهافت الفلاسفة ولما بعد التاريخ في فضائح الباطنية قد ساعد الغرب في اكتشاف موطئ قدم لانطلاقة مبدعة لكان كلامه مسموعاً. أما أن يزعم ذوو الفكر السطحي أن نظرية البرهان وإيديولوجية الميتافيزيقا الشمولية يمثل السعي الرشدي لبعثهما دوراً يذكر في الثورة الديكارتية أو اللايبنتسية وبخاصة في العلم الحديث فلا حول ولا قوة إلا بالله. كيف يغيب عن قائلي مثل هدا الكلام أن البرهان يعني أمرين لم يصبح العلم الحديث ممكناً إلا بعد التخلص منهما: الأول يخص وصل البداية بين صورة البرهان ومادته أعني نظرية المقولات والحد، والثاني يخص وصل الغاية بينهما أعني نظرية المطابقة بين الضرورة المنطقية والضرورة الوجودية. وكل من قرأ كتابي ديكارت في المنهج القواعد والمقال حتى في الترجمات يعلم أن بناء النظرية عنده غني عن هذين المبدئين لكون النظرية ذريعة رياضية لفعل العقل في موضوعه وليست بالضرورة مطابقة للحقيقة الوجودية. لذلك اعتبر ديكارت العلم في حاجة إلى ضمانة إلهية تؤسس المبدعات النظرية بداية وغاية، فالضمانة الإلهية ضرورية عنده بداية حتى لا تكون مبادئ العلم الأول وموضوعه من خداع الشيطان الماكر. وهذا دليل الى أنها مبادئ عقدية وليست مبادئ علمية. فبعد الكوجيتو - الحقيقة الوحيدة الغنية عن الضمانة - لا يمكن الخروج من انطواء الذات الوجودي إلى العالم الخارجي من دون مسلمات تحتاج إلى ضمانة إلهية. وكلها مبادئ يعتبرها ديكارت خياراً حراً لله وليست قوانين فوق إرادته. فلا مبادئ العقل ولا حقائق الرياضيات ولا قابليتهما للانطباق على عالم يصعب الخروج إليه من انطواء الكوجيتو على ذاته بقابلة للتسليم فضلاً عن الاستعمال من دون ضمانة البداية التي هي عقدية. ذلك أن الأدلة الثلاثة على وجود الله نفسها تفترضها فلا تكون ذات أثر من دون هذا المبدأ العقدي، من دونها كان ينبغي أن يتوقف ديكارت عند غاية التأمل الثاني. والضمانة المنهجية الرياضية الحدسية لا المنطقية الصورية ضرورية لتحقيق المطابقة شرط تخليص العقل الحكم من تحكم الإرادة لما بين مستطاعيهما من نسبة هي نسبة المتناهي إلى اللامتناهي. وهذا دليل الى أنها شروط خلقية وليست تقنيات منهجية. فما يحول دون العقل والحكم المتسرع بتأثير من الإرادة لامتناهية الحرية إمعاناً في الفحص المنهجي ليس قواعد منهج بمعنى فنيات التعامل مع الموضوع بل هو قواعد طريقة بمعنى خلقيات ضبط سلوك الذات المعرفي. القواعد الأولى تتوجه من عملية الفكر إلى الموضوع فتكون منهجاً بالمعنى المعرفي للكلمة معناها الشبيه بالتقنيات العلاجية لتمنع مادة المعرفة على صورتها. والقواعد الثانية تتوجه منها إلى الذات فتكون طريقة بالمعنى الخلقي للكلمة معناها الشبيه بمعنى الطريقة الصوفية سلطاناً على الإرادة. وليس مدلول الفينومينولوجيا عند هيغل إلا حصيلة التوحيد الجدلي بين التوجهين المبدعين للموضوع والذات معاً خلال ابداع العلاقة بينهما العلاقة التي يكون نموها وتطورها عين الوجود الموضوعي للعقل. والمعلوم أن كل هذه المعاني لا يمكن أن تكون قد دارت في خلد ابن رشد وإلا لما فهمنا سر سعيه الى إلغاء محاولات التحرر من انحطاط الفكر اليوناني المتأخر والعودة إلى "تفسير النصوص الفلسفية المقدسة" بنفس أسلوب الشرح اللفظي كلمة كلمة من دون شروط التفسير الشكلية العلم بشروط التعامل مع أداة التعبير لكأن الترجمات وحدها تغني عن الأصل وشروطه المضمونية والعلم بشروط التعامل مع مضمون التعبير لكأن الزاد العلمي الأرسطي يغني عن التقدم العلمي الذي تلاه وبخاصة في الرياضيات وتطبيقاتها الطبيعية والفكلية. أما عقل لايبنتس الرياضي والمنطقي فهو مما لا عين ابن رشد رأت ولا أذنه سمعت ولا خطر على باله في المعلوم من أعماله. فهل يمكن أن يقبل ابن رشد بنظرية ميتافيزيقية يجعل تصورها للعلم الصور الجوهرية متدانية إلى ما دون الوحدة النوعية فتنزل إلى الوحدة العددية ومتسامية إلى ما فوق الوحدة التناسبية فتصعد إلى قانون لايبنتس الثوري الذي لم يبن بمقتضاه حساب التكامل والتفاضل فحسب، بل كذلك مبدأ انطباق الرياضيات على كل الموجودات بفضل هذه النظرية التي تجاوزت مبدأ عدم تواصل الأجناس المبدأ الذي كان سبب عقم نظرية العلم الفلسفية القديمة والوسيطة ؟ المسألة الثانية: قطع حضارتنا المزعوم مع الرشدية أما القسم الثاني المتعلق بقطيعة حضارتنا المزعومة مع الفكر الرشدي، فمن السخف القول إننا لو اتبعنا الفكر الرشدي لما انحططنا، مع علم الجميع أن الذين تقدموا لم يتقدموا إلا بالقطع مع المدرسية بعامة والرشدية بخاصة. ثم إن من اليسير على أي مؤرخ للنصوص أن يثبت أن كل المحاولات الفكرية المنتسبة إلى الاختصاص في المجالين النظري والعملي وحتى الجمالي والوجداني لم تهمل الرد على ابن رشد. فابن تيمية وابن خلدون والقرطاجني ومدارس التصوف المغربي كل هؤلاء علقوا على أعماله تعليقاً صريحاً وبيّن المقاصد. فأي معنى للقول بأنه قد نسي أو أهمل؟ أم هل إن عدم اتباعه في ما دعا إليه هو المقصود بالاهمال والقطيعة؟ ثم ماذا لو ادعينا أن ابن رشد لم يكن زاده العلمي بالنظريات الرياضية والطبيعية التي حاولت استيعاب العلم اليوناني وتجاوزه في الكثير من الابداعات دون آخر فلاسفة المشرق العربي فحسب بل كان دون زاد أولهم. وهذه ملاحظة قد تثير غضب المتعصبين للمقابلة بين المشرق العرفاني والمغرب البرهاني، خصوصاً وهي تصدر عن مغربي يحاول أن يكون حقانياً. فالحقيقة أحب إلي من التعصب للتجمعات الجهوية التي ليس لها من معنى إلا مواصلة مجالات التأثير الاستعماري: المغرب العربي لفرنسا إلى أن ترثه وريثة انكلترا في الخليج العربي فنتحد في الشرق الأوسط الكبير! ذلك أن من المعلوم أن المقابلة بين المشرق والمغرب علتها الاعتداد بالفروق الثقافية التي حصلت خلال مرحلة الاستعمار. وهي لا تختلف عن المقابلة التي من جنسها والتي تستند ما تقدم على الإسلام، أعني في عصر الحضارات القديمة التي يراد إحياؤها لا من حيث هي جزء من الهوية التي تجاوزتها في تكوينيتها الروحية بل لأداء دور الهوية البديل من الهوية الاسلامية الواحدة، على رغم أنها كما أسلفنا مجرد مقوم حضاري استوعبه الإسلام في تأليف الوحدة الحضارية التي بنى عليها كونيته: كحضارة ما بين النهرين والحضارة الفينيقية والحضارة الفرعونية والحضارة القرطاجنية الخ... من الخرافات المؤسسة للهويات القطرية والجهوية قبالة الهوية الإسلامية. ما يفزعني في هذه الظاهرة ليس ما قد يثير الغضب بين البربر والعرب أو بين المشرق من الوطن والمغرب. ما يزعجني حقاً هو الظاهرة الأعم التي لا تثير العجب بين أدعياء البحث والطلب. فالزاد العلمي النظري الخالص والمطبق والعملي الخالص والمطبق من الفلسفة العربية كان خطه البياني متنازلاً من الكندي إلى ابن رشد بعكس الزاد الايديولوجي الذي كان متصاعداً منه إليه. ومعنى ذلك أن الكندي كان أعلم من الفارابي والفارابي من ابن سينا، وابن سينا من ابن باجة، وابن باجة من ابن طفيل، وجميعهم من ابن رشد. وليس من شك في أن علم الخالف بالنصوص أوسع من علم السالف وأكثر لكونه كان متكاثر التشعيب والتعقيب. لكن العلم بما يتعلق به الشأن في النصوص - وهو المعنى الحقيقي للعلم - فذلك هو متناقص التعميق والتدقيق. وتلك هي الدلالة الأولى للمقصود بغلبة الإيديولوجي. فعندما تصبح المعرفة نصوصاً تهمل المنصوص وقوانينه يتأكد المرء من نقلة الحضارة من العلم ذي المضمون الدسم إلى الإيديولوجيا التي تنفث السم. ولم يكن ذلك لغباء أو لخاصية عرقية تميز بها فلاسفتنا بل لأن نظام التعليم العربي والإسلامي كما لا يزال حاله إلى الآن في جل البلاد العربية والإسلامية كان ضحية مرضين أصابا عقلنا في التعليم النظامي في الساحة العمومية لتبادل الإفكار. فالداء الأول مضاعف: فرعه الأول هو فساد علم أصول الدين الذي أصبح إيديولوجية الدفاع عن العقيدة لا طلب الحقيقة الدينية في التاريخ البشري، وفرعه الثاني هو فساد علم أصول الفقه الذي أصبح إيديولوجية الدفاع عن مذهب فقهي وليس طلباً للحقيقة الشرعية في العمران البشري. وبذلك أصبح نظام التعليم كما يريده الآن فقهاء الشرع وفقهاء الوضع على حد سواء، مجرد آلة إيديولوجية في يد الدولة لفرض عقيدتها وشريعتها وليس مجالاً للتجريب العقلي والتطبيقي لكل ما يمكن للعقل الإنساني أن يتوصل إليه بما في ذلك ما يبلغ الذرى المبدعة مثل كل ابداع فني كان أو علمي أو ديني. لذلك كان كل فلاسفتنا عصاميين: لا أحد منهم تعلم في المدرسة الرسمية التي لا تعلم إلا العلوم الشرعية الغايات وبعض العلوم العقلية الأدوات، في الحدود البسيطة التي تمكن الفقهاء من ابداء بعض المصطلحات الفقهية التي لا يفقهون دلالتها لكونهم يقصرونها على استعمالاتهما في اختصاصاتهم. والداء الثاني مضاعف كذلك: فرعه الأول هو سواد فقهاء الشرع ما يسمى بعلماء الدين وفقهاء الوضع ما يسمى بالمثقفين على الساحة الثقافية التي أرجعوها بالضرورة إلى تابع للساحة السياسية ولذلك اعتبرناهما فقهاء للشرع أو للوضع حتى إن أحد كبار الفقهاء اعتبر كبار المتكلمين في حصته الأسبوعية حول الشريعة والحياة كالأشعري والباقلاني والرازي الخ... رؤساء أحزاب وهي نظرة ماركسية مسطحة لتاريخ الكلام تبناها رجال الدين من حيث لا يشعرون معتبرين الفكر الديني مجرد تابع للسياسة وظل للبنية التحتية مثلها والفرع الثاني للداء الثاني هو فساد الإعلام عامة والإعلام الثقافي الذي تحول في الحقيقة إلى جماعات شللية يمولها بعض الجهات عن حسن نية أو سوء نية الله أعلم لتفسد صورة النهضة نظير تمويل الحركات الفوضوية التي أفسدت صورة الصحوة في العالم. فكرنا الوسيط والحديث ضحية التوظيف الإيديولوجي المطلق: وليس هنا محل اثبات ذلك. لكن كل طالب حق منصف يعلم أن الحقيقة التاريخية هي ما ذكرت خخصوصاً أن لا أحد يجهل أن الصدق النافي في هذه الحال فضلاً عن الكذب، يولد عداء الرشديين والتنويريين من العلمانيين ماركسيين كانوا أم ليبراليين. فلهم ما لهم من سلطان على الساحة الثقافية توزيعاً للألقاب وتحديداً للمراتب في الرأي العام "المثقف" وفي مزايا الخدمة للستاتيكو الثقافي العربي المساند للستاتيكو السياسي، خصوصاً إذا علمنا مصدر تمويل المعاهد والمآدب والجوائز وكلها في الحقيقة للفكر جنائز. لذلك فالفائدة كل الفائدة لمن يريد السلامة هي في الكذب الذي يثبت هذه الأساطير التي تولد الوهم بأننا ننهض في حين أننا في الحقيقة نغرق. وكنت قد بينت مصدر هذه الخرافة المضاعفة على الغزالي وابن رشد ما هو في مقال الفلسفة العربية في مئة عام. فهي تعود إلى اسطورة اليسار الأرسطي في العصور الوسطى، الأسطورة التي وضعها أرنست بلوخ قياساً على اليسار الهيغلي في القرن التاسع عشر واستعملها أداة جدلية في صراعه مع التوماوية المحدثة ضد ماكس هرتون بوصفه ممثلا ناطقاً باسم اليسار الماركسي في الفكر الألماني المعاصر مطلع القرن المنقضي، ووصلتنا في نصفه الثاني في مناسبة ألفية الشيخ الرئيس. * كاتب تونسي. أستاذ في الجامعة الإسلامية العالمية - ماليزيا.