في حديثه المطول، لرجال القضاء في طرابلس في 19 نيسان ابريل الماضي، لوحظ تغيير في الطريقة التي يوجه بها العقيد معمر القذافي "الكلام" الى الحاضرين، على نحو قد يوحي بأن "تغييراً ما" يوشك ان يطرأ على النظام، بعد تسوية قضية لوكربي وقضايا الارهاب الاخرى، والانفتاح الكامل في التعامل مع الشركات الاجنبية، التجارية منها والنفطية، والافساح في المجال امام نشاطاتها. لكن القذافي، "حفاظاً على ماء الوجه" وكي لا يؤخذ عليه انصياعه بالكامل الى ارادة الولاياتالمتحدة وتخليه عن "النظرية العالمية الثالثة" في ضوء الحقائق الجديدة في المنطقة، واصل ما دأب عليه من تسفيه للنظم الديموقراطية والمؤسسات الاشتراعية المتعارف عليها، بإصراره على ان الأحزاب السياسية "مجرد وسائل للصراع على السلطة"، والتمثيل النيابي، و"تدجيل"، ليخلص الى ان "لا ديموقراطية حقيقية خارج المؤتمرات الشعبية... واللجان الثورية". ولأنه لا يمكن التخلي بسهولة عن سياسة استمرت 34 عاماً ونيف، تحمل خلالها الليبيون صعوبات جمة، قدم القذافي "دفاعه الاخير" عن "نظام الحكم الجماهيري"... ووضع امامه رزمة من الاوراق تضم، تقارير لمنظمة العفو الدولية، وفقرات من دساتير بعض الدول مثل سويسرا و"ألمانيا الاتحادية" الشرقية سابقاً وفرنسا والولاياتالمتحدة، واستعرضها باستخفاف، مشيراً الى "تخلفها" و"اجحافها"، ليبرهن على "زيف الديموقراطية في تلك البلدان". غير ان هذا الكلام لم يكن يوماً مفيداً وهو لم يعد يجدي اليوم، ولا بد ل"قطار السلطة المطلقة" ان يحيد عن مساره الذي "يزداد وعورة"، لئلا تنفصل العربات عن بعضها بعضاً، لذا أشار العقيد الى زيارة وفد منظمة العفو الدولية لطرابلس، للاستفسار منه عن "احداث وقعت في الماضي" بخصوص مجزرة سجن بوسليم، ولفت انتباهه الى "تأخر" ليبيا في التصديق على الاتفاقية الدولية الخاصة بحظر التعذيب... وهنا تساءل بدهشة عن السبب في عدم التصديق على هذه الاتفاقية في "الجماهيرية التي دأبت على رفض التعذيب والتنديد بالحكومات والانظمة الفاشية التي تمارسه". وتساءل العقيد ايضاً عن السبب الذي يجعل المسؤولين في السلطة الشعبية يحجمون عن تقديم المعلومات الحقيقية عن المسجونين الى ذوي هؤلاء، او يمنعون الزيارات عنهم، من دون ان يفوته التأكيد "على عدم وجود اي سجين سياسي او سجين رأي في الجماهيرية"، باعتبار ان "من له رأي مخالف من حقه ان يبديه بكل حرية داخل المؤتمرات الشعبية" وقال: "ليس في السجون الآن الا الزنادقة الذين تشكل حريتهم خطراً على المجتمع". المحاكم الخاصة والقوانين الاستثنائية وتطرق العقيد القذافي الى "المحاكم الخاصة والقوانين الاستثنائية" التي قال ان "الثورة اضطرت" الى وضعها منذ الشهر الاول لقيامها للدفاع عن استمرارها في مواجهة المؤامرات التي ارادت ان تحبطها، وكذلك ضد "الحزبيين والعقائديين والفاشيين من العناصر المتآمرة"، الذين كشف أن عددهم لم يكن يتجاوز ال65 شخصاً. وناشد "جماهير السلطة الشعبية" الغاء المحاكم الخاصة ومراجعة "القوانين الاستثنائية" التي جرى العمل بها اكثر من ثلث قرن، معتبراً ان فيها "الكثير من التناقض". ولا بد من التذكير هنا بأن ضحايا المحاكم الخاصة، نفذت فيهم بالكامل العقوبات والأحكام الصادرة في حقهم منذ فترة طويلة. والى جانب السجن والعقوبات القاسية والقرارات بمصادرة الممتلكات والاموال والعزل من الوظيفة، لحقت بالكثير منهم اضرار صحية ونفسية جسيمة، ادت الى وفاتهم اثناء السجن او بعيد الخروج منه بعد تنفيذ العقوبات. الحقيقة والمستقبل وقال القذافي، مازحاً، ان "المحامين، لا يتمنون الا المزيد من المشكلات والقضايا ليضمنوا تيسير رزقهم ومضاعفة مداخيلهم من الاتعاب، شأنهم في ذلك شأن الاطباء الذين يتوقف حجم مداخيلهم على كثرة المرضى وتفشي الامراض، والا فإن تجارتهم ستبور وبضاعتهم ستصاب بالكساد"! لكن اهم ما جاء على لسان القذافي في تلك المحاضرة قوله ان "الحقيقة هي التي تنفع الناس، وهي التي تخدم المستقبل؟". ومن دون ان يذكر ذلك صراحة، استنتجت وكالات الانباء والتقارير الاعلامية انه قصد بحديثه العودة الى القوانين التي كانت قائمة قبل عام 1969 والتي رست عليها دعائم المملكة الليبية الدستورية في عهد الملك الراحل السيّد ادريس السنوسي. فالمملكة الليبية ولدت في احضان "الأممالمتحدة" في اعقاب نجاح شعبها وقواه السياسية وأحزابه الوطنية في احراز قرارها التاريخي في 21 تشرين الثاني نوفمبر 1949، القاضي بتحقيق الاستقلال الكامل ووحدة التراب الوطني الذي كان موضع اطماع ومؤامرات اطراف دولية عدة في مقدمها - بالطبع - ايطاليا التي كانت تستعمر ليبيا حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية. وبفضل كفاءة الرعيل الوطني الليبي الاول ونزاهته وثقافته، ورعاية "الأممالمتحدة" نجحت الجمعية التأسيسية الليبية في السابع من تشرين الاول اكتوبر 1951، في وضع "الدستور الليبي العصري" الذي تضمن معظم المبادئ والنصوص الواردة في الوثيقة الدولية لحقوق الانسان والصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 كانون الاول ديسمبر 1948، وبموجبه وعلى اساسه، أعلن الملك ادريس السنوسي، في 24 كانون الاول ديسمبر عام 1951 استقلال المملكة الليبية المتحدة، بولاياتها الثلاث طرابلس وبرقه وفزان وقيام "الدولة الاتحادية النموذجية" على اساس هذا الدستور ومؤسساته البرلمانية: النواب والشيوخ، والمجالس الاشتراعية للحكومات المحلية الثلاث، وانشاء "المحكمة العليا" للفصل في النزاع بين سلطات الولايات، وتطبيق الدستور والفصل في دعاوى المواطنين مع السلطة. حقوق الانسان في الدستور الملكي وجاء "الدستور الليبي" الذي يشتمل على 213 مادة، متضمناً في فصله الثاني تحت عنوان "حقوق الشعب"، المبادئ نفسها المنصوص عليها في الوثيقة الدولية لحقوق الانسان، في تأمين الحرية الشخصية والمساواة امام القانون وفي براءة كل متهم حتى تضمن ادانته "قانوناً وأمام محكمة علنية تؤمن له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه" وفي عدم جواز تعذيب احد ولا انزال عقوبة مهينة به. كما نص على حرمة المساكن وخصوصية الخطابات المراسلات الشخصية وحرية الاعتقاد المطلقة اضافة الى احترام الدولة لجميع الاديان والمذاهب وحرية ممارسة الشعائر الدينية لليبيين والأجانب المقيمين وحرية الفكر، وحق الاعراب عن الرأي واذاعته بالوسائل السلمية. كذلك نص الدستور على حرية الصحافة والطباعة والاجتماع السلمي وحق تكوين الجمعيات والزامية التعليم، وحرمة الملكية الخاصة، وعدم جواز انتزاع الملكية من احد الا للمنفعة العامة وبالكيفية المنصوص عليها في القانون وبشرط تعويضه تعويضاً عادلاً. وفي هذا الدستور، ايضاً، نص يقول "ان عقوبة المصادرة للأموال محظورة" و"الدولة ملزمة" بنشر التعليم العام والخاص و"ضمان العمل" للجميع، وعلى حق كل فرد يقوم بعمل، في اجر عادل، وعلى وجوب ان تعمل الدولة على توفير الاسكان لكل ليبي ومستوى لائق من المعيشة له ولأسرته. ووضع اول وزير للعدل في الحكومة الليبية، المرحوم الدكتور فتحي الكيخيا، معظم مشاريع القوانين التي توالى صدورها على اساس الدستور لكي تستكمل الدولة الليبية بقية ما تحتاجه من تشريعات، والتي لم يكن ان يتم اصدارها الا بموافقة البرلمان بمجلسيه النواب والشيوخ. وتمكنت المملكة الدستورية في زمن قصير من انجاز معظم ما كان معمولاً به من قوانين ما مكنها من تجاوز، او تعديل، ما ورثته من قوانين عن العهد الايطالي. وعندما دعا الكيخيا المشرع المصري الكبير الدكتور عبدالرزاق السنهوري ووفداً من مجلس الدولة المصري في عهد الملك فاروق لابداء الرأي والمراجعة والمشورة لما تم انجازه على هذا الصعيد، كان رد الوفد المصري القانوني، هو الاعراب عن الدهشة والاعجاب بالقدرات والكفاءات القانونية الليبية التي اقامت صروح دولتها العصرية على تشريعات اعلن السنهوري يومها ان "مصر العريقة في هذا المجال، لم تصل بعد الى احداث مثل ما تم انجازه في المملكة الحديثة النشأة". وواصلت الحكومات الليبية استكمال تشريعاتها كلما دعت الحاجة من طريق اللجان التشريعية في مجلسي النواب والشيوخ حتى بلغت في الستينات الى استكمال كل ما تحتاجه الدولة الحديثة المتحضرة من قوانين. وكفل القانون الاساس للمحكمة العليا التي تتكون من قضاة غير قابلين للعزل، طعن او شكوى اي مواطن ليبي "أياً كان مركزه الاجتماعي" في نص قانوني او اجراء اداري ورد فيه ما يخالف الدستور، وطعن اي مواطن في اجراء اداري يرى فيه مساساً بحقوقه الشخصية القانونية. وكانت هذه المحكمة، بحق قلعة للعدالة وحصناً منيعاً لحماية الدستور وسلامة تطبيق القوانين وتأمين حقوق الانسان الليبي وكل انسان مقيم في المملكة الليبية، ولذلك كانت "القضية" التي رفعها المحامي علي الديب التي طعن فيها في دستورية "الأمر الملكي" بحل المجلس التشريعي البرلمان المحلي لولاية طرابلس، هي الاختبار الحقيقي لنزاهتها ورفعة شأنها وبرهاناً على رسوخ مكانتها وثبات عدالتها، عندما نظرت في القضية، ثم عند صدور حكمها في 19 كانون الثاني يناير سنة 4519 والذي قضى بقبول الطعن في صحة وسلامة "الامر الملكي" والحكم بالغائه لتعارضه مع الدستور. وبعد ذلك ببضع سنوات نظرت المحكمة العليا ايضاً في القضية التي رفعها المواطن الليبي توفيق الغرياني ضد رئيس الحكومة يومذاك، المرحوم عبدالمجيد كعبار، والتي طعن فيها في صحة الانتخابات النيابية في دائرته ببلدة غريان، التي كان المواطن السيد توفيق الغرياني ينافس فيها على الدائرة، رئيس الحكومة. وقضت المحكمة العليا بقبول الطعن الذي قدمه المواطن توفيق الغرياني واعادة اجراء الانتخابات بين المرشحين في تلك الدائرة. ذلك ما كانت عليه "المملكة الليبية" التي أطيح بنظامها الذي لم يكن له مثيل في المنطقة، من حيث الديموقراطية والرخاء والاستقرار وسيادة القانون، فضلاً عن تقدم وتحضر مؤسساته البرلمانية والتشريعية والادارية، وتواضع المسؤولين عن مصالحه ورعاية مواطنيه. * ناشر صحيفة "الميدان" الليبية المعطلة.