نشرت احدى الصحف العربية تصريحاً مطولاً للروائي الشاعر إبراهيم نصر الله، ملخصه: "في التاسع من نيسان ابريل من العام الماضي، نشرتُ في صحيفة "القدس العربي" اللندنية نصاً بعنوان "قيامة الضمير" ضد أميركا، وغزوها للعراق. وهو نص يجمع الشعر والنثر في بنائه. وفي السادس عشر من الشهر الماضي، وفي "القدس العربي" أيضاً، قرأت قصيدة لشاعرنا الكبير سعدي يوسف بعنوان "يا ربّ، احفظْ أميركا". وحين وصلت الى أحد مقاطعها الطويلة، انتابني إحساس بأنني أقرأ شيئاً لي، ولأنني لا أحفظ نصي، الذي كتبته ونشرته قبل عام وشهر، حرفياً، رحت أبحث عن أقواس تشير الى أن هذا النص مقتبس، ولكنني لم أجد تلك "الأقواس"، فتوجهت من فوري الى صفحة "القدس العربي" المخزنة في جهاز الكومبيوتر لدي، وبدأت بقراءتها، فلاحظت فوراً أن النص الموجود في قصيدة سعدي مختلف قليلاً. لكن قبولي به، يعني شيئاً واحداً، أن أقوم بإعدام نصي". لا شك في أن كثيرين تذكروا، بعد قراءة هذا الاتهام المفعم بالثقة، اتهاماً آخر كان سعدي أحد طرفيه، ولكن بصفته "المانح" نصاً روائياً مشهوراً، والمفارقة هذه المرة أنه موصوم باللصوصية على رغم أنه مانح بالفعل. فقصيدة "يا رب، احفظ أميركا" هي نفسها قصيدة أميركا، أميركا التي نشرت في ديوان "قصائد ساذجة" عن دار المدى في دمشق سنة 1996، وكأنه سرق نفسه بإعادة النشر، ليربط ما بين رؤية زعم "تحرير العراق" الآن، والرؤية الأصل لزعم "تحرير الكويت" في عاصفة الصحراء قبل سنوات. ربما تسرع إبراهيم نصر الله في تفسير إحساسه بأنه يقرأ كلاماً مألوفاً ثم في نسبه إلى نفسه. ربما هو لم يقرأ قصيدة سعدي في الديوان، وربما نسي، ولا جدوى من البحث في الأسباب في رأيي، إنما الأهم تأمل ذريعة الاتهام، ومنطلقها نفسي في المقام الأول، من ذلك الإحساس المهووس بملكية النص واليقين ببراءته، مترافقاً مع الإحساس بتجاهل الآخرين على رغم "امتلاك" الذات فريداً يطمع فيه الكبار ويسرقونه. ليس هناك نصّ أول/ مستقر، في مفهوم النقد اليوم، ولا يخلو أي كتاب من نص محرّف/ منتحل، مع ملاحظة أن درس الانتحال ارتبط في تاريخنا الأدبي بعامل أخلاقي، فوُصف بالتعدي والتلفيق والتشويه. واُعتبر النص المُنتَحل في كل الأحوال نصاً غير شرعيّ، بالقياس إلى أصل شريف أو بريء، نصاً تابعاً، لا يستحق سوى الإدانة والرفض في مقابل تثمين موهبة الأصل الذي يغري الطامعين. فات كثيرون أن محدودية اللغة وتقاليد الكتابة تحصر الإبداع في عملية تغيير النسق السابق، جزئياً في ما يتصل بالمفردات، والعلاقات التي تصل بينها، وكلياً في إطار المعنى العام المراد استخدامها لتبليغه. أي نسق، عند التحقيق، معادلة لمركبات حساسة، وتعديلها لا بد من أن ينتج مركباً مختلفاً، لا يقل استحقاقاً للدرس عن أصوله. لكنّ الخلط الحاصل في المفاهيم بين التناص/ التأثر/ التقليد والسرقة مسؤول بالدرجة الأولى عن التقصير النقدي الواضح في دراسة مصادر الإبداع من جانب، وحرص أكثر المؤلفين، من جانب آخر، على عدم الإشارة الى النصوص الرائدة التي حرّضت إنتاجهم، وانزعاجهم، من ثمّ، عند أي مقاربة نقدية لما هو خارج النص المنشور. النصوص لها حياة مستقلة، لا تبدأ من النشر، ولا هو ينهيها، ومما يلفت النظر أن مفردة "نشَر" كانت تعني عند الرومان "وضَع/ ولَد"، بإشارة لطيفة إلى ما في عملية نشر الإبداع من عنف وألم، لتحرير عقد الانفصال بين كائنين. لا أحد، أو لا قانون، يقول بملكية الأم مولودها، وبالمثل، في تقديري، تمتنع المجادلة في ملكية المبدع كيان نصه المنشور، لأن صدمة الانفصال تمت بالاختيار والتراضي، وهيمنت عليها، في ما يشبه الصفقة، اعتبارات نفسية ومادية مختلطة، كطلب خلود الذكر، حب الآخرين، الشهرة، الثراء، والنفوذ. حق المؤلف، كما أراه، ليس أكثر من حق انتفاع بنص أفكاره، أدبياً ومادياً، ويماثله تماماً حق انتفاع القراء/ المشترين بهذا النص، سواء كان ما دفعوه في مقابل النص مالاً أو زمناً للقراءة أو إعجاباً، أو ترشيداً نقدياً من أي نوع. المبدع بحسب هذا المنظور وكيل نصه، يخدمه، يدافع عنه، ويجني أرباحه، فهل ثمة سلطة للوكيل في حياة موكله؟ حياة النصوص فرع من "صلب/ رحم" حياة المبدع، حياة "تنْوَجد" من علاقة مشروطة، بالتكيف المتبادل بين الطرفين والإحاطة الواعية بما ينفعهما، ثم تشق طريقها، محققة بقوتها الذاتية شكل بقائها. فإذا أصابت المبدع حال من الأنانية وضيق الأفق، كالتي تصيب بعض الآباء، جنح إلى حصار نصوصه والتدخل في حياتها بما يؤثر في تماسكها وانطلاقها. ربما لا تستطيع أي قراءة تالية لقصيدة "قيامة الضمير" الإفلات من رد الفعل إزاء تصريح إبراهيم نصر الله المتسرع في شأنها، والذي سيؤدي إلى النتيجة نفسها التي توهم أن التناص يبررها، وهي إعدام القصيدة، أو عدم إدراجها في ديوان. لذلك حاول منعها بافتعال هذه الفضيحة، مغلفة بالاحترام والوفاء "لمن سبقنا من شعراء"! أما قصيدة "أميركا، أميركا" فضمّت بنسختها المعدلة "يا رب، احفظ أميركا" وتوقيت إعادة نشرها قراءات جديدة لذروة مقاطعها ونهايتها، مع جملة التعارضات المبررة بين الصوتين، وأثر نبرة الاحتجاج المهذب في نمو المشادة المنطقية بين الذات والجندي الأميركي، وبينها وبين السيدة أميركا.