هل يمكن أن نفحص حركة الشعر العربي الحر من منظور حقوق الانسان؟ نعم، يمكن، فالشعر، كل شعر، هو "عملية" حقوق انسان، بامتياز، سواء من جهة كتابته، او من جهة قراءته، او من جهة ما يعبر عنه من مضامين فكرية، أو ما يعبر به من أساليب فنية. وقد ارتبط الشعر الحر الذي نسميه اليوم: المدرسة التفعيلية بهموم الانسان العربي، الذاتية والموضوعية معاً، مما كان يسمى سابقاً: الالتزام في الشعر مهما تعددت اشكال هذا الالتزام. حركة الشعر الحر هي - إذاً - محطة رئيسة من محطات رئيسة عدة تمثل، عندي، تجسيداً ملموساً للتقاطع الساطع مع قضايا حقوق الانسان، عبر مسار الشعر العربي. وواقع الحال انه لم يكن من قبيل المصادفة ان يتواكب بزوغ حركة الشعر الحر العربية مع بزوغ ثورات التحرر الوطني والاستقلال في اكثر من دولة عربية، مع بزوغ الاعلان العالمي لحقوق الانسان 1948، الذي تكونت ونشطت على هديه المنظمات والحركات المشتغلة بالانسان، عربياً وعالمياً. ان ذلك التواكب في النشوء، بين الظواهر الثلاث منذ اواخر الاربعينات، لا يخلو من دلالات عدة، يعنينا منها - هنا - الاشارة إلى أن ذلك التواكب المثلث قد منح حركة الشعر الحر في البلاد العربية مناخاً ملائماً لتوجهاتها النظرية المتقدمة، داعماً لرؤاها الجمالية والفكرية الجديدة. وسأكتفي - هنا - بثلاثة ملامح اساسية وسمت تجربة الشعر الحر، وجعلته ينهض بدور بارز في مساندة الانسان العربي الحديث: الحرية 1- كانت قضية "الحرية" هي اكثر القيم التي تأسست عليها، وهفت اليها، حركة الشعر العربي الحر، طوال العقود الخمسة الماضية من القرن العشرين، بدءاً من جيل رواد حركة الشعر الحر، مروراً بكل اجيالها وتياراتها المتتالية، حتى لحظتنا الراهنة. وقد تبوّأت "الحرية" هذه المكانة الرئيسية من شواغل الشعر الحر، ليس فقط بسبب كونها "أم الحقوق الانسانية" وباب الحياة الاوسع، وانما لأنها - كذلك - اشتملت في مجتمعاتنا العربية على اكثر من معنى: فهناك الحرية بمعناها الوطني، التي تنصرف الى حرية "الاوطان" العربية من ربقة المحتلين والمستعمرين، على النحو الذي تجسده - مثالاً لا حصراً - قصائد المقاومة الفلسطينية واللبنانية في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي، حيث صعد صوت محمود درويش مؤكداً هويته الفلسطينية العربية في مواجهة محاولات الاحتلال طمس هوية الشعب صاحب الارض والوطن: "سجّلْ أنا عربي ورقمُ بطاقتي خمسون ألف وأطفالي ثمانية وتاسعهم سيأتي بعد صيف". وحين صعد شوقي بزيع موجهاً رسالته الى جحافل الغزو الاسرائيلي التي حاصرت عاصمته بيروت 1980: "في الأفق عصافيرُ معاديةٌ في الأفق طيورٌ سودْ في الأفق دمٌ ورعود كشف الطفل فراشته البيضاء صوّب نحو الشمس، فلم تسقط صوّب نحو البحر، فلم يسقط صوّب نحو الأرض، فمات". وهناك الحرية بمعناها "الفردي" التي تنصرف الى حرية "المواطن" في اختيارات حياته المعيشية والعملية والفكرية. وهناك الحرية بمعناها "السياسي"، التي تنصرف الى حرية الانتماء العقائدي والاختيار الايديولوجي وحرية الرأي والتنظيم واختيار الحاكم والنظام السياسي. ولعل هذه الحرية هي التي حظيت "بالحضور" الاعظم في نصوص حركة الشعر الحر، نظراً لغيابها الفعلي في واقع المواطنين الذين تحررت دولهم من الاستعمار القديم، مع النصف الثاني من القرن العشرين سواء كان هذا التحرر حقيقياً او اسمياً ووصلت الانظمة الوطنية، العسكرية في الغالب، الى الحكم. تحرر الوطن، لكن النخبة السياسية الحاكمة ابقت "حرية المواطن" في الفكر والاعتقاد والابداع حلماً معلقاً يرفرف في سماء بلداننا العربية. فبرز جلياً الخط الشعري الذي ينشد الحرية ويندد بالسجن والسجان، ويرفض العسف والقهر والاضهاد، حتى ان دراسة احصائية دقيقة عن نسبة القصائد التي كتبت عن السجن، او فيه او ضده الى القصائد ذات المواضيع الاخرى يمكن أن تسفر عن نتيجة فادحة تدل على سيادة "تيمة" السجن في قصائد الشعر العربي الحديث سيادة طاغية مؤلمة. والنماذج تجل عن الحصر، وسأمثلها هنا بمثال واحد فقط من شعر أحمد عبد المعطي حجازي، حين قال في "مرثية للعمر الجميل" موجهاً خطابه الى عبد الناصر: "كنتُ في قلعة من قلاع المدينة ملقىً سجيناً وكنتُ أراقب موكبَك الذهبيَّ فتأخذني نشوةٌ فأمزّق مظلمتي ثم أكتبُ فيكَ قصيدة" وهناك الحرية بمعناها الفني "الجمالي" التي تنصرف الى حرية الشاعر في اختيار التشكيلات الفنية التي يؤدي بها شعره، وفي اقتراح او اجتراح الاساليب الجمالية التي يقدم - بها وفيها - نصه الشعري، بما ينطوي عليه ذلك من حرية تحديده "للأشكال" القائمة او ابتداعه "اشكالاً" غير قائمة. والحاصل ان هذا النوع الأخير من الحرية هو اقل انواعها حظاً في الالتفات اليه: سواء من جانب الشعراء انفسهم، حيث درج الكثيرون منهم على العناية بتجديد "المعاني" الشعورية، من دون العناية بتجديد "المباني" الفنية. او من جانب المدافعين عن حرية الابداع، حيث درج الكثيرون منهم على الدفاع عن "المضامين" الفكرية الجديدة، من دون الدفاع عن التشكيلات الفنية الجديدة، على ظن بأن الخطر هو في المضمون وحده. وهو الظن الذي يتغافل عن أن حرية الشعر، التي هي من صلب حرية الحياة كلها. العدل 2- العدل هو الاسم الاجتماعي للحرية، ولذا فقد بات - مثل الحرية نفسها - هماً أساسياً من هموم تجربة الشعر الحر، لا سيما ان هذه الاخيرة قد تواكبت مع بروز بعض شعارات "العدالة الاجتماعية" التي رفعتها بعض الانظمة العربية المستقلة حديثاً، مثل ثورة تموز يوليو 1952 في مصر. في هذا السياق، تكاثر نشدان هذه "العدالة الاجتماعية" في الشعر العربي الحديث، بعد ثورة تموز المصرية، مع تلويناتها المختلفة كالتعاون او التكافل او الاشتراكية العربية او العلمية، على حين كان ذكر كلمة "الاشتراكية" في الشعر قبل "الثورة" ممنوعاً، على نحو ما حدث حينما اعترض الملك فاروق على بيت أحمد شوقي في قصيدته "ولد الهدى" عندما غنتها أم كلثوم، وهو البيت القائل في وصف الرسول الكريم: "الاشتراكيون أنتَ إمامُهم لولا دعاوى القوم والغلواء" ولأن العدل الاجتماعي والحرية الوطنية او السياسية كانا دائماً كفتي ميزان لأي نظام سياسي، بغياب احداهما يختل الميزان بل وتغيب الاخرى، فقد ركز شعراء كثيرون في حركة الشعر الحر على ضرورة ان تتكامل الكفتان. ولذا صاح صلاح عبد الصبور مرة، منادياً "القادم" الذي يرفرف على كتفيه بيرقا الحرية والعدل معاً: "يا سيدنا القادم من بعدي أنا أصغر من ينظرونك في شوق محموم لا مهنة لي إذ أني الآن نزيل السجن متهماً بالنظر إلى المستقبل لكني أكتب لك باسم الفلاحين وباسم الملاحين باسم الحدادين وباسم الحلاقين والبحّارة والحمّارة والعمال وأصحاب الأعمال والأعيان وكتاب الديوان والبوابين وصبيان البقالين وباسم الشعراء وباسم الخفراء والأهرام وباب النصر والقناطر الخيرية وعبد الله النديم وتوفيق الحكيم وألمظ وشجرة الدر وكتاب الموتى ونشيد بلادي بلادي نرجو أن تأتي وبأقصى سرعة فالصبر تبدد واليأس تمدد إيما أن تدركنا الآن ولن تدركنا بعد حاشية: لا تنسَ أن تحمل سيفك" وصاح عبدالمعطي حجازي مرة: "قلنا لك افعل كما تشتهي وأعِدْ للمدينة لؤلؤة العدل لؤلؤة المستحيل الفريدة لم تأتِ، بل جاء جيش الفرنجة واحتملونا إلى البحر" ثم صاح أمل دنقل مرة: "أنا الذي ما ذقت طعم الضّانْ أنا الذي لا حولَ لي أو شانْ أنا الذي أقصيتُ من مجالسِ الفتيانْ أدعى إلى الموت ولم أدعَ إلى المجالسة". "التعدد" 3- استقرت "صيغة" العمود الشعري التقليدي في تاريخ الشعر العربي طوال ما يصل الى عشرين قرناً. ولذلك فإن حركة الشعر الحر لم تكن مجرد كسر لهذا العمود المستقر، بل كانت في جوهرها إعلاناً عن "التعدد" وتدشيناً له: تعدد التيارات الفنية والمدارس الجمالية في إهاب "وحدة" شاملة هي "الشعر". ولقد جسد الشعر الحر - وما زال يجسد - هذه التعددية ويمارسها وينتجها ويدعو اليها، انطلاقاً من قناعة بأن الشعر عديد وكثير، مثلما ان الحقيقة، في الفلسفة، عديدة وكثيرة. وإذا كان الشعر "صعباً وطويلاً سُلّمُه" وكما جاء في التعريف القديم، فإنه كذلك صار "متنوعاً وجمة مدارسه" في التعريف الحديث. والحاصل أن "تعددية" الشعر لم تحبس تجلياتها في تنوع المدارس الفكرية والجمالية نفسها فحسب، بل تجاوزت ذلك الى تجليات شتى: نذكر منها تعدد مصادره الثقافية ومرجعياته المعرفية، على نحو ما نجد عند بعض اقطابه كالسياب والبياتي وعبد الصبور وأدونيس وحاوي وحجازي ومطر والخال لينهل من المعين الأوروبي والغربي الى جانب نهله من المعين العربي والشرقي القديم. ونذكر منها حضور التراثات الدينية الثلاثة في خلفية استلهاماته وتناصاته واقنعته الجمالية، فتجاورت الرموز الاسلامية والمسيحية واليهودية، في "متن" النص الشعري الحديث، عبر سياق ناصع من "التسامح" الثقافي والديني الرحب، تضافر المسيح مع ايوب مع النجف عند السياب، وتضافرت ريتا مع احمد العربي مع الصليب عند محمود درويش، وتضافرت زرقاء اليمامة مع بن نوح مع العهد القديم مع سبارتاكوس عند امل دنقل، وتضافرت المزامير مع نشيد الاناشيد مع الحسين عند ادونيس، وتضافر عمر بن الخطاب مع انبادوقليس مع مريم عند عفيفي مطر. وكما تلاشت في السياسة نظرية "الحزب الواحد" تلاشت في الشعر كذلك نظرية "العمود الواحد" الوحيد الذي يحدّ الشعر ويشرطه، بل إن ذلك التنوع كان يتبدى على المستوى التشكيلي - في النص الواحد للشاعر الواحد، وهو ما نجد الواحد للشاعر الواحد، وهو ما نجده في العديد من القصائد التي تنطوي على اكثر من شكل فني وأسلوب جمالي، فتتلاقى فيها المدرسة العمودية مع المدرسة الحرة مع القصيدة المدورة مع مدرسة النثر، على نحو ما نجد عند سعدي يوسف وأدونيس وقاسم حداد ومحمد بنيس ورفعت سلام وغيرهم. ولا ريب ان هذا التعدد الشعري يعني: الايمان "بفرديّة" المبدع نقيضاً "للنمذجة" والتنميط، الذي تسعى اليه المؤسسة، سواء كانت المؤسسة نظاماً سياسياً او نظاماً جمالياً. ويعني الايمان بأن الحقيقة في الحياة والفكر والفنون ذات وجوه عدة. ويعني الايمان بأن تجديد الرؤى "التقنية" هو جزء أصيل من تجديد الرؤى الفلسفية والفردية. ويعني الايمان بأن في الشعر "نقصاً" يكتمل "بالقارئ"، على النحو الذي ينقل الشعر من كونه ظاهرة علوية مغلقة، الى كونه ظاهرة بشرية ديموقراطية مفتوحة، يشارك القارئ / المواطن في تلقيها وفي صنعها في آن، ليصبح الشعر - بهذا المنظور - "فعل مشاركة". * شاعر مصري