من المفروض ان تكون الحرارة في مدينة ستوكهولم التي زارها حديثاً الكاتب المغربي الطاهر بن جلون للمشاركة في ندوة حول العنصرية، خمسة تحت الصفر في هذه الايام، ولكن الطبيعة على غير عادتها تكرمت على سكان المدينة بخمسة فوق الصفر. والحرارة المرتفعة هذه لم تقتصر على الطقس بل امتدت لتشمل حرارة زحف عدد من الكتاب نحو جائزة نوبل للآداب. يحج الى المدينة كتاب من كل انحاء العالم للمشاركة في نشاطات ثقافية مختلفة، وأحد النشاطات التي شارك فيها بن جلون ندوة ثقافية برعاية وزارة الثقافة السويدية تحت عنوان "جذور وتحرر وتجمع"، تحدث فيها عن مشكلة أصبحت جزءاً من عملية تسويق يتبعها كثيرون من أجل إبراز انفسهم، وهي أهمية محاربة العنصرية في أوروبا. تزامنت زيارة الكاتب المغربي الى السويد مع صدور ترجمة روايته الأخيرة "بيت الفقراء" من الفرنسية الى السويدية. تحكي الرواية قصة كاتب مل العيش مع زوجته فطومة التي يلقبها تومة، ورحل من مراكش الى مدينة نابولي الايطالية ليكتشف ذاته من جديد وليخلق صورة وهمية لزوجته على أمل ان تساعده في الرجوع اليها. يسكن الكاتب في نزل، وهناك يجتمع مع الشاب ممو ووالدته اليهودية. وينطلق في روايته من ذلك النزل حيث كل فرد يروي قصته. يضع بن جلون في بادئ الأمر شخصية الكاتب الهارب من زوجته في قلب الحدث. ويحكي عن محاولته تغيير صورة الزوجة من خلال اعطائها اسماً جديداً وردة، ومن النزل يبدأ بمراسلة وردة من أجل التقرب منها أو اكتشافها. على رغم ان بن جلون يعود دائماً الى شخصية الكاتب ورسائله، إلا أنه شيئاً فشيئاً يلقي الضوء على شخصية والدة الشاب الافريقي ممو التي كانت متزوجة من رجل مجرم يحمل أفكاراً نازية. ويشرح بن جلون حياة تلك المرأة اليهودية التي تعذبت في حياتها كثيراً خصوصاً في فشلها في الحب، والزواج والغربة. وطبعاً يتطرق الى العنصرية التي كانت تتعرض لها تلك المرأة من زوجها النازي الذي تهرب منه في ما بعد، ومن المجتمع الفرنسي ومن ثم الايطالي حيث وصل المد النازي اليهما إبان الحرب العالمية الثانية. ينجح بن جلون في وصف الأشياء والأحداث بطريقة مشوقة. ويجذب ذلك الوصف الدقيق لمعاناة تلك المرأة الى درجة ان كثرة الصدف "الانسانية" في الرواية تبعث رائحة شوق جارف الى جائزة نوبل للآداب بعد جائزة "غونكور" 1987. من الواضح ان دور النشر والكتاب بدأوا يفهمون الطرق التي تتبعها لجنة نوبل للاداب، وأول كشف كان منذ أسابيع قليلة عندما أعلن مكتب الاعلانات السويدي جري برغستروم انه بفضل حملة تسويق كبيرة نجح في خلق لوبي منح الكاتب البرتغالي خوسيه ساراماغو جائزة نوبل للآداب سنة 1998. قد يكون صحيحاً ان الحملة الاعلانية ساهمت في منح ساراماغو جائزة نوبل ولكن الأكيد ان الحملة رافقها عمل ساراماغو الأدبي الراقي وتطرقه الى مواضيع تخص المجتمع الذي ينتمي اليه، تماماً مثل الكاتب الألماني غونتر غراس الذي حصل على جائزة نوبل لهذا العام. فأدب غراس، وساراماغو، وداريو فو يتطابق وشروط لجنة نوبل التي تنظر الى كتاب يرفعون صوت الحضارات التي تتعرض للاضطهاد، ويركز اعضاء تلك اللجنة على أهمية ان يكتب الكاتب وقائع من بيئته ومجتمعه تحارب الخرافات التي تتعرض لها الحضارات التي تحارب في زمن العولمة. على رغم تطابق الكثير من شروط لجنة نوبل "الانسانية" مع اعمال بن جلون، فهذا الأخير اخفق في شرط مهم وقد يكون الأهم عند لجنة نوبل الا وهو تطرق الكاتب الى رفع صوت حضارته التي ينتمي اليها. ولكن من الملاحظ ان بن جلون البعيد عن أجواء لجنة نوبل واقع في عقدة يطلق عليها في مصر عقدة "الخواجة". قد يكون الكاتب يعتقد ان التطرق الى مسألة اليهود ترفع اسهمه عند اعضاء نوبل. ولكن على رغم قوة اللوبي اليهودي في السويد فهو ليس قوياً الى درجة يؤثر بفعالية على قرار لجنة نوبل للاداب. فتاريخ نوبل اثبت مراراً ان الخيار يقع على كتابات تنطلق من عمق مجتمعها ولو كان هذا المجتمع نازياً مثل المجتمع الذي قدم منه الالماني هنريتش بول حامل جائزة نوبل لعام 1973، او الكاتب النروجي هامسون الذي تعامل مع النظام العنصري في المانيا، ولكنه حصل على جائزة نوبل للآداب لأسباب أهمها الانطلاق من بيئته.