نائب أمير مكة يرأس اجتماعاً لبحث تطورات تنفيذ المشاريع المائية في المنطقة    وزير التعليم يُدشِّن أول مدرسة حكومية متخصصة في التقنية للموهوبين    تقييم الحوادث: التحالف لم يستهدف منزلا في صعدة    صحيفة الرأي الالكترونية توقّع شراكة مع جمعية يُسر بمكة لدعم العمل التنموي    شيبه: مسؤولية التعليم توجيه الأفكار للعقيدة السليمة    أمير الشرقية يرعى الاحتفال بترميم 1000 منزل في المنطقة    الإسعاف الجوي بنجران ينقل مصابا في حادث انقلاب    وزير الموارد البشرية يشارك في تعزيز العمل العربي المشترك خلال اجتماعات التنمية الاجتماعية في البحرين    الأمير عبد العزيز بن سعود يكرم مجموعة stc الممكن الرقمي لمعرض الصقور والصيد السعودي الدولي ومهرجان الملك عبدالعزيز للصقور    وزير الداخلية يعزز التعاوزن الأمني مع نائب رئيس وزراء قطر    استشهاد فلسطيني متأثراً بإصابته في قصف إسرائيلي شمال الضفة الغربية    لمطالبتها ب 300 مليار دولار.. سورية تعتزم رفع دعوى ضد إيران    تركي آل الشيخ يتصدر قائمة "سبورتس إليستريتد" لأكثر الشخصيات تأثيرًا في الملاكمة    بسبب سرب من الطيور..تحطم طائرة ركاب أذربيجانية يودي بحياة العشرات    ميدان الفروسية بحائل يقيم حفل سباقه الخامس للموسم الحالي    "التخصصي" يتوج بجائزة التميز العالمي في إدارة المشاريع في مجال التقنية    "سعود الطبية" تعقد ورشة عمل تدريبية عن التدريب الواعي    الشر الممنهج في السجون السورية    عائلة عنايت تحتفل بزفاف نجلها عبدالله    الإحصاء: ارتفاع مساحة المحميات البرية والبحرية في المملكة لعام 2023    الشكر للقيادة للموافقة على تعديل تنظيم هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية    الفرصة ماتزال مهيأة لهطول أمطار رعدية    إيداع مليار ريال في حسابات مستفيدي "سكني" لشهر ديسمبر    السعودية واليمن.. «الفوز ولا غيره»    إعلان استضافة السعودية «خليجي 27».. غداً    أخضر رفع الأثقال يواصل تألقه في البطولة الآسيوية    القيادة تهنئ رئيس المجلس الرئاسي الليبي    أهلا بالعالم في السعودية (3-2)    العمل الحر.. يعزِّز الاقتصاد الوطني ويحفّز نمو سوق العمل    إطلاق 66 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    أمير الرياض ونائبه يعزيان في وفاة الحماد    أمير الرياض يستقبل سفير فرنسا    «الحياة الفطرية» تطلق 66 كائنًا مهددًا بالانقراض    رئيس بلدية خميس مشيط: نقوم بصيانة ومعالجة أي ملاحظات على «جسر النعمان» بشكل فوري    وافق على الإستراتيجية التحولية لمعهد الإدارة.. مجلس الوزراء: تعديل تنظيم هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية    تهديد بالقنابل لتأجيل الامتحانات في الهند    إطلاق ChatGPT في تطبيق واتساب    تقنية الواقع الافتراضي تجذب زوار جناح الإمارة في معرض وزارة الداخلية    لغتنا الجميلة وتحديات المستقبل    أترك مسافة كافية بينك وبين البشر    مع الشاعر الأديب د. عبدالله باشراحيل في أعماله الكاملة    تزامناً مع دخول فصل الشتاء.. «عكاظ» ترصد صناعة الخيام    هل هز «سناب شات» عرش شعبية «X» ؟    نائب أمير منطقة مكة يرأس اجتماع اللجنة التنفيذية للجنة الحج المركزية    زوجان من البوسنة يُبشَّران بزيارة الحرمين    انخفاض معدلات الجريمة بالمملكة.. والثقة في الأمن 99.77 %    رغم ارتفاع الاحتياطي.. الجنيه المصري يتراجع لمستويات غير مسبوقة    القهوة والشاي يقللان خطر الإصابة بسرطان الرأس والعنق    القراءة للجنين    5 علامات تشير إلى «ارتباط قلق» لدى طفلك    الدوري قاهرهم    «عزوة» الحي !    أخطاء ألمانيا في مواجهة الإرهاب اليميني    استعراض خطط رفع الجاهزية والخطط التشغيلية لحج 1446    سيكلوجية السماح    "الداخلية" تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    «الحياة الفطرية» تطلق 66 كائناً فطرياً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



موجز تاريخ الفلسفة المعلل ودور الفلسفة العربية فيه
نشر في الحياة يوم 04 - 02 - 2000

} كيف يمكن أن نعرض تاريخ الفلسفة عرضاً منتظماً يفهمنا دعوى الفلاسفة عن قدرة العقل الإنساني على التخلص من الوسائط لإدراك الحقيقة إدراكاً مختلفاً بالجوهر عن الادراك العادي، مستنداً إلى اطلاق ضمني يجعل معطيات الادراك الفلسفية مطابقة لحقائق الأشياء؟ وكيف نشرح شرحاً واضحاً تسليم الفلاسفة بشرط موقفهم الضمني، أعني زعمهم قدرة العقل الفلسفي على الخروج من المركب الادراكي التعبيري الإنساني بعمليتين تحررانه من طوق اللغة والحس الطبيعيين تحريراً يمكنه من تجاوز التجربة العمومية التي يشترك فيها البشر بوعيهم اليومي العادي ويوصله إلى وجود حقيقي مطلق من طبيعة غير إضافية إلى الوعي الإنساني؟
لكي نفهم ما حدث بين البداية والغاية، ينبغي أن نحدد بدقة ما أعدته الغاية إلى اللحظة الحاضرة من تاريخ الفكر الإنساني: ماذا فعل زوج الغاية وكيف سيؤول إلى الانحطاط الوضعية النظرية بمرحلتيها الأولى والثانية والوضعية العملية بمرحلتيها الأولى والثانية؟ وهل لهذا الانحطاط بعض الشبه بانحطاط فلسفة الزوج الأول الواقعية النظرية والواقعية العملية بمرحلتي كل منهما؟ وإذن، فالوساطة وساطة مضاعفة: الوساطة المحققة للوصل مع الأولين والمحررة من انحطاطهما، والوساطة المعدة للوصل مع الآخرين وللتحرير من انحطاطهما، وقد تم ذلك في الفلسفة العربية الإسلامية واللاتينية المسيحية بالتوازي البنيوي على رغم التوالي الزماني، إذ كلتاهما مضاعفة، ما قبل الحادي عشر وما بعده عند العرب والمسلمين، ما قبل الرابع عشر وما بعده عن اللاتين والمسيحيين، بفارق ثلاثة قرون. فمراحل التاريخ الإنساني لا تتوالى خطياً، بل هي لا يفوق اللاحق منها السابق إلا بعد تكراره إلى حد استيعابه والصعود على كاهله صعوداً مضاعفاً: الاستيعاب والتجاوز.
لذلك، فالقرن الرابع عشر العربي الإسلامي يناسب القرن السابع عشر اللاتيني المسيحي من حيث درجة المعرفة النظرية الرياضيات والمنطق خصوصاً والعملية السياسيات والتاريخ خصوصاً وبخاصة من حيث الوعي بهما. وبين أن مثل هذا القول لا يكاد يصدقه أحد للجهل السائد بكلتا الحضارتين عند جل الأشباه من المثقفين، الذين أصبح اسقاط الحاضر على الماضي حائلاً دونهم وفهم النهضة الغربية، على رغم زعمهم تمثيلها تمثيلاً يقتصر في الحقيقة على الدعوة إلى محاكاتها محاكاة فردية وحائلاً كذلك دونهم ومعرفة الحضارة الإسلامية. فطرد الحاضرين على الماضيين جعلهم يتصورون ماضي العرب مثل حاضرهم انحطاطاً أو علة فيه، ويتصورون ماضي الغرب مثل حاضره انحطاطاً أو علة فيه، بل هم ذهبوا أيضاً إلى طرد الحاضرين على المستقبلين فأصبح عندهم لا مستقبل إلا غربياً، ولا أمل للانبعاث العربي الإسلامي.
كان مجال الوساطة مضاعفاً:
الأول: التوحيد بين التجربتين الدينية الصوفية والفلسفية العلمية، وذلك بفضل الدور الذي أدته نظرية الخلق التي أدت صياغتها الفلسفية إلى الانتقال من نظرية الامكان المادي إلى الامكان الماهوي الناتج عن الفصل بين الماهية الممكنة بالذات والوجود الواجب بالغير في الموجود المخلوق وهو فصل فقد مدلوله عندما أصبح مطلقاً لا يتعلق بالوجود المخلوق فحسب، بل وكذلك بما كان ابن سينا يميزه عنه بوصفه الوجود الواجب، وذلك بداية من الفلسفة الكنطية. وهذا هو المعد للقطع مع العصور القديمة والوسيطة والناقل من الميتافيزيقا والميناتاريخ اليونانيتين الهلنسيتين إلى الميتافيزيقا والميتاتاريخ العربيين الإسلاميين: من نظرية القيام بالجوهرية الصورة تقوم بوجودها القوي في المادة إلى القيام بالذاتية الصورة تقوم بوجودها القوي في العقل الإلهي، الذات الالهية مصدر للقيومية نظرية الخلق والتعليل الوجودي المعوضة لنظرية التصوير والتعليل التحريكي انظر النقذ الرشدي الموجه إلى دليل الوجود السينوي في تهافت التهافت.
ولا بد هنا من إبداء ملاحظة مهمة جداً: فكيف نفهم حصول تبادل الفلسفة والدين لمجالي تجربتهما بحيث يصبح التصوف تابعاً الفلسفة بدلاً من الدين والعلم تابعاً للدين بدلاً من الفلسفة؟ قد تكون الأسباب ظرفية وخارجية. ذلك ان الأمور من حيث طبائعها تقتضي ان يكون التصوف تابعاً للدين، والعلم للفلسفة. لكن الظرفيات الخارجية ذلك ان الأمور من حيث طبائعها تقتضي ان يكون التصوف تابعاً للدين. والعلة واضحة. فالدين يستحوذ على المجال الفعلي من العمل الإنساني بحكم سيطرته السياسية، فيستتبع النظر الفاعل أعني علوم الطبيعة ذات التطبيقات الضرورية للدولة ورجالها كالفلك والحساب والتنجيم والطب. العلة إذن سياسية خارجية. فلا يبقى للفلسفة إلا الرمزي من النظر والعمل فيكون لها التصوف العملي والنظري، وتبتعد من الممارسة العملية السياسية والعلمية التقنية للتحول إلى حفاظ خارجي على تقليد مدرسي لشروح فلسفات لم تعد مواتية للعلم ولا للعمل. لذلك لم يتمكن الفكر الفلسفي العلمي الفعال استئناف الفاعلية في المجالين إلا من منطلق جديد: الفلسفة ذات المنطلق الديني العلمي ديكارت ولايبنتز خصوصاً.
وليس في ذلك ما يدعو إلى العجب، فالعبد الخارجي العمومي من الفلسفة والدين هما التصوف العام أو الدين الجمهوري والعلم العام أو الفلسفة الجمهورية. والبعد الباطني من الفلسفة والعلم هما الدين الخاص أو التصوف الحقيقي والعلم الخاص أو الفلسفة الحقيقية، وبذلك يلتقي الوجه الخارجي منهما: الدين العام والعلم، الأول للحياة العامة المادية. كما يلتقي الوجه الباطني منهما: الفلسفة الخاصة والتصوف. هذا لخاصة الخاصة، وذانك لعامة العامة. كل ذلك طبعاً في حال الفصل بين التجربتين او بين احداهما ومجال التجربة التي تخصها.
الثاني: منزلة الكلي، او التحديد الجديد للمنزلة الابستمولوجية لعلم الرياضيات والمنطق والوجودية لموضوعيهما، وللمنزلة التأويلية لعلم السياسات والتاريخ والاكسيولوجية لموضوعيهما. وهذا هو المعد للربط مع العصور الحديثة والمعاصرة، لكونه استكمل القطع مع العصور القديمة والوسيطة. وإذا كانت الوساطة الأولى يمثلها ابن سينا والغزالي فالثانية يمثلها ابن تيمية وإبن خلدون.
فمنذ تجاوز غايتي التجربة الفلسفية العلمية الأولى افلاطون وأرسطو في فلسفة افلوطين وتجاوز غايتي التجربة الدينية الصوفية الأولى موسى وعيسى في الاسلام اصبح المشكل الأساسي في الفكر الانساني متمثلاً في تجاوز التجاوزين بالوصل بينهما او بالفصل، وهذه التجربة الجديدة هي التي حددت معادلتها الفلسفة العربية وكانت غاية صياغتها الوصلية في ما اطلقنا عليه اسم الوساطة الأولى ابن سينا والغزالي وغاية صياغتها الفصلية في ما اطلقنا عليه اسم الوساطة الثانية ابن تيمية وإبن خلدون ومنذئذ لم يعد ممكناً للفكر الانساني إلا أن يجري في اطار هاتين الغايتين: فالأفلاطونية والارسطية اصبحتا ممتنعتين نظرية الخلق والربوبية الدينية المنزلة ولم يبق الا البديلان منهما: الحل البهشمي في الصياغة السينوية مع التجاوز التيمي لايبنتز والحل الاشعري في الصياغة الغزالية مع التجاوز الخلدوني ديكارت.
غاية التحسس وبداية الوساطة الأولى: الكندي تأسيس سنة الفكر الفلسفي العلمي النسقي في الثقافة الناطقة بالعربية وأبو علي الجبائي تأسيس سنة الفكر الديني النسقي في نفس الثقافة ومنهما تفرع مربع الوصل بين التجربتين وبين حدي كل منهما: البهشمية والاشعرية من الثاني والفارابية والصفوية من الأول. اما الصراعات الحادثة في ممارسة التجربتين الدينية الصوفية والفلسفية العملية، فانها تمثل الأرضية الخصبة التي تثمر فيها السنتان الفكريتان النسقيتان ومن دون هذه الصراعات المعدة لن تكون السنتان مطلبين حضاريين يحركان التاريخ: وبفضلها اصبح الفكر الفلسفي العلمي والفكر الديني الصوفي مدار الوجود الانساني في الحضارة العربية الاسلامية. لذلك آلت اليها قيادة التاريخ الانساني ما ظل ذلك صحيحاً.
غاية الوساطة الأولى وبداية الثانية: ابن سينا والغزالي القرن الخامس هجري القرن الحادي عشر ميلادي كيف حصلت غاية الوصل بين التجربتين الفلسفية العلمية فلسفة الفارابي واخوان الصفاء والدينية الصوفية كلام ابي هاشم وأبي الحسن وبداية الفصل بينهما؟ ذلك ان كلاً من ابن سينا والغزالي مرا بلحظتين احداهما ملتفتة الى الماضي وكانت وصلية والثانية الى المستقبل وكانت فصلية. ومنهما تفرع مربع الفصل، او محاولات التخلص من انحطاط الافلاطونية المحدثة والتوراتية المحدثة الهلنستيتين، المربع الناتج عن استكمال الغزالي لفلسفة ابن سينا، اعني ابن رشد والسهروردي القرن الثاني عشر م في الاتجاه الذاهب من التجربة الفلسفية العلمية الى التجربة الدينية الصوفية، والرازي وإبن عربي القرن الثاني عشر م في الاتجاه المقابل. وفيهما نجد تأسيس العصور الحديثة من المنظار الملتفت الى العصر الذهبي القديم لبعثه: اليوناني والاعتزالي المتسنن والمتشيع باعتدال في بعده الدهري الافلاطوني - الاشعري السهروردي والرازي، وفي بعده الدهري الارسطي - البهشمي ابن رشد وإبن عربي.
غاية الوساطة الثانية: الطوسي والايجي. وعندهما استقر النسق الماضي في السنتين الفلسفية العلمية غير المستثنية للسنة الدينية الصوفية الطوسي والدينية الصوفية غير المستثنية للسنة الفلسفية العلمية الايجي مع اعتبار التوجه البعثي للعصر اليوناني الذهبي. الأول اتم نسق ابن سينا مع اعتبار ابن رشد والرازي والثاني نسق الغزالي مع اعتبار ابن عربي والسهروردي. لذلك فان النقد اليتمي والخلدوني وان توجه الى مصدري هذين المؤلفين بدلاً من التوجه اليهما فانه يفترضهما في تكوينهما النسقي تمكنا من الماضي الفكري العربي الاسلامي في توجه الباعث للعصر الذهبي اليوناني والعربي.
الوساطة الثانية:
كيف حصل الحوار المباشر المخلص من محاولات الوصل بين ارسطو وموسى ابن تيمية وبين افلاطون وعيسى ابن خلدون او محاولتا فهم طبيعة الثورة المحمدية والافلوطينية وفيهما نجد الاعداد لتأسيس العصور الحديثة من المنظار المتلفت الى العصر الذهبي الحديث: الاسلامي والأوروبي. وحتى تحدد ذلك بدقة نورد هذا التخليص الموجز لخصائص الوساطة الثانية. فالخصائص العامة التي طبعت بداية الوساطة الثانية تنقسم الى ثلاثة اصناف: احدها شكلي، والثاني مضموني، والثالث جامع بينهما. فأما من حيث الخصائص الشكلية، فيمكن اثبات الخاصتين التاليتين. الأولى هي التكافؤ البنيوي بين منظومة المنازل التي يشغلها الكلي ومنظومة المذاهب الفلسفية والكلامية التي حددت منعرجات التاريخ الفلسفي والكلامي، في اللحظة العربية. ويستند هذا التكافؤ البنيوي الى التجانس التأليفي بين الافلاطونية المحدثة والحنيفية المحدثة في تكونهما وفي لقائهما الصدامي حول الرياضيات والمنطق نظرياً، وحول السياسيات والتاريخ عملياً. والخاصية الثانية هي التكافؤ البنيوي بين منظومة المفهومات العلمية ومنظومة الانساق الرياضية المنطقية والانساق السياسية التاريخية التي حددت منعرجات التاريخ العلمي والعملي في اللحظة العربية. ويعتمد التكافؤ على التشاكل الوظيفي بين الخصائص المنطقية الرياضية المحددة لاداة العلم الرمزية والخصائص المنهجية التقنية المحددة لاداته المادية. ويمثل هذان التكافؤان الشكليان غاية الاستقراء التاريخي، وبداية الاستنتاج المنطقي وسر الوحدة الجامعة بين منزلة الكلي انطلوجيا ومنزلة العلوم النظرية والعملية ابستمولوجيا وتأويليا.
أما من حيث خاصيات المضمون فيمكن اثبات الامرين الآتيين:
فأما الاول فهو ان النقلة من الواقعية الى الاسمية في العلوم النظرية قد جعلت مضمونها من جنس شكلها وضعاً ونسبية. فانتفى بفضل هذه النقلة التناقض الذاتي الذي يميز الواقعية الفلسفية في الافلاطونية المحدثة، أعني التناقض بين المعلوم المطلق والعلم النسبي، او بين لا تاريخية الأول وتاريخية الثاني وتم بحكم ذلك الفصل بين العلم النظري والميتافيزيقا: وتلك هي مهمة ابن تيمية الفلسفية في نقده لنظرية العلم العملية قد جعلت شكلها من جنس مضمونها وضعاً ونسبية فانتفى بفضل هذه النقلة التناقض الذاتي الذي يميز الواقعية الدينية، اعني التناقض بين الوحي المطلق والموحى به النسبي، او بين لا تاريخية الاول وتاريخية الثاني. وتم بحكم ذلك الفصل بين العلم العملي والميتاتاريخ: وتلك هي مهمة ابن خلدون الفلسفية في نقده لنظرية العمل والقيمة التي سيطرت على الفلسفة في نقده لنظرية العمل والقيمة التي سيطرت على الفلسفة والتصوف المتأخرين.
فكان ابن تيمية مصلحاً للعقل النظري من اجل اصلاح الدين، وكان ابن خلدون مصلحاً للعقل العملي من اجل اصلاح الدولة. ولم يصبح الاصلاح الاول ممكناً الا بحكم تغير نوعي في الخصائص الشكلية للرياضيات والمنطق. وكان ادراك ابن تيمية لهذا التغير النوعي مساعداً له في محاولته التي ابرزت نقلة الرياضيات والمنطق من واقعية الهندسة وحساب النسب عند اليونان والهلنستيين الى اسمية الهندسة الجبرية ونسب الحساب عند العرب والمسلمين.
كما ان الاصلاح الثاني لم يصبح ممكناً الا بحكم تغير نوعي في الخصائص الشكلية للسياسات والتاريخ، وقد كان ادراك ابن خلدون لهذا التغير النوعي مساعداً له في محاولته التي أبرزت نقلة السياسيات والتاريخ من واقعية المدني النفسي والاقتصادي المنزلي عند اليونان والهلنستيين الى اسمية الاجتماعي التاريخي والاقتصادي السياسي عند العرب والمسلمين.
ومعنى ذلك ان نظرية النظر والوجود قد تجاوزت الرشدية والكلام المتأخر وأساسهما الأرسطي التوراتي، وان نظرية العمل والقيمة قد تجاوزت الاشراقية والتصوف المتأخر وأساسهما الافلاطوني الانجيلي، فأصبح النظر والعمل مستندين الى آليات تفسير طبيعية وتاريخية بديلاً من الآليات ما بعد الطبيعية وما بعد التاريخية لأن ذينك من مجال التجربة الفلسفية العلمية وهذين من مجال التجربة الدينية الصوفية. وبذلك يكون ابن تيمية وضع حداً لانحطاط الافلاطونية المحدثة وحديها الافلاطوني الارسطي بفضل نقده للمنطق الواقعي وأساسه الميتافيزيقي. ويكون ابن خلدون وضع حداً لانحطاط الحنيفية المحدثة وحديها التوراتي والانجيلي بفضل نقده للتاريخ الواقعي وأساسه المتياتاريخي. فتنهدم بذلك الواقعية النظرية والواقعية العملية في صورتيهما الفلسفية العلمية والدينية الصوفية اي في اساسي الفكر القديم والوسيط: وبذلك يكون العهد الحديث من الفكر الانساني قد شرع في الوجود.
ولعل نسبة القسم الثاني من هذه الوظيفة الى ابن خلدون لا تثير من الشكوك ما تثيره نسبه قسمها الأول الى ابن تيمية، لما حف بأعماله من افكار مسبقة نتجت عن استغلالها بعده، في الايديولوجيات الدينية المعاصرة التي ليس لها أدنى اطلاع على الدلالات الفلسفية لثورة نقد الميتافيزيقا والمنطق عنده. لذلك جمعنا بين المصلحين لتحقيق دورهما بالتضايف والتوازي اللذين لا يسهو عنهما أي دارس منصف لاعمالهما الفلسفية، أعني الرد على المنطقيين ودرء التعارض عند ابن تيمية والمقدمة وشفاء السائل عند ابن خلدون.
وأما الأمر الثاني الذي يمكن اثباته بخصوص المضمون فيتمثل في كون العلم والعمل قد اصبحا، بفضل هاتين النقلتين، فعلين انسانيين تاريخيين شكلاً ومضموناً، فانتفى بذلك البون المعرفي الابستمولوجي بين العلم النظري والعلم العملي اللذين أصبحا، في الحالتين، من وضع الانسان النسبي، منفصلين بذلك نهائياً عن الإطلاق الواقعي في الطبيعة والشريعة انفصالاً جعل الانسان مشرعاً لنفسه في النظر عند الأول وفي العمل عند الثاني، تشريعاً لا يجحد المتعاليات الدينية في مجال الايمان نافياً ان يكون مجال العلم بحاجة الى غير الافتراض المغني عن الميتافيزيقا، مما يجعل اللاريبية العقلانية شرطاً في النظر الفلسفي والعلمي لكونها في الوقت نفسه شرطاً في العمل الديني والصوفي: الريبية مع الايمان تساوي التجربة الدينية الصوفية، والريبية مع الفرض تساوي التجربة الفلسفية العلمية. ويعني ذلك ان الفكر الانساني قد انتقل من نظرية العلم الابستمولوجيا التي تميز بين العلوم بطبيعة موضوعها الى نظريته التي تميز بينها بخصائصها المنطقية ووظائفها المنهجية، فأصبحت المقابلة بين العلوم الصورية والعلوم المادية بديلاً من المقابلة بين علوم النظر وعلوم العمل. والعلوم الصورية هي علوم الأدوات الرمزية أي الأدوات الرياضية والمنطقة أو الارغانون الصوري الصالح في النظر والعمل على حد سواء. والعلوم المادية هي علوم الأدوات المادية أي الأدوات التقنية والمهنية أو الارغانون المادي الصالح في النظر والعمل على حد سواء، كذلك وكلا الارغانونين ضروري في صنفي العلوم النظرية والعملية، لكون الطبيعة والتاريخ يدرسان صورياً بالمنطق والرياضيات الأداة الصورية ولا يختلفان الا من حيث دراستهما المادية الأداة المادية، من جنس المناظر للأولى ومن جنس النقد الوثيقي للثانية، اذ يغلب على الأولى التقنة التجريبية، ويغلب على الثاني المنهج التوثيقي.
وتلك هي الاضافات التي ننسبها الى الاسمية العربية ونعتبرها البداية الفعلية للقطع مع الفكر القديم والوسيط والشروع الحقيقي في تأسيس الفكر الحديث والمعاصر. ومثل اثبات هذين الأمرين الغاية الرئيسية من محاولتنا في فلسفة العلوم وتاريخ اشكالها ووظائفها المعرفية في مجالي النظر والعمل.
أما الخاصية الثالثة الجامعة بين السابقتين فهي اساس الوحدة بين جزئي هذه المحاولة أعني خاصية اللحظة العربية في العلم والفلسفة بوصفها لحظة السعي الفعلي لإنهاء الواقعية الطبيعية المسيطرة على الافلاطونية المحدثة وحديها الافلاطوني والارسطي بحكم الانحطاط، والواقعية الشريعية المسيطرة على الحنيفية المحدثة وحديها التوراتي والانجيلي بحكم الانحطاط نفسه. وقد نسبنا غاية هذا المسعى الى ابن تيمية في النظر وأساسه الوجودي، وإلى ابن خلدون في العمل وأساسه القيمي. وذلك لكون هذين الفيلسوفين قد أرخا للفلسفة العربية برافديها تاريخاً نقدياً، ومثلا بفلسفتهما الاصلاحية للعقلين النظري والعملي وللدين والدولة، جسراً حياً يربط بين نهضتنا الاولى ونهضتنا الثانية فيردم الهوة الفاصلة بينهما جابرا الكسر الذي منعنا من الاسهام في الحضارة الحالية من مرجعيتنا الاهلية.
من لم يفهم البداية لن يفهم الغاية. فالبداية كانت استيعاب اليونان للفكر الشرقي القديم وكيفية تولد الفلسفة والعلم النظري بالمعنى اليوناني اي الواقعية المجوهرة للماهيات. والغاية هي مأزقنا الحالي. وليست الافلاطونية المحدثة الاولى افلوطين واستاذه الحمال الا سعياً شرقياً لفهم هذه العلاقة بين الفكر اليوناني واصله الشرقي المنسي وعودة اولى الى نظرية الخلق الساعية الى التخلص من الواقعية اليونانية السطحية، رغم بقاء الاسلوب يونانياً، اعني ان الكليات الافلاطونية المجوهرة التي انتقلت من طابعها الاسطوري، آلهة وجنة وملائكة مؤثرة، مع بعض المحافظة عليه انظر التيماوس الى نظرية المثل التي اصبحت عند افلوطين مجرد فيوضات عن الواحد المجهول: وذلك امر كانت نظرية الخير الافلاطونية ونظرية اللغوس الهرقليطية به حاملاً، على رغم بعدها عنه لاتصالها الذي ما زال وثيقاً بالاصل الاسطوري لفاعلية المجردات.
ولن تكون الغاية الا تحقيق شروط العودة الحية، عودة الفرع الى الاصل حصولاً الدور العربي الاسلامي الوسيط ووعياً بها لتجاوزها الدور العربي الاسلامي المقبل فنظرية الذاتين: الذات الآلهية المتعالية ابداعاً للموجودات والذات الانسانية المتعالية ابداعاً لصورها في النفس الانسانية كانت منطلق كل فكر حي في الحضارة العربية الاسلامية. وكلتا الذاتين تتميز باللاتناهي: الاولى لا تناهيها بالفعل والثانية بالقوة. وما بداية العصور الحديثة الا اكتشاف هذه الحقيقة التي اصبحت فلسفية بفضل ابن سينا والغزالي. ونهايتها هي التخلص من الذات الالهية في الافلاطونية التوراتية المحدثة الجرمانية للاستعاضة منها بالذات الانسانية التي تم التخلص منها هي بدورها في آليات العولمة ذات الكيان اللامسمى. اما وظيفة الاستئناف فهي رفض الحلول واختيار منزلة الاستخلاف منزلة وجودية للانسان: فتعوض الآلة بالوجدان والصناعة بالكيان.
* باحث تونسي في شؤون الفلسفة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.