لماذا يتعين على اليابان ان تخرق العرف الذي مضى عليه نصف قرن وترسل قوات الى بؤرة نزاع ملتهبة؟ اولاً، تلبية لطلب القوة العظمى الاميركية للمساعدة في المستنقع العراقي رداً لجميله في معضلة كوريا الشمالية وامن شرق آسيا عموماً. كما ان اليابان تأمل في حل مشكلة تمركز القوات الاميركية في نصف جزيرة اوكيناوا الذي خلق امتعاضاً مريراً لدى السكان فيها. وعبر عن ذلك حاكم الجزيرة السابق في لندن منذ فترة بلهجة اقرب الى لهجة ثوار اليسار العالمي الغابر. ثانياً، تحمل طوكيو مسؤولياتها الدولية في حماية شريان النفط الحيوي ميدانياً وليس مالياً او لوجستياً فقط كما في حرب تحرير الكويت. وجرى تجاوز الفقرة 9 من الدستور التي تمنع اليابان من نشر قوات هجومية ربما لتغييرها في المدى المتوسط بعد فترة تأهيل. ثالثاً، جذب الاستثمارات المالية اليابانية الى العراق لإعادة اعماره وتأهيله. صحيح ان اليابان ناءت بمبلغ 13.5 بليون دولار كمجهود حربي في حرب تحرير الكويت كون دافع الضرائب الياباني احس به عبر رسوم على المحروقات. لكن هناك غصة في قلب الجهاز الديبلوماسي الياباني بأن هذا الكرم لم يلاق الشكر المطلوب من واشنطنولندن. وحالياً، تعهدت اليابان بدفع 1.5 بليون دولار كمنح و5،3 بليون دولار كقروض مع غياب الامتعاض الشعبي حتى الآن. رابعاً، تدريب المجتمع الياباني المعزول عن هموم العالم ليشارك فيها كبقية الدول الصناعية الاخرى. فاليابان حملت اشارة سائق متدرب خلال حرب تحرير الكويت ومؤتمر مدريد لكنها نأت بنفسها بعد ذلك عن صداع الشرق الاوسط. وحالياً، نزل المسؤولون الى الساحة الاعلامية، وخصوصاً برامج النقاش العام على التلفزيون، كي يقنعوا ربات البيوت الغاضبات من ارسال اولادهم الى العراق. خامساً، انتقاء مدينة السماوة الهادئة مركزاً للوحدات اليابانية لتقوم بعملها الانساني - التأهيلي. حصل ذلك بعد فترة دراسة وترو لئلا تثار مشاكل تعيق الانتشار المتدرج للجنود على مدى شهور. وفي المقام الاخير، فإنه لو تعرض اليابانيون لخسائر في الارواح، فإن التوقعات تشير الى ترجيح احتشاد الرأي العام وراء الحكومة بشكل قد يؤدي الى تعديل الدستور. وهذه المخاطرة المحسوبة تأتي في اعقاب عقود من المساهمات اليابانية في عمليات حفظ السلام الدولية. فبعد انضمام طوكيو الى عضوية الاممالمتحدة عام 1956، جاءها طلب لارسال وحدة مراقبين الى لبنان عام 1958 ثم ارسلت اليابان وحدة الى مرتفعات الجولان ما زالت باقية حتى اليوم. وبعد نقاش عام، جرت المصادقة على مشروع قانون المشاركة في عمليات حفظ السلام الدولية مما سهل على الحكومات المتعاقبة فعل ذلك. والى جانب المشاركة في مهمات زائير وموزمبيق وكوسوفو ونزع الالغام في الخليج، هناك المشاركة المهمة في سلطة الاممالمتحدة الموقتة لتأهيل كمبوديا عام 1992. وكانت دول شرق آسيا تمتعض في الماضي من أي تحرك ياباني عسكري خارج الحدود، لكن بعد حادثة 11 ايلول سبتمبر الارهابية تغيرت الامزجة الديبلوماسية بشكل يمهد في نهاية الامر لوضع امر استخدام القوة اليابانية العسكرية على الطاولة. ولو حصل ذلك، فيمكن عندها التشديد على ان اليابان لن تتبع نموذج سويسرا او السويد. ففي سويسرا، توجد منظومة متجذرة للمجتمع المدني افرزت مؤسسة مثل الصليب الاحمر فيما المنظمات التطوعية ما زالت تحبو في اليابان. وهي يمكن ان تسدي خدمة باضفاء شرعية على سياسة الحكومة الخارجية على رغم ان هذه السياسة ستظل مرتبطة بشكل وثيق مع السياسة الاميركية او توجهات الاممالمتحدة. وتجدر الاشارة الى ان معظم مساهمات اليابان الخيرية للجمعيات والنوادي، في الساحة اللبنانية مثلاً، تأتي من الحكومة مباشرة، وكالة جايكا، وليس من هيئات تطوعية او منظمات غير حكومية. واذا كان لنا ان نعرض الاهتمام الياباني بمنطقة الشرق الاوسط، فنرى ان طوكيو حضرت مؤتمر لوزان لكنها غابت عن مؤتمر سان ريمو. وبذا تكون اليابان غير مشاركة في تقسيم الحدود والنفوذ في المنطقة. غير انها دخلت ميدانياً ضمن قوات الفصل الدولية في الجولان عام 1974 بسبب النفط والحرب. ويستهزئ نائب وزير الخارجية السابق نوغامي بمقولة ان طوكيو قد تكون قوة بناءة في الشرق الاوسط نظراً لأن ليس عندها مخلفات استعمارية او اغلاط تاريخية في نفوس شعوبها. ويعود ذلك الى غياب الخبرة اليابانية في شؤون الشرق الاوسط حيث لا يتعدى عدد هؤلاء سوء خمسة فقط، باستثناء خبراء النفط بالطبع. كما انه يتوجب، بنظر نوغامي، ادخال خلفية تاريخية عن المنطقة في المناهج الدراسية اليابانية كي يفهم الناس ركائز اهميتها لرخاء الشعب الياباني. وعلى رغم التواضع المعروف لدى الديبلوماسيين، نرى ان نوغامي زار العراق في كانون الأول 1990 والتقى صدام بهدف الافراج عن "الضيوف اليابانيين" قبيل المعركة. ثم شارك في عملية مدريد للسلام كرئيس مشارك في لجنة المتعددة في اليابان من 1992 لغاية 1994 حيث يقول: "حذرنا جيمس بيكر من النوم على المقاعد الخلفية لكننا فعلناها وعدنا للعزلة". وزيادة على ذلك، امضى أخيراً ما يزيد على العام كزميل زائر في قسم الشرق الاوسط في المعهد الملكي للشؤون الدولية بلندن تشاتام هاوس للتدرب على شؤون المنطقة. ويبقى ان اليابان تدخل الى العراق وهي تسجل اسرع معدل نمو اقتصادي بين الدول الصناعية الثماني. وهي اختارت هدفاً امنياً - اجتماعياً يسهل تحقيقه في المسألة العراقية مع رغبة بتجنب المشاكل او سوء الفهم. جاء ذلك على خلفية تأهيل اليابان لدور عالمي منذ انبعاث الامل بالحصول على موقع في مجلس الامن الدولي. فطوكيو وقعت على معظم المواثيق الدولية بخصوص حقوق الانسان، مع المطالبة بتدريس مادتها في المناهج، وحقوق الطفل عام 1996، ثم الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية عام 1998، وازالة التمييز العنصري عام 2000. وهناك بالطبع محاذير سياسية بعدم المصادقة على بروتوكول يمكن المواطنين اليابانيين من تقديم استئناف مسائل حقوق الانسان الى محكمة خارج اليابان فضلاً عن عدم الحماسة في الترويج لحقوق الانسان ضمن اطار آسيوي. لكن بعد 11 ايلول، صادقت طوكيو على المواثيق الدولية الاثني عشر لمكافحة الارهاب. ويظهر ان هناك مسعى للتفلت من القيود بمباركة اميركية - بريطانية كي تدير اليابان علاقاتها الدولية في شكل يخدم المجتمع الدولي. وترجمة ذلك في الدوائر الغربية كالتالي: مساهمة اليابان في الجهود الدولية لمكافحة الارهاب، ودفع التزاماتها المالية للامم المتحدة في موعدها، ولعب دور نشط في مجموعة الدول الثماني ومجلس الامن في حالة حصولها على مقعد دائم فيه. وبالتالي، نشهد التحول العميق في مسار السياسة الخارجية اليابانية بعد فترة الحرب الباردة من خانة القوة التجارية البحت، حيث لا وجود للاعداء بل للمنافسين، الى الانفتاح على تيارات المجتمع الدولي للفعل والتفاعل. * كاتب لبناني مقيم في بريطانيا.