"تحت سريري مقبرة". هذه هي إحدى جمل ديوان "أجدادي القتلة"، الصادر حديثاً عن دار "شرقيات" في القاهرة، للشاعرة والقاصّة السورية المقيمة في باريس سلوى النعيمي. ويستطيع القارئ أن يعتبر مثل هذه الجملة الموجزة إيجازاً مؤلماً، مفتاحاً من مفاتيح العالم الشعري لهذا الديوان، وربما لشعر سلوى النعيمي كله. ذلك ان هذه الجملة المفتاح تقودنا الى ما يطفو من الديوان كله من شعورٍ طافحٍ بالوحدة والاغتراب ومناداة خيالات الموت. وطالما ان "أجدادها قتلة" فإن ما تحت سريرها سيكون مقبرةً، وطالما ان "لا مكان لي هنا؟ لا مكان لي هناك؟" فلا بد ان يسطع السؤال: "من أين يأتي السهمُ / مسموماً / ينخر القلب؟". وإذا كانت التقاليد العتيقة الضاغطة والمواريث القديمة القاهرة ستحيل السرير رمز البهجة الزاهية والحسّية الحيّة الى مقبرةٍ، فإن تناقضاً جليّاً لا بد من ان ينشأ في الروح المنقسمة، طرفه الأول هو الروح، وطرفه الثاني هو الجسد، مثلما نرى في القطعة التالية، التي تبدأ بالروح وتنتهي بالجسد، وبينهما تمثيلية مريرة: "تمنّيت لو كانت لديّ روح / كي ألعب معها لعبة الاستغماية / أغمض عيني وأعدّ الى عشرة / ثم أركض باحثةٍ عنها / في زوايا جسدي". على ان المتابع الفاحص سيضع يديه على مسألتين كبيرتين يثيرهما شعرُ سلوى النعيمي، في "أجدادي القتلة" خاصةً، وفي شعرها كله عامةً. المسألة الأولى: هي ابتعاد الشاعرة عن الغَرَق في التعبير المباشر الفجّ عن أشواق الجسد وأهواء الحسّ، كما غرقتْ شاعراتٌ عربيات كثيرات ظنننّ ان الإسراف في ذلك التعبير الحسّي المفرط يضمن بذاته شعرية سابقةً على النص. النعيمي - على العكس - تغمس ذلك التعبير الحسّي بماء الشعر، عبر جعْلها التحقق الجسدي جزءاً من صراع بين المسموع والممنوع من الوعي العربي، وطرفاً في تناقصٍ فرديٍّ وجماعيٍّ بين الحياة والموت، وتجسيداً لمأزقٍ وجوديٍّ محكم. هكذا تتمّ عملية مزدوجة من "تمجيز الحس" و"تحسيس المجاز"، بمعنى منح الحس لمسة مجازيةً تنقذه من مادّيته الصرف، ومنح المجاز لمسةً حسيةً تنقذه من سرابيّته الهائمة، في آن. وكأن الشاعرة في ذلك تترجم شعرياً قولة ابن عربي الشهيرة: "الجسد قبّة الروح": "مراجيحُ الرغبة تتركني وراءها لا نداء لمن يبتعد. هل ابتلعتُ الثعبان والتفاحة؟" المسألة الثانية: هي وفرةُ "التناصّ" مع النصوص التراثية العربية. وهو ما يعني ان الشاعرة ليست عضواً في ذلك الحزب المراهق من شباب الكتّاب والكاتبات، الذين يرون ان التواصل مع التراث السابق سُبَّة لا تليق بالمبدعين الجدد. كما يعني التأكيد على الفكرة النقدية الباهرة التي تقول بأن كلَّ نصٍّ جديدٍ ما هو إلا خلاصةُ نصوصٍ سابقةٍ مهضومة: "في الصباح / وأنا أنتظر الباص / أنظر الى وجهي في انعكاس الواجهة الزجاجية / أتذكر حكمةً قديمةً: / كلبٌ حيٌّ خيرٌ من أسدٍ ميت". وليس يخفى على العين المتأملة ما في هذه النصوص من نقدٍ شديدٍ للذات وتحسُّرٍ بالغٍ على النفسِ وتمسُّكٍ عميقٍ بالحياة، في آن. وكأن ثمة تناقضاً جديداً تقدّمه لنا الشاعرة: فبينما هي تلجأ الى الكثير من المقتطفات التراثية التاريخية في الثقافة العربية القديمة، فإنها تصرخ في الوقت نفسه "جسدي محرومٌ من تاريخه"، لنجد أنفسنا أمام تعارضٍ جذريّ بين "تاريخ الجسد"، الفرديّ و"تاريخ الوعي العربي" الجماعي، يؤكد لنا أن تقليدية الأخير هي سببُ أزمة الأول. "ما هكذا تورد القُبَلُ يا صبيَّ الكلمات". على ان التناصَ الذي تقيمه النعيمي مع النصوص التراثية، لا يكون دائماً تامّاً أو كاملاً، إذ كثيراً ما نراه منقوصاً أو مجزوءاً أو مبتوراً. ويمكن للنظرة السريعة ان تفسّر ذلك النقصَ على أنه رغبةٌ من الشاعرة في ان يكمل القارئ النقصَ في الجملة المجلوبة بكلمتها - أو كلماتها - الحقيقية من أصل المقتطف، كأن نضيف، مثلاً، كلمة "براقش" الى جملة "على نفسها جَنَتْ"...، أو نضيف، مثلاً، كلمة "تحتي" الى جملة "على قلق كأن الريح...". ويغلب على ظني ان التفسير الأعمق هو ان الشاعرة تريد من قارئها ان يكملَ الناقصَ من عنده هو، أي من مخزونه الثقافي وزخمه الوجداني وسياقه الاجتماعي، ومن مناخ تلقّيه للنص الماثل والنص الوافد عليه. بهذه الآلية الخصبة، في "لعبة" التناص، يحقق نصُّ سلوى النعيمي إكثر من غرض: فهو، من ناحية، يُلمح إلى تواصل المعاصرين مع تراثهم السابق، بطريقةٍ أعقد من الطريقة السهلة التي لخّصوها في "قتل الأب". وهو، من ناحية ثانية، يؤكد ان حضور "الثقافة" في الشعر لا يشكِّل عبئاً على الإبداع - كما يظن البعض - إلا إذا كان المبدع قليل الكفاءة. وهو، من ناحية رابعة، يفكّك المقتطفَ التراثيَّ الوافدَ ويخلخل ثباته وتماسكه، بل يخلعه من سياقه اليقينيّ السابقِ ليقذف به الى سياقٍ قلقٍ راهن. وهو، من ناحيةٍ خامسةٍ وأخيرة، يُشرك القارئ في استكمال المنقوص وفي عملية صنع النص كلّه، على نحو يضيف دليلاً جديداً على ان الشعر المتجدّدَ هو نصٌّ ديموقراطيٌّ، لا ينغلق على قارئه عبرَ تأويلٍ مستبدٍ واحدٍ وعلويٍّ ومنفرد، بل يتيح له ان يتحوّل من "قارئٍ" منعزلٍ إلى "كاتب" ضالعٍ في إنتاج النص. لستُ أزعم، بالطبع، ان الشاعرة وُفّقت في تحقيق كل هذه الأهداف المتعددة من هذه الآلية المركّبة في كل شعرها عبر "أجدادي القتلة" أو ما سبقه. فلا ريب أنها أخفقتْ مراتٍ مثلما نجحت مرات... لكن المعوّلَ، عندي، ليس في مقدار التوفيق ومقدار عدمه، بل في التوجّه نفسه: ذلك التوجّه الذي يعني ان هناك لحظة شعريةً صحّيةً، تستحضر التراثَ وتفككه في إضاءةٍ معاصرة، يقودها شاعرٌ ينطلق من "الإيثار" لا "الأثرة"، لينتج نصاً مفتوحاً هو "شركةٌ" بين الجميع، حتى لو كانت الشاعرة نفسها تعاني قهر المواريث الماحية لفرادةِ الذات وخصوصية النفس. "كما علّموني/ ألوّن النهرَ بالأرزق والسهلَ بالأخضر/ كما علّموني / أرفع الفاعلَ وأنصبُ المفعولَ / وأكسر الأسماء بعد حروف الجرّ / كما علّموني / أتكلم بصوتٍ خافتٍ / والأفضل ألا أتكلم أبداً / كما علّموني / أبني حياتي للمجهول".