حملت الترجمة العربية لرواية الطاهر بن جلون «عن أمي» عنواناً آخر هو «حين تترنح ذاكرة أمي» وقد أنجزها وقدّمها الناقد رشيد بنحدّو وصدرت حديثاً عن المركز الثقافي العربي (بيروت، الدارالبيضاء). هنا قراءة لهذه الرواية التي يسرد فيها بن جلون جزءاً من سيرة والدته.يستعيد الطاهر بن جلون في روايته المترجمة حديثاً «حين تترنح ذاكرة أمي» الأيام الأخيرة من حياة أمه العجوز وقد أُصيبت بالزهايمر، واختلطت في ذهنها الأزمنة والأشخاص، فما عادت تميّز الماضي عن الحاضر، والميت عن الحي، والصغير عن الكبير، والحلم عن اليقظة. أضحت حياتها التي تتنازعها براثن الموت مسرحاً لهذا التداخل في الوجوه والصور والأمكنة. بيد أن هذا التشتت او الاختلاط يفتح على يدي بن جلون الروائي افقاً على حياة المغرب في مدينتي فاس وطنجة، وعلى التطور السياسي، خصوصاً التحولات التاريخية التي شهدها المغرب، عقب الحرب العالمية الثانية، والاحتلال الفرنسي، وحكم ما بعد الاستقلال، وعلى تقلب الأحوال والظروف، وعلى ما تدمغه التقاليد والأعراف الراسخة الجذور في الحياة الاجتماعية، لا سيما في حياة المرأة وفضائها المنزلي والأسري، وعلاقة الأهل بأبنائهم وأحفادهم. وعلى وجه أخص، تنفتح الرواية على معنى الموت ودلالة انتظاره، وطريقة تعامل المرء مع لحظة اقترابه منه، واختلاف النظرة إلى الشيخوخة، وإلى الأمومة، بين الحضارتين الشرقيةوالغربية. وإذ يتلاعب بن جلون بعملية القطع بين ذاكرة الأم العجوز في الزمن الحاضر، وذاكرة ماضي شبابها، فإنما يجعل من هذا القطع، وتلك المراوحة بين الزمنين والذاكرتين، مجالاً رحباً لمعاينة الأفكار والعواطف والسلوكيات. إذ نلمس التقلب بين فترة الشباب ذات الإيقاع المتدفق حيوية ونشاطاً، وبين مرحلة الانكفاء إلى عزلة الشيخوخة القاتلة وذواء الجسد، ووهنه، وهزاله، وما ينجم عن هذا الانحطاط البدني من هذيان وضعف القوى العقلية. كما نكتشف بطريقة التبادل الزمني الذي يتردد بين الشيخوخة والشباب، هذه النزعة العميقة عند الإنسان لقهر الإحساس بدنو الأجل، وهو على أعتاب الموت، والتشبث الاستيهامي ببقاء صورة الذات ودورها. ومن خلال هذا الوعي المترجرج، لا تنفك الأم العجوز تتشبّث بماضيها، وتحاول مثل الجد المحتضر في رواية حسن داوود «أيام زائدة» استعادة صبوات الشباب، من خلال الوقوف عند محطات زمنية معبّرة عهد ذاك، عن الفتوة والقوة والعزيمة. نعيش في رواية بن جلون، وطيف الموت يحوم حول الأم العجوز التي يتداعى جسدها، وتتقلص قدراتها وطاقاتها، بين عالمين: مرئي ولا مرئي. ولا نعرف أي الوجهين هو الأصل والأساس في الرواية. هل هو الموت وطقوسيته، ام الحياة وسيرورتها، وتواصلها في الأبناء والأحفاد؟ أطياف الموتى فالعجوز تعيش مع اطياف الموتى الأحباب والأزواج والأصدقاء والأخوة، تستدعيهم وتسامرهم، وتطلب منهم المكوث في بيتها، وتعاتبهم على عدم زيارتهم لها، وتحاول ان تحَضّر لهم الأطباق المفضلة لديهم. وإذ ترتد في لحظات صحوها إلى الواقع، فإنها تشكو مرارة العيش، وصعوبة التعامل مع خادمتها كلثوم التي تعينها على نظافتها، وتلبية حاجاتها العضوية. وترجع تدهور ذاكرتها وهشاشة جسدها، الى أثر الأدوية التي تتناولها، وتأسف لعدم تمكنها من القيام بفرائضها الدينية في اوقاتها المحددة. والرواية ينعطف سردها، من ناحية أخرى، إلى رصد التقاليد والأعراف السائدة في المغرب أيام شباب أمه. وكما كانت الاشكالية الرئيسة في «طفل الرمال» و «ليلة القدر» هي حياة الأنثى، ومأزقها الوجودي في المجتمع المغربي، كذلك في روايته الجديدة، تعيش النساء وفق سيناريو معد سلفاً، وخطوات مرسومة بدقة، وعبر ايقاع زمني رتيب، غير قابل للتبديل والتحوير: زواج، وحمل، ونفاس، ورضاعة، وطبخ، وغسل، وكنس، وسوى ذلك من اشغال منزلية. وحيث تُعقد صفقات الزواج في المجتمع التقليدي من دون اعتبار لرأي المرأة، تتحول الرواية، على رغم أنها تروي جانباً من سيرة كاتبها، إلى رسم مصائر النساء المغربيات التقليديات، في عالم ينكفئ على معايير ذكورية مفروضة، خاضعات لمقتضياته الحتمية، قانعات بما كُتب عليهن، حيث تُحتسب اعمارهن المجهولة بعدد الأبناء والأحفاد، كما هي حال الخادمة كلثوم. أما ما تتميز به الحياة في أسرة بن جلون، فالشّح في إظهار العواطف بين الزوج وزوجته، ومراعاة الكتمان والحشمة في تدبّر الأمور والحوائج، وتربية الأب اولاده تربية دينية متسامحة بعيدة من التزمّت والتعصب. يرى بن جلون إلى العلاقة العائلية علاقة مقدسة، بل يبدو أنه منحاز إلى نوعية التربية القائمة على احترام الوالدين التي يمارسها بنفسه. ومن طريق المقارنة، وهو الذي يعيش في الغرب، يرى كيف يتخلى الأبناء الأوروبيون عن اهلهم العجائز، ليقضوا ما تبقى من أعمارهم في المآوي والمعازل الصحية. بينما يحرص الشرقيون على ان يقضي الأهل سنواتهم الأخيرة بين ظهرانيهم، وفي رعايتهم. ويُحسب ان ما كانت تبديه امه من قلق عليه، يُعد من خصائص امهات الحوض المتوسط. وهو في هذا الموضع، وفي الكثير من المواضع الأخرى، ينتقل من الخاص إلى العام، ومن الحادثة إلى الظاهرة، فينظر إلى الوقائع نظرة المتفحص المعاين والدارس الاجتماعي وعليه يرى أن التعلق بالأم ظاهرة متأصلة في حياة الأبناء، وأن الخروج عليها خروج عن قانون الحياة والنفس الإنسانية. ويرجع إلى نيتشه الذي كان يقول عن أمه وأخته إنهما آلتان جهنميتان، لكنه سرعان ما يراسل أمه طالباً منها النقانق التي كانت تطعمه إياها وهو طفل. وبن جلون المتفرنس حياة وكتابة، لا يكف عن عقد المقارنات بين حضارته العربية الإسلامية الأصيلة، والحضارة الغربية الأخرى التي يتبناها ويعايشها. وفي ضوء ما يحمله من مفاهيم عقلية ومعايير فكرية، وكتابات حول الغربة والاستلاب والعنصرية، فإنه يرى بوناً شاسعاً بين حياة أمه العجوز، وزيلي والدة صديقه رولان. إذ حين أن أمه أمية تكتفي بما يمليه عليها الموروث الشعبي والديني، فإن زيلي التسعينية هي الأخرى، تقرأ، وتعزف على البيانو، وتسافر إلى بلدان الشرق والغرب، وتقيم في الفنادق. وبينما تعيش والدة رولان مستقلة بذاتها وآرائها، وتتعاطى مع عالم متقدم تكنولوجياً، وتنظر إلى ما بعد الموت نظرة متوجسة... فإن والدة بن جلون المغربية تعيش حالة قدرية مريحة، ودوراً محدوداً ومرسوماً عبر العصور، وتنتظر بأناة وصبر، بل بشوق في أحيان كثيرة، نهاية أجلها ولقاء وجه ربّها. ويتمنى بن جلون الذي يشغله هاجس المقارنة، ويطغى عليه ككاتب عربي يكتب بالفرنسية، يتمنى أن تلتقي المرأتان العجوزان ليترجم كما يقول في روايته: «الحوار بين العالمين». وهو يتناول شخصية أمه في روايته بعيداً من برودة السرد وحياديته، بل بكثير من الحرارة الوجدانية، والتعاطف مع هذا المخلوق الضعيف الذي يصارع سكرات الموت. وتظهر النبرة الحزينة السوداوية في الصفحات الأخيرة من «حين تترنح ذاكرة أمي» عبر إحساس الكاتب بغيابها النهائي عن الحياة، وعن المنزل الذي كانت تشغله، وبلا جدوى الأشياء التي لم تعد الأم تستعملها، أو تعيش في كنفها، من اقل الأغراض تفاهة، الى المقتنيات الثمينة. بينما نرى رولان من طريق المقارنة ايضاً، يتصرف تصرفاً نقيضاً، إذ يتلقى خبر موت والدته بلا مبالاة، وينصرف الى رياضته الأثيرة، باعتبار موتها خبراً انقضى أوانه، ولا يمكنه دفع الغائلة عنها.