بعد حصوله على جائزة نوبل في الأدب عام 1999 تمنى الروائي الألماني غونتر غراس لو استطاع اقتسام الجائزة مع زميلته كريستا فولف. ولأن التواضع ليس من الصفات المميزة لصاحب "الطبل الصفيح"، فلا بد لنا من أن نأخذ كلماته مأخذ الجد. غونتر غراس كان يقدر شجاعة زميلته من ألمانياالشرقية، ويرى أن روايات فولف - كما رواياته هو - ساهمت في الإبقاء على وحدة الأدب داخل ألمانيا المقسمة. هذه الكلمات قالها غراس وهو يسلّم كريستا فولف "جائزة الكتاب الألماني" عام 2002 التي مُنحت لها عن مجمل أعمالها، وكانت الجائزة على شكل يد تحمل سمكة موسى، قام بصبها من خام البرونز النحات غونتر غراس انظر الصورة. في الثامن عشر من آذار مارس أتمت كريستا فولف الخامسة والسبعين، وهي مناسبة انتهزتها الحياة الثقافية في ألمانيا للاحتفال بها وبعطائها، ولرد الاعتبار لها. هكذا نُظم في برلين معرض كبير عن حياتها وأعمالها يستمر حتى شهر أيار مايو، كما صدرت لهذه المناسبة سيرة مفصلة ومصورة عن حياة أهم كاتبة معاصرة في ألمانيا. عاشت كريستا فولف وكتبت أعمالها في ألمانياالشرقية، بل كانت عضواً فاعلاً في حزب الاتحاد الاشتراكي الحاكم. لهذا أضحت فولف هدفاً لهجوم حاد بعد الوحدة الألمانية عام 1990، فاتهمها البعض بالانتهازية السياسية وبأنها كانت جزءاً من "المؤسسة". فجّرَ تلك الأزمة كتابها "ما يتبقى" الذي كتبته كريستا فولف قبلها بسنوات، لكنها لم تنشره. في هذا الكتاب وصفت الكاتبة كيف كان جهاز الاستخبارات في ألمانياالشرقية يتجسس عليها، ويراقبها في بعض الأحيان ليلاً ونهاراً. اعتبر البعض الكتاب محاولة متأخرة لتبرير موقفها من السلطة في ألمانيا الديموقراطية، وكان السؤال المطروح هو: لماذا لم تعترض آنذاك، وبصوت عال؟ النقاد الغربيون الذين أشبعوها قبل ذلك مدحاً وتقريظاً لشجاعتها في انتقاد النظام الاشتراكي، انهالوا عليها تجريحاً، ناعتين إياها بلقب "كاتبة السلطة". كان واضحاً أن كريستا فولف ليست وحدها هي المستهدفة. لقد بدا أن النقاد الغربيين يودون أن يتخلصوا من أدب دولة ما، كان اسمها ألمانيا الديموقراطية. لذلك امتدت تلك الحملة لتشمل جل كتاب ذلك البلد، بل ومواطنيه. عن تلك الفترة قالت كريستا فولف في حديث لإذاعة "دويتشه فيله": "فجأة بدا الأمر وكأن ألمانيا الغربية بلد مثالي، يقف في مواجهة ألمانياالشرقية، البلد الشرير. وبالتالي كان يحق لطرفٍ أن يلتهم الطرف الآخر. كان واضحاً لي أن السياسيين يفعلون ذلك عن وعي كامل. لكن ما أدهشني أن الناس العاديين انساقوا وراءهم. هذا ما دفعني إلى التفكير بعمق في الموضوع، وتوصلتُ إلى أن ما حدث أشبع لدى الناس احتياجاً نفسياً كبيراً". كريستا فولف كانت تعتبر منشقة ومعارضة للنظام في ألمانياالشرقية، وفي الوقت ذاته موالية ومخلصة له. "منشقة موالية"؟ هل يمكن التوفيق بين الصفتين، وبين الدورين؟ كريستا فولف كانت تبحث عن "الطريق الثالث" بين الرأسمالية والشيوعية، وترنو إلى "اشتراكية ذات وجه إنساني". ولهذا كانت تغرد - على حد قول أحد نقادها - "بصوت خافت، لئلا تفزع أحداً". ذات مرة كتبت فولف إلى غونتر غراس رسالة بعد انهيار ألمانياالشرقية تقول فيها: "لقد أحببت هذا البلد للغاية. كنت أعرف أنه يعاني سكرات الموت، لأنه كان يلفظ أفضل مواطنيه، ولأن ضحاياه كانوا كثراً". لا شك في أن تلك الكلمات أدهشت كثيرين من الألمان الغربيين. الجميع يتحدث عن جرائم الديكتاتورية في ألمانياالشرقية، وهي تتكلم عن حبها للبلد؟ ثم أصابت فولف قراءها في ألمانيا الغربية بدهشة أعظم عندما اعترفت علناً بأن إيمانها الساذج ربما بالطريق الثالث وبالاشتراكية ذات الوجه الإنساني دفعها إلى التعاون مع جهاز الاستخبارات الشتازي طوال ثلاثة أعوام، من 1959 إلى 1962. وعلى رغم أن تعاونها كان محدوداً، وعلى رغم اعترافها الشجاع، فقد بدا لكثيرين أن هذا الخبر وجّه الضربة القاضية إلى كريستا فولف وصدقيتها الأدبية. الكتابة تحت "السماء المقسمة" حجر الأساس في شهرة كريستا فولف وصدقيتها كانت أرسته رواية "السماء المقسمة" 1963. في هذه الرواية تحكي كريستا فولف قصة عاشقين يصطدم حبهما بسور برلين الذي قسم ألمانيا قبلها بعامين. الشاب، كيميائي موهوب، يصاب بالإحباط من الظروف المهنية في وطنه، فيقرر الهجرة إلى برلين الغربية. أما هي فتظل، على رغم إدراكها، مثل الكاتبة، بوادر التعفن السياسي في وطنها. الرواية تتعاطف تعاطفاً واضحاً مع البطلة، لكنها - وهنا الاختلاف مع معظم كتاب ألمانياالشرقية - لا تدين الشاب "الهارب إلى الغرب". أصابت "السماء المقسمة" نجاحاً كبيراً في شرق ألمانيا وغربها، وحولت بعد ذلك بعام إلى فيلم سينمائي. كانت الرواية جريئة في المشهد الأدبي الشرقي، وإثر صدورها كرمت صاحبتها بالحصول على جائزة "هاينريش مان" الشرقية المرموقة، ما غذى أوهاماً حول هامش الحرية المسموح به في القسم الاشتراكي. لكن التطورات السياسية نسفت تلك الأوهام التي اتخذتها كريستا فولف مادة لروايتها اللاحقة "تأملات حول كريستات" 1968. التأملات تتمحور هنا حول امرأة شابة تموت بسرطان الدم، ومن طريقها تستعيد الراوية حياة صديقتها، كريستات، وتبوح بمعاناتها - المشفرة - حيال النظام السياسي. ولكن، ومع كل النقد للشيوعية، لا تخلو الرواية في الوقت ذاته من الأمل في إقامة مجتمع اشتراكي إنساني. نموذج طفولة "كيف أصبحنا على ما نحن عليه الآن؟". للإجابة عن هذا السؤال الذي شغل جيلها بأكمله - في الشرق كما في الغرب - سافرت كريستا فولف عام 1972 إلى مسقط رأسها الواقع الآن في بولندا حيث نشأت وترعرعت في ثلاثينات القرن العشرين. خلال أيام الزيارة تستعيد الراوية ذكرياتها عن طفولتها هناك، وتحاول أن تصور لابنتها التي كانت ترافقها، كيف كان الناس يعيشون يومهم في حقبة النازية، وكيف انساق الناس آنذاك وراء إيديولوجية هتلر الفاشية العنصرية. ثمرة هذه الزيارة كانت روايتها الضخمة 515 صفحة في الأصل الألماني "نموذج طفولة" 1976. وتعتبر هذه الرواية من أهم أعمال كريستا فولف، وتقف في مصاف أهم الروايات الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية، مثل ثلاثية "دانتسيغ" لغونتر غراس، و"أيام عام" لأوفه يونسون، و"آراء مهرج" لهاينريش بول. ما يجمع كل تلك الأعمال هو السؤال: كيف انساق الألمان وراء فاشية هتلر؟ وقد ترجمت "نموذج طفولة" إلى خمس عشرة لغة، من بينها العربية. "نموذج طفولة" محاولة صادقة شديدة الذاتية لتفسير ما حدث، لا لتبرير ما حدث. خلال هذه المحاولة تكتشف كريستا فولف في طفولتها ولدى عائلتها "نماذج" التكيف مع المجتمع ومع السلطة القامعة. تستهل فولف روايتها بأبيات من قصيدة بابلو نيرودا "كتاب الأسئلة": "أين الطفل الذي كنته / هل ما زال فيّ، أم رحل؟". نيللي هو اسم الطفلة التي كانتها الكاتبة يوماً. هذه الطفلة تتذكر فترة بزوغ نجم النازية وسطوعه. تتذكر المدرسة حيث كان تدريس علم الأجناس جزءاً من المقرر، مثل علم الحساب وعلم الكيمياء. وتتذكر إجراءات التخلص من اليهود في إطار "الحل النهائي". "هناك أنواع مختلفة من الذاكرة"، تقول الراوية، "الذاكرة الغشتالتية، والذاكرة المنطقية، والتعبيرية، والمادية، وذاكرة الفعل. ما نفتقده، وفي شده، هو نوع آخر: الذاكرة الأخلاقية". الرواية، إذاً، محاولة دؤوبة لإيقاظ الذاكرة الأخلاقية وتنشيطها، لدى الطفلة نيللي، ولدى ابنتها لينكا، ولدى القارئ. الذاكرة الأخلاقية تدفع الكاتبة إلى عقد المقارنات: بين الماضي والحاضر، وبين البلدان المختلفة، متسائلة دوماً عن مسؤوليتها هي، وعن مسؤولية الكاتب وحدود تلك المسؤولية: "للتاريخ هذا الميل القاتل لإعادة الأحداث التي يجب أن يحصن الإنسان نفسه منها... ليس في مقدور أحد اليوم أن يعيش إلا ويشعر بأنه مشارك في الذنب ... ولكن أين يبدأ واجب الكاتب، هذا الواجب اللعين؟ إن الكاتب - سواء أراد أم لم يرد - يظل متفرجاً، وإلا ما استطاع الكتابة، وإلا كان شارك في المعركة وقُتل فيها". ص 178 وما بعدها من الترجمة العربية التي أنجزتها هبة شريف، وصدرت عن دار شرقيات في القاهرة عام 1999. بعض الفقرات في "نموذج طفولة" تمتع براهنية كبيرة، وتمكن قراءتها - مثلاً إذا بدلنا العراقبفيتنام - على أنها تعليق على ما يحدث الآن: "لنكا الابنة تريد أن تعرف إذا كانت الانقلابات، أو الانقلابات على الانقلابات، أو قتل من كانوا حلفاء من قبل، أي تلك الأمور التي لا بد من أن نطلق عليها في لحظة معينة اسم "الحرب"، حرب فيتنام، يمكن أن تقوم بسبب حيل الاستخبارات، أو بسبب إهمال يقف له شعر الرأس، أو بسبب هذا الفشل غير المعقول لأناس على أعلى مستوى، مثل رئيس الولاياتالمتحدة الأميركية. ممكن، نعم. تحت ظروف معينة... إذا اعتقد الرئيس الأبيض لدولة كبيرة وقوية أن أسلوب حياة طبقته وجنسه هو الطريقة الوحيدة المناسبة لحياة البشر، هنا يمكنه أن يوقّع بإهمال تلغرافاً لن يعرف مدى خطورته بالنسبة الى شعب آخر له لون آخر وأسلوب حياة آخر إلا في ما بعد". ص 184 من الترجمة العربية الهروب إلى الأساطير بعد هذه الرواية التي تعتبرها الكاتبة الأقرب إلى قلبها، تهرب كريستا فولف من ألمانياالشرقية، ليس بالجسد وإنما بالفكر. في "لا مكان" ترجع إلى عام 1804 لتتحدث عن الكاتب هاينريش فون كلايست. وفي عام 1983 تهرب إلى الأساطير الإغريقية وإلى العرافة "كاسندرا"، التي منحت روايتها الشهيرة عنوانها. إلى الأساطير الإغريقية تعود الكاتبة مرة أخرى في روايتها "ميديا، أصوات". وقد ترجمت سلمى صالح العملين الأخيرين إلى العربية، وصدرا عن دار "الجمل" في ألمانيا. أما آخر روايات كريستا فولف فهي رواية "سجينة البدن" التي صدرت عام 2001، وتتناول فيها السنوات الأخيرة من عمر ألمانياالشرقية، وذلك من خلال امرأة تعاني مرضاً عضالاً يرمز بالطبع إلى الدولة المريضة المحتضرة. هذه المرأة، التي لم تمنحها الكاتبة اسماً، تناجي نفسها وهي على فراش الموت، مسترجعة حياتها، والأشخاص الذين قابلوها. هذيان المريضة يأتي تارة على لسانها، وتارة موجهاً إلى مُخاطب غير موجود، وعبر هذا الهذيان تصور الكاتبة مصائر من قابلتهم: الانتهازيين الذين يسبحون مع كل تيار ويصفقون لكل نظام، أو الشجعان الذين يعلنون آراءهم بصراحة تؤدي إلى عواقب وخيمة، أو اليائسين الذي يضعون بأيديهم حداً لحياتهم. والآن، وبعد أربعة عشر عاماً من الوحدة، وبعد بلوغها الخامسة والسبعين، عادت كريستا فولف لتحتل مكانة بارزة بين الأدباء الألمان المعاصرين، خصوصاً بعد كتابها الأخير "يوم في العام" الذي صدر الخريف الماضي. في هذا الكتاب قامت فولف بتسجيل كل ما عايشته خلال يوم معين في العام، وهو يوم السابع والعشرين من شهر ايلول سبتمبر. جاء اختيارها لهذا اليوم استجابة لنداء وجهته إحدى الصحف السوفياتية. راقتها الفكرة، وحافظت على هذه العادة خلال أربعين عاماً من 1960 وحتى 2000. أما الحصيلة فهي عصارة ما عاشته وفكرت فيه" كاتبةً، وزوجةً وأماً، وشاهدةً على الأحداث السياسية في وطنها وفي العالم. الكتاب يوضح أيضاً على نحو فريد الظروف التي كانت تحيط بالكاتب في ألمانياالشرقية، لا سيما الكاتب الذي لا يريد أن يلتزم ما تفرضه المؤسسة من مواقف على الأدباء. خلال الكتابة لا تتوقف كريستا فولف عن التساؤل عن دورها في المجتمع، وعما إذا كانت ما زالت تستطيع أن تدافع عن النظام الحاكم أم لا. كتاب "يوم في العام" يوثق أيضاً كيف تعيش كريستا فولف يومها، فالحياة اليومية هي المصدر الثري الذي تنهل منه أدبها، أو كما تقول: "كنت، ولعلي ما زلت، أتطلع إلى التغلب على النسيان، مثلاً ألا أنسى يومي هذا الذي أعيشه، والذي منه تتكون حياتي. كل يوم هو جزء من الحياة، وعندما ينتهي هذا الجزء، فإننا نكون اقتربنا خطوة من الموت. هذا ما يملأني بالأسى والهم: أن ينقضي هذا اليوم ويضمحل من دون أن أمسك به على الورق". هذه الخبرة تتلاقى أيضاً مع خبرة حامل نوبل غونتر غراس الذي قال في ملتقى الرواية العربية الألمانية في صنعاء كانون الثاني/يناير 2004 إن الكتابة لديه هي مقاومة النسيان وانقضاء الزمن. إن أعمال كريستا فولف تتميز بالذاتية والصدق والتوثيق الأدبي لبلد اختفى من وجه الخريطة. ولأن "الماضي لم يمت، إنه حتى لم يمض بعد"، كما نقرأ في مطلع "نموذج طفولة"، فإن معظم أعمال كريستا فولف لم تتقادم، وما زالت تتمتع براهنية كبيرة، أيضاً بالنسبة إلى القارئ العربي الذي يستطيع مطالعة ثلاثة من أهم أعمالها.