عبثت يد التغيرات التي تتفاعل في المجتمع الأردني بخصوصية مطبخه، فصبغت الثقافة الغذائية بألوان متعددة النكهات حتى لاحت في الأفق بوادر "عولمة غذائية" حملتها المأكولات الأميركية والإيطالية والهندية وغيرها من الاصناف التي باتت تتوسع على حساب الأكلات الشعبية. ويعكس تزايد انتشار المطاعم وتنامي أعداد مرتاديها تبدلات في الأنماط الغذائية لدى الشباب تكشف عن تقلب الأوضاع الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وتسمح لتداعيات العولمة بالإفصاح عن دورها في انهيار حواجز الذوق، واقتحام خصوصية مكونات الثقافة المحلية. ويرى متخصصون في علم الاجتماع أن غياب "مؤتمرات المائدة" التي يجتمع خلالها أفراد الأسرة حول طاولة الطعام مؤشر على اختلال النظام الأسري. وفيما يذهب اقتصاديون إلى أن تغير الثقافة الغذائية مسألة مرتبطة بتطور المجتمع وتحضره وميل أفراده للرفاهية، لافتين إلى العلاقة بين السياسات التسويقية والعوامل الاجتماعية والثقافية، إذ استطاعت أدوات الثورة الإعلامية والإعلانية إحداث تغير ملموس في نوع الطعام ومكان تناوله ترجم في تزايد عدد مرات تناول الفرد طعامه خارج المنزل، وعزوف متنام عن الأطباق التقليدية. ويعكس انتشار مطاعم الوجبات السريعة القائمة على ساندويشات الهامبرغر والبيتزا وما شابهها تسارع نمط الحياة المعاصرة... يدخلها الجائعون مسرعين، ويطلبون الوجبات المحضرة مسبقاً والموضوعة بأطباق ورقية وبلاستيكية فيحملونها بأنفسهم إلى طاولات صغيرة ويلتهمونها في أجواء لاهثة تعج بحركة دؤوبة للعاملين والزبائن تصحبها إيقاعات موسيقية صاخبة تحثهم على الخروج بعجلة إدراكاً لموعد محاضرة، أو تحاشياً للتأخر عن عمل. ويفضل الطالب الجامعي سيف محمد 20 عاماً تناول الغداء في مطاعم الوجبات السريعة مع أصدقائه على تناوله في البيت، مبدياً تذمره من "الملوخية والمقلوبة والفاصوليا" فذوقه تغير ولم يعد يتلذذ بتناول تلك الأطباق. ويعترف عيسى موسى 27 عاماً الذي يعمل في شركة اتصالات خلوية بأنه لا يتذكر آخر مرة اجتمع فيها مع عائلته لتناول طعام الغذاء، عازياً ذلك الى "ضغط العمل وضيق الوقت". ويضيف أنهُ يقضي يوم إجازته نائماً فيفوت عليه فرصة حضور "مؤتمر المائدة"، لافتاً إلى أنه "يشتاق إلى مقلوبة والدته وسيطلب منها إعدادها على العشاء ليتسنى له أكلها ساخنة". وفي هذا الاطار، لا يرى أستاذ علم الاجتماع الدكتور سري ناصر ضيراً من دخول أنواع مختلفة من الأطعمة إلى الثقافة الغذائية بغية توسيع مدارك الذائقة، غير أنه يحذر من خطر تغير العادات والأنماط الغذائية ودوره في تأجيج التفكك الأسري جراء تراجع فكرة "مؤتمر المائدة، وهو الوقت الذي اعتاد فيه أفراد الأسرة على الاجتماع حول المائدة لتناول طعامهم وتبادل الأحاديث الودية". ويلفت إلى أن "اعتياد تناول الطعام خارج المنزل يرفع أسوار العزلة بين أفراد الأسرة ويقضي على مساحة زمنية يجدر استغلالها لتعزيز العلاقات العائلية". ويعزو ناصر التغيرات التي طرأت على الثقافة الغذائية لدى الشباب إلى "الحراك الاجتماعي المتمثل بخروج المرأة للعمل، وشيوع الالتحاق بالجامعة، وطول ساعات الدوام، وتحول نمط الحياة إلى المدنية". ويضيف ناصر أن "تسلل أصناف المأكولات مختلفة الأصول إلى ثقافة الشباب الغذائية يعود إلى انفتاح المجتمع، وثورة المعلومات والاتصالات التي قلّصت الفوارق بين أذواق الأفراد في الطعام"، معتبراً أن "وهن المجتمع يسهل تخليه عن خصوصية مركباته الثقافية، ويجعله أكثر تقبلاً للوافد". ومن بين المأكولات الأردنية التي تُركت على قارعة النسيان "الكعاكيل" ومكوناتها اللبن والعجين ونبات الجعدة، و"الزقاريط" وهي مؤلفة من لبن وبرغل وزيت زيتون، والمقرطة، من عجين وزيت زيتون. واللافت أن المنسف تمتع بحصانة مكنته من الحفاظ على موقعه على رأس قائمة المأكولات المفضلة لدى الشباب. وبقي متصدراً المائدة الأردنية محتفظاً بكل تفاصيله الأصلية فلا يطبخ إلا بالسمن البلقاوي نسبة إلى محافظة البلقاء والجميد الكركي، واللحم البلدي. وفشل الدجاج على رغم شعبيته الكاسحة في اعتلاء قمة المنسف حتى ظهرت أهزوجة شعبية طريفة تؤكد أن "منسف ع جاج ما يعجب أُردُنِيّه". ويجمع كل من سامر ومراد وعبدالله على أن طعم المنسف "لا يُعلى عليه، وهو قادر بجدارة على المنافسة مع أي طبق آخر". ويعزو اختصاصي الطب النفسي الدكتور محمد حباشنة احتفاظ المنسف بمكانته عند الشباب واستثنائه من قائمة طويلة من الأكلات الشعبية المنسية إلى "جذوره العشائرية"، التي تقلب الشاب من شخص مدني إلى عشائري الذوق والتوجه". ويرى أن علاقة المنسف وطقوسه المرافقة بمفهوم تكريم الضيف أحاطه بهالة من الاحترام، واصفاً إياه ب"وليمة المناسبات". ويبدو ان الثقافة الغذائية المحلية الأقل نمواً تعاني باطراد من خطر تقلصها وذوبانها التدريجي في ثقافة الآخر الأكثر قوة، وهو ما يفسر استيلاء سلاسل من المطاعم العالمية على السوق الأردنية. إلى ذلك، يقول المحلل الاقتصادي الدكتور منير حمارنة ان "المستثمرين في قطاع المطاعم استغلوا تراجع الأكل البيتي لتفعيل النشاط الإعلاني بقصد اقناع الشباب بفكرة تناول الطعام خارج البيت"، موضحاً أنه "يلجأ لإثارة العلاقة بين التمدن والرفاهية وتحفيز شعور الشاب بأن ارتياد المطعم سمة عصرية". ويشير حمارنة إلى "وجود استثمارات ضخمة تقدر بالملايين تطرح نفسها كمنافس قوي للمطاعم المحلية من حيث السمعة والخدمة والجودة"، عازياً تمركز فروع مطاعم الوجبات السريعة حول الجامعات إلى أن "الشباب يشكلون الشريحة الأكثر مرونة وتقبلاً للتغيير لا سيما في النمط الغذائي". وتقول حنان جمعة 23 عاماً إنها لم تستسغ طعم السوشي في بادئ الأمر إلاّ أنها اعتادت على تناوله وأصبح طبقها المفضل إلى جانب ال"فاهيتا" وال"فيتوشيني". وتربط حنان بين تفضيلها للطعام الوافد على المحلي وبين رغبتها في الاكتشاف والتعرف الى كل جديد.