في العاشر من كانون الأول ديسمبر الجاري، يمضي عشر سنوات على الاختفاء القسري لوزير خارجية ليبيا السابق منصور رشيد الكيخيا، أثناء حضوره في القاهرة اجتماعات المنظمة العربية لحقوق الإنسان التي ساهم في تأسيسها. وكانت محكمة استئناف القاهرة اقرت بطريقة غير مباشرة باختفاء أو اختطاف الكيخيا على الأراضي المصرية، بصدور حكم بتاريخ 22/2/1999 عن القضية رقم 6181/15 ضد وزارة الداخلية المصرية لتقصيرها في حماية الوزير الليبي السابق، وغرّمتها مبلغ 100 ألف جنيه مصري. وجاء في أسباب الحكم ان وزارة الداخلية المصرية لم تتخذ الاجراءات اللازمة لتوفير الحماية المطلوبة للكيخيا أثناء وجوده في مصر ولم تقم بحمايته على رغم ارسال المنظمة العربية لحقوق الإنسان مقرها القاهرة مذكرة الى الوزارة تطلب فيها تشديد الحراسة عليه. وقالت المحكمة: "ان الدول مسؤولة عمّا يقع على الأجانب الموجودين فيها وعلى اقليمها". ووفقاً للمادة 163 من القانون المدني استوجب تعويض المدعي طالما حدث تقصير من المدعى عليه أدى الى الإضرار بالأول. وفيما يجب التأكيد على تقدير القضاء المصري ونزاهته، لا سيما ان الحكم يعكس وجه مصر التي عرفها الكيخيا أثناء دراسته الثانوية والجامعية في القاهرة قبل الانتقال الى السوربون في باريس، فهي مناسبة أيضاً لتكرار أسئلة طالما طرحتها أسرة الكيخيا منذ عشر سنوات بصدد ملابسات حادث الاختفاء ومصير هذا الرجل المتميز باستقامة مشهود لها على الصعيدين العام والخاص، ان كان قبل أو بعد هجره مقاعد الحكومة وانتقاله الى صفوف المعارضة منذ العام 1980. منصور الكيخيا المولود عام 1931 في بنغازي، عمل في عهد النظام الملكي مندوباً لبلاده في الأممالمتحدة. وبعد انقلاب الفاتح من سبتمبر أيلول 1969، عُيّن وكيلاً لوزارة الخارجية الليبية وعاد مرة ثانية الى الأممالمتحدة لتمثيل بلاده فيها قبل أن يعين وزيراً للخارجية. والمعروف عن الكيخيا أنه خلال تلك الفترة قدم استقالته أربع مرات على الأقل وحمله على التراجع عن آخرها الرئيس المصري الراحل أنور السادات. لكنه ما لبث أن خرج نهائياً من دائرة السلطة والحكم من دون أن يعلن التمرد وتفرغ لمهمة المحاماة وكان يخصص الجزء الأكبر من وقته في الدفاع عن المعتقلين السياسيين في بلاده. بعد انغلاق أبواب الحوار مع النظام، رضخ في النهاية لضغوط أصدقائه في مجلس قيادة الثورة الليبي وقبل منصب المندوب الدائم في الأممالمتحدة للمرة الثالثة في حياته الديبلوماسية. حافظ منصور الكيخيا على "علاقات عمل جيدة" مع طرابلس على رغم انتقاده الشديد لمرحلة التحول "الثوري" في ليبيا حينئذ، وزحف ما سمي ب"اللجان الشعبية" على ادارات الحكم ومؤسسات الدولة. في 1980 وصل الكيخيا الى مفترق طرق أخير وحسم المناقشة مع نفسه واختار نهائياً صف المعارضة، من دون أن يدخل في نفق العداء المفتوح مع الحكومة المركزية. فشعاره كان دائماً التحاور مع كل طرف ليبي يبدي استعداداً للحوار. وكاد منصور الكيخيا أن يكون الوحيد بين قادة المعارضة والحكم في آن واحد، الذي يدعو للحوار بين كل قوى المعارضة لترشيدها، والى الحوار مع الحكم لأنسنته. وعاش بقية سنوات حياته قبل "الاختفاء" في المنفى في حي "غارش" القريب من باريس حيث كان يستقبل موفدي الرئيس الليبي معمر القذافي سعياً وراء النصح والحكمة أثناء المواجهة بين ادارة الرئيس الأميركي ريغان في 1984، وبعد حادث تفجير طائرة بانام فوق لوكربي في 1989. واستمر هذا الوضع حتى الأيام التي سبقت "الاختفاء". قبل أشهر قليلة من "اختفائه" انتخب أميناً عاماً ل"التحالف الوطني الليبي" الذي ضم قوى المعارضة الليبية الرئيسية وتبنى برنامجاً سياسياً للحكم في ليبيا. وعلى رغم ذلك لم تنقطع خطوط الاتصال مع طرابلس التي ناشدته في أكثر من مناسبة الدخول في الحكومة أو تشكيل حكومة، وكان يرد بالموافقة دائماً بشرط العودة مع المعارضة. لم يختر الكيخيا لوناً سياسياً كي يصطبغ به كما أنه لم يحظ بثقة المعارضة كاملة على رغم فقده صداقة الحكم. وتقطعت خيوطه "البعثية" مع دخول دبابات صدام حسين الى الكويت في آب أغسطس 1990. منصور الكيخيا "المختفي" رسمياً وقانونياً حتى الآن لم يحمل سيفاً أو سلاحاً، بل على العكس كان داعية بارزاً للحوار ونبذ العنف مهما كان مصدره: من النظام أو من المعارضة. كان يحمل صوتاً هادئاً تعززه ثقافة واسعة كونية الأبعاد، وكان مطمئناً الى أبعد الحدود طوال سنوات نشاطه بين صفوف المعارضة أنه لا يمكن أن يستهدف للخطف أو التصفية. ولكن كم كان ظنه بريئاً، بل طفولياً الى آخر حد. حادث "اختفاء" هذا المحاور المعتدل حتى العظم والديمقراطي المتسامح حتى النخاع، سيبقى ملفه مفتوحاً الى ان يعترف المسؤولون بما حدث في العاشر من كانون الأول ديسمبر 1993. * كاتب سوري مقيم في لندن، وهو عديل "المختفي".