أحيا الشاعر محمود درويش بدعوة من نقابة المعلمين في سورية أمسيتين شعريتين، الأولى على مدرج جامعة تشرين في مدينة اللاذقية في الساحل السوري والثانية في صالة الجلاء الرياضية المغلقة في دمشق. وتشابهت الأمسيتان بالحشود التي وفدت قبل الموعد المحدد لكلتا الأمسيتين بساعتين تقريباً لكي تجد لنفسها أماكن مناسبة لسماع الشعر ورؤية شاعرها الفلسطيني. وتشابهت الأمسيتان أيضاً بالاصغاء النادر لجمهور كبير تجاوز ستة آلاف في صالة الجلاء وما يقاربه في اللاذقية. لا يشعر الجمهور السوري بالغربة عن محمود درويش. هذا الجمهور المتنوع من طلبة المدارس والجامعات والمعلمين والمهندسين والأطباء وأصحاب المهن والاختصاصات المتنوعة ومن المثقفين والفنانين، وَفَدَ من الأحياء الغنية والفقيرة والمتوسطة، فساحة الشعر الحقيقية هذه تحقق المساواة بين المواطنين. وكأن القصائد تعرف الناس الى حقيقتها، فتلتمع العيون ببريق اللقاء، والأيدي بتصفيق لا يشبه التصفيق. انه طقس شعري احتفالي، تحاول فيه الأيدي ربما لمس الشعر وتأكيده وتأييده. تتفتح اللحظة على ذاكرتها وعلى ذاكرة الشعر والشاعر والجمهور الذي يتابع درويش جيلاً بعد جيل. "كلما سألت: هل ما زال الشعر ممكناً وضرورياً جئت الى سورية لأعثر على الجواب". هكذا استهلّ الشاعر تحية جمهوره في دمشق. والجمهور صفق واقفاً. ونسي نفسه مصفقاً وواقفاً، وعلت الهتافات للشاعر ولفلسطين. فطلب درويش: "التخفيف من الهتافات لكي نسمع الشعر". وابتدأ "حالة حصار". ثم قرأ من جديده "لا تعتذر عما فعلت" ثم من "الجدارية". الجمهور الذي يعرف القصائد طالب الشاعر بقراءة قصائده التي يحبها ويحفظها عن ظهر قلب، ولبّى الشاعر رغبات الجمهور. يستحق محمود درويش أن يدعى "المعلم". ويستحق "المعلم" أن يكون الرمز. وأن يأتي محمود درويش تلبية لدعوة جمهوره. وربما أعادت هذه الدعوة الى المعلم الغائب، المغيب، الفقير، الشريف، والحاضر كالقصيدة على رغم كل الظروف، اعتباره، اعتباره الذي بقي منذ زمن الحصار المعرفي والثقافي والتربوي والسياسي، أسير الرمز. ومن الغريب أن يرى المرء الكراسي على المنصة وقد امتلأت ببشر لا يحصون. بشر مثلنا مثلهم. لا يعرفوننا! بعدما راكمت المنصة عبر تاريخ طويل من المناسبات، سمعة الوجوه نفسها، والسلوك نفسه. قرأ درويش خلال ساعتين متواصلتين في كل أمسية. وربما شعر بأن عليه ألا يتوقف عن الشعر إكراماً للحب الذي استقبلته به اللاذقية ودمشق: "في الشام أعرف من أنا وسط الزحام". ووسط الزحام كان كل فرد يصغي بوعيه وقلقه وقلبه. وكان الشعر والشاعر، وكأن كل شيء سيبدأ من جديد.