تعد ظاهرة التناص إحدى الظواهر الفنية ذات الأثر البالغ في التشكيل الجمالي للخطاب الشعري المعاصر، وهو أحد مميزات النص الأساسية الذي يحيل إلى مجموعة نصوص أخرى سابقة، أو معاصرة للنص الأساسي سواء أكانت النصوص شعريةً أم نثرية. والتناص له علاقة بالموروث من خلال تفاعل جدلي، وتلقيح حي بين طرفين تتولد منهما حركة الواقع، فتجلو أبعاده، وتعمق جوانبه، ليسهم في صياغة تجربة تجسد قضايا الإنسان. (موسى، إبراهيم نمر، آفاق الرؤيا الشعرية، دراسات في أنواع التناص في الشعر الفلسطيني المعاصر، الهيئة العامة للكتاب، مصر). يعتبر التناص عند محمد مفتاح من الظواهر اللغوية التي تستعصي على الضبط والتقنين، ويعتمد في تمييزها على ثقافة المتلقي، وسعة معرفته، وقدرته على الترجيح، فضلاً عن أن هناك مؤشرات تجعل التناص يكشف عن نفسه، ويوجه القارئ للإمساك به ومنها: التلاعب بأصوات الكلمة، والتصريح بالمعارضة، واستعمال لغة وسط معين، والإحالة على جنس خطابي برمته. (مفتاح، محمد، تحليل الخطاب الشعري «استراتيجية التناص» المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء). وإذا كان رولان بارت قد عبر عن التناص بقوله: «إنه قدر كل نص مهما كان نوعه وجنسه»، (انظر: بارت، رولان، نظرية النص، مجلة العرب والفكر العالمي، ترجمة وتعليق: محمد خير البقاعي، (مركز الإنماء القومي، بيروت، 1988، العدد الثالث). فإن دائرة مصادره تتسع لتشمل كل ما تقع عليه عين المبدع أو الشاعر، أو تصل إليه مشاهدته وتجاربه منذ نعومة أظفاره، بل إن حدود دائرته لا تتجمد عند ثقافة واحدة، بل قد تصل إلى ثقافات متعددة. (الزغبي، أحمد، التناص - مقدمة نظرية مع دراسة تطبيقية مكتبة الكتاني، إربد، الأردن). ويمكن القول إن التناص بقصد أو بغير قصد يمكن أن يعتبر نقطة انطلاق للنصوص الأدبية، ومعالجة حيثياتها من التأثر بالنصوص السابقة أو اللاحقة، بما يتيحه ذلك من فتح آفاق أوسع، نتجاوز فيها مصطلحات القدماء التي وصمت بها النصوص، تلك المصطلحات التي تحد من استثمار القيم الجمالية والفنية، وتحصرها في محيط الآراء النقدية الذاتية الخاصة التي لا تتجاوز حدود التعصب، والفردانية في الرأي ومن خلال النظر في دواوين شعراء جازان تبدو نماذج كثيرة من تناص الماء وتشكيلاته مع القرآن، وشعر القدماء، والتاريخ، بل وحتى مع الأسطورة، مما يدل على أنهم لم يكونوا بدعاً من عند أنفسهم في ألفاظهم، ومعانيهم، وصورهم، بل تناصوا مع من سبقهم وتأثروا بهم، نتيجة ثقافتهم واطلاعهم، فظهر ذلك واضحاً جلياً على صفحات دواوينهم، ومن أبرز أنواع التناص المائي عند شعراء جازان: أولاً - التناص القرآني: قد يكون التناص مع ألفاظ القرآن الكريم أكثر تناص لافت للنظر عند شعراء جازان، ذلك أن هذا القرآن المعجز كان ولا يزال معيناً لا ينضب، ينهل منه الشعراء في ألفاظهم ومعانيهم، بسبب تأثرهم به. «وللتناص القرآني ثراؤه واتساعه، إذ يجد الشاعر فيه كل ما قد يحتاجه من رموز تعبر عما يريد من قضايا من غير حاجة إلى الشرح والتفصيل، فهو مادة راسخة في الذاكرة الجمعية لعامة المسلمين بكل ما يحويه من قصص وعبر، ناهيك عن الاقتصاد اللفظي والفني الأسلوبي، الذي يتميز به الخطاب القرآني». (البادي، حصة، التناص في الشعر العربي الحديث، دار كنوز المعرفة، عمان). وقد تأثر شعراء جازان بألفاظ القرآن وتراكيبه المائية، فأخذوا بعضها كما هي، أو أعادوا صياغة بعض معانيها بما يتناسب وتجاربهم الشعرية. ويتجلى التناص للماء مع القرآن في قصيدة للشاعر علي النعمي، رداً على إحدى قصائد نزار قباني ألقاها النعمي في تونس سنة 1980، قال فيها: (النعمي، الرحيل إلى الأعماق، نادي جازان الأدبي، 1405). الله جل الله في عليائه تتقطع الأبصار عن إدراكه الليل يعقبه النهار بحكمه حي وضل المفترون وخابوا وهو القوي القاهر الغلاب ويساق للأرض اليباب سحاب فالنعمي يريد أن يحاج الشاعر نزار قباني، ويبرز له دلائل قدرة الله، فاستلزم منه ذلك أن يستدعي بعض الآيات متناصاً في قوله: ويساق للأرض اليباب سحاب، مع قوله تعالى: {أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم}. (سورة السجدة آية 27). ففي هذه الآية معنى لطف الله، لأنه يرسل ما تحمله الأنهار، ويتحدر من الجبال إلى الأرض الجرز التي لا نبات فيها. (ابن كثير، إسماعيل بن عمر، تفسير القرآن العظيم، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، ط1، دار الكتب العلمية، منشورات محمد علي بيضون، بيروت). وقد استطاع النعمي تفنيد شبه الشاعر نزار الذي ربما اصطدم في بعض قصائده مع الشرع الحنيف، عن طريق التناص مع معنى الآية الذي يتمثل في إرسال الله للسحاب المحمل بالمطر، وسوقه إلى الأرض المجدبة، لتحل بها الحياة. إضافةً إلى أن الشاعر قد تناص مع آيتين أخريين في غير الماء، في إطار حديثه عن دلائل قدرة الله كما في قوله: تتقطع الأبصار عن إدراكه - والليل يعقبه النهار بحكمه، حيث تناص في قوله الأول مع قوله تعالى: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار}، ( ) وفي الثاني مع قوله تعالى: {يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً}. (سورة الأنعام آية: 103). وذلك يدل على سعة إلمام الشاعر النعمي بالقرآن الكريم، وقوة حججه، بحيث استطاع أن يختصر ما يريد قوله عن طريق التناص القرآني، الذي يتوافر على قدر من الإيجاز والاختصار يتناسب ونموذجه الشعري. ثانياً - التناص مع شعر القدماء: انطلاقاً من مقولة العرب «الشعر ديوان العرب»، التي تداولها معظم النقاد كابن سلام وغيره، (هذه المقولة أثرت عن ابن عباس عندما قال: الشعر ديوان العرب فإذا خفي علينا الحرف من القرآن - الذي أنزله الله بلغة العرب - رجعنا إلى ديوانهم فالتمسنا معرفة ذلك منه، ينظر: السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر، الإتقان في علوم القرآن، تحقيق: فواز زمرلي، د ط ، دار الكتاب العربي، بيروت). وقال ابن سلام الجمحي: وكان الشعر في الجاهلية عند العرب ديوان علمهم، ومنتهى حكمهم، (ينظر: الجمحي، محمد بن سلام، طبقات فحول الشعراء، تحقيق: محمود محمد شاكر، دار المدني بجدة). وبما تحمله هذه المقولة من معاني احتواء الشعر على علوم العرب ومعارفهم إضافةً إلى القيم والأخلاق، فإن شعراء جازان قد نهلوا من ديوان العرب من خلال التعليم والقراءة، فهضموا معاني القدماء وصورهم، وأعادوا صياغتها في قوالب متجددة. وعليه فإن التناص مع شعر القدماء أمر طبيعي، لما له من دور في صقل موهبة الشعراء وتنميتها. ومن التناص الجميل ما ورد عند الشاعر منصور دماس في قصيدته (الجرح المنسي)، حيث قال: أنت مثل السماء حسناً وبعداً إن أعش مجدب الغرام وغيري أفلا يصبح العسير يسيراً؟ مورق لا أريد يوماً مطيراً فالشاعر يمزج غزله بالمطر ومفرداته، ويظهر عنده معنى الأنانية، في كونه لا يتمنى الوصل لغيره إذا لم تمطر روحه بوصل محبوبته بعد جفافها، ويتناص الشاعر في ذات المعنى والأثرة الطاغية مع الشاعر أبي فراس الحمداني، حين قال في الأسر: (الحمداني، أبو فراس الحارث بن سعيد، ديوانه، تحقيق، خليل الدويهي، ط2، ( دار الكتاب العربي، بيروت). معللتي بالوصل والموت دونه إذا مت ظمآناً فلا نزل القطر وقد يكون الشاعر منصور دماس - في بيتيه السابقين - تناص عكسياً مع معنى الإيثار، والنظرة الإنسانية في قول أبي العلاء المعري: (المعري، أبو العلاء، أحمد بن عبدالله، سقط الزند، د ط ، دار صادر وبيروت للطباعة). فلا هطلت علي ولا بأرضي سحائب ليس تنتظم البلادا فيبدو أن الشاعر دماس قد تناص في ذلك عن طريق قلب القيمة الإيجابية، وهي إيثار المعري وعدم تمنيه سقوط المطر إذا لم يكن ديمةً عاماً شاملاً، إلى قيمة فيها أنانية تتمثل في عدم تمني الشاعر دماس لوصل المحبين لبعضهم، إن لم تعشب روحه بوصل حبيبته، مع الأخذ بعين الاعتبار المفارقة بين معنى المطر الحقيقي عند المعري، والمجازي عند دماس والحمداني. ثالثاً - التناص التاريخي: يأخذ التاريخ أهميته عند شعراء جازان، لكونه نافذةً بما فيه من أحداث وشخصيات، يطلون من خلالها ليطلعوا على ما يتلاءم مع تجاربهم الشعرية، فيضمنونه أشعارهم. وقد يتكئ الشاعر على بعض القصص التاريخية التي قد تمر في مخيلته، أو التي قد يتأثر بها، فتتسرب في قوله الشعري بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة. وقد تفرض بعض الأحداث التاريخية نفسها على المبدع، وقد يتعمد الشاعر التناص لأمر ما، ربما ليحدث لنصه زخماً، وليمنحه رمزيةً تبتعد به عن المعنى المباشر. ومن التناص التاريخي قصيدة الشاعر إبراهيم مفتاح التي جعل عنوانها (لا خراج بعد المطر)، قال فيها: (مفتاح، رائحة التراب، ط2، نادي جازان الأدبي، الدار العربية للعلوم ناشرون). أمطري لا حيث شئت لا كما تهوين أو تهوى اشتهاءات الرياح فهنا أرضي يباب وصحاري عطاشى أمطري لا حيث شئت بعد أن يشرب خطوي ظلك الممتد في كبد النهار ويذيب الغيم صحوي في انحناءات الطريق أمطري بعد ثوان بعد يوم بعد عام أمطري سيان عندي مطر أولا مطر زمني عاف الرعود فيبدو أن الشاعر تسيطر عليه حالة من التشاؤم جعلت مشاعره مجدبة، فتجده يخاطب الغيمة بأن تمطر، ولكنه خطاب المنكسر الذي تصحرت عواطفه، الذي من شدة شقائه استوى عنده المطر وعدمه، ويرمز الشاعر بقوله: زمني عاف الرعود، إلى تولي شبابه، وبالمطر لمحبوبته. وقد تناص الشاعر في ذلك مع قصة هارون الرشيد التاريخية المعروفة، عندما كان ينظر إلى السحابة المارة ويقول: «أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك». (هارون الرشيد: خليفة عباسي ولد سنة [150ه]، كان من أحسن الناس سيرة، وأكثرهم غزواً، وحجاً بنفسه، كثير الصدقة، وقد كثرت موارد الدولة في عهده الميمون، ينظر: ابن كثير، البداية والنهاية، دار عالم الكتب). فنظرة الرشيد للغيمة فيها ثقة، وشخصيته تبدو مسيطرة. وقد استطاع مفتاح توظيف التناص العكسي عن طريق النفي بدايةً من عنوانه لا خراج بعد المطر، الذي يرمز إلى جفاف عواطفه من وصل محبوبته. ويبدو التشتت للشاعر، وعدم السيطرة الذي نلمحه في قوله: أمطري لا حيث شئت، في تناص اعتمد فيه الشاعر على تضمين بعض العبارات الأصلية للقصة التاريخية، مع قلب القيمة الرمزية للمطر الذي يمثل النماء عند الخليفة، والجفاف عند الشاعر. رابعاً - التناص الأسطوري: إن تناص شعراء جازان مع القصص الأسطورية في الحضارات القديمة كحضارة بلاد الرافدين والحضارة الفرعونية وغيرهما، دليل على تفاعلهم مع الثقافات الأخرى، وانفتاحهم على الموروث الأسطوري - خاصةً - في ما يتعلق بالأساطير التي تدور حول الماء وتشكيلاته. ومن التناص الأسطوري قول الصعابي في قصيدته (أيتها المضيئة في دمي تتشكلين): (صعابي، وقفات على الماء، نادي المدينةالمنورة الأدبي). تأتين أيتها المضيئة في دمي تتشكلين والصمت يلغي بيننا صوت الطريق فينحني يا بارقاً أرخى ضفائره الحسان على يدي فأفقت أبحث عن بقايا موقدي وإذا استراح الليل في زمني أفاتح نجمةً ترنو لضوء الموعد فالشاعر يجعل محبوبته كالماء الذي يتحد مع دمه فيتشكلان روحاً وجسداً، يتحدان معاً، ليشكلا باتحادهما رمزاً للانطلاق والإشراق، ولعله يتناص بذلك مع أسطورة التعميد بالماء والدم عند النصارى التي تعبر عن التخلص من الذنوب، وتمنحهم النورانية. (التعميد: غمس المولود أو الداخل في دينهم في الماء، إيذاناً بدخوله في هذا الدين، ينظر: السحيمي، سليمان سالم، التعميد عند النصارى عرض ونقد، مكتبة دار النصيحة، دار المدينة النبوية، مصر). وهكذا فقد بدا من خلال الحديث عن التناص المائي عند شعراء جازان أنه يعد ظاهرةً فنيةً في شعرهم، وقد منح التناص نصوصهم شعريةً نابعةً من شبكة العلاقات التي أنشأها مع نصوص، أو قصص سابقة عليها. ولا يعتبر التناص مع سابقيهم عيباً، بل كانت له فوائد جمة تتجلى في تلاقح النصوص، وتوسيع آفاقهم الزمانية والمكانية، وتخصيب الخيال عندهم، واستفادة النصوص بعضها من بعض، لتفتح آفاقاً أرحب من التأويل، ولتكشف عن ثقافة المبدع وإحاطته سواء كان تناص الماء مع القرآن، أو تراث الشعراء القدماء، أو مع التاريخ، أو الأسطورة. وفضلاً عن أن التناص يكشف عن ثقافة المبدع فإنه يكشف - أيضاً - عن ثقافة المتلقي، ويضعه تحت طائل المسؤولية الأدبية والنقدية، لكشف خلفيات التناص الذي يحتاج إلى مزيد من الدراية والدربة. باحث سعودي.