لم يتسن للرئيس جورج بوش التمتع بإجازته، خلال عطلة عيد الفصح في مزرعته في كروفورد بتكساس. ففيما تأرجح الوضع العراقي بين اللبننة والفتنمة، وانزلقت القوات الاميركية اكثر الى مستنقعات بلاد ما بين النهرين، وجد بوش ادارته بين نارين: نار التورط العسكري الذي يعيد الى الأذهان التورط الاسرائيلي إثر اجتياح لبنان في 1982، ونار أزمة التحقيقات في تقصير ادارته لمنع اعتداءات 11 ايلول سبتمبر، والتي أظهرت عناداً في وجه محاولات الادارة احتواءها بلا جدوى. وعبثا سعت الادارة الى اخفاء شعورها بالورطة، إزاء هواجس فيتنام التي غزت وسائل الاعلام الاميركية وسبغت آراء المعلقين السياسيين. وعلى رغم محاولات الوزير كولن باول، الذي جنده البيت الابيض لإعطاء "وجه آخر" للأزمة المتفاقمة، بوصفه عسكرياً مخضرماً وديبلوماسياً يحظى باحترام واسع، بدا وزير الخارجية كأنه يعاني في سعيه الى طمأنة الاميركيين الى ان "المقاومة" في العراق "محدودة ومعزولة، تقتصر على مجموعات صغيرة من الشيعة" وان غالبية العراقيين "معنا". ورداً على سؤال هل موعد نهاية حزيران يونيو ما زال قائماً لنقل السيادة الى حكومة عراقية موقتة، قال باول إن الموعد لن يتغير. لكنه اضاف أن هناك "تفاهماً" مع العراقيين على أن يتخلوا في المرحلة المقبلة عن جزء من السيادة، بسبب عدم جاهزية الجيش العراقي والأجهزة الأمنية الاخرى لتولي المهمة. وهكذا أُفرغت عملية نقل السيادة من مضمونها الحقيقي، إذ ستخضع القوات العراقية الى القيادة العسكرية الاميركية، وستتحول سلطة "التحالف" الى "سفارة" تضم اكثر من 4000 موظف غالبيتهم تعمل الآن لدى الادارة المدنية بقيادة بول بريمر. وبما ان البلاد في حال حرب، فإن القيادة السياسية العراقية التي ستنتقل اليها السلطة والسيادة شكلياً، خلال اقل من ثلاثة اشهر، ستخضع للاعتبارات العسكرية والامنية التي تبقى في يد الحاكم العسكري الاميركي. وفيما سيفقد بريمر منصبه كحاكم مدني للعراق نهاية حزيران، سيحل محله السفير الاميركي الجديد في بغداد، والذي سيكون بمثابة "المندوب السامي"، فيما يبقى الجنرال ريكاردو سانشيز سيد الموقف في المشهد العراقي. وعلى رغم ان احداً في واشنطن لا يشكك في قدرة القوات الاميركية على سحق اي تحرك عراقي بالقوة العسكرية الهائلة التي تملكها، الا ان التداعيات السياسية لسقوط أعداد كبيرة من المدنيين العراقيين ضحايا للقصف الاميركي شبه العشوائي، وعدد لا يستهان به من الجنود الاميركيين، ستجعل بقاء القوات الاميركية في البلد، من دون تسوية سياسية ترضى بها غالبية الاطراف العراقية، بمثابة استنزاف سياسي للإدارة الاميركية في سنة انتخابية. ويشبّه معلقون سياسيون وضع القوات الاميركية في العراق اليوم بوضع القوات الاسرائيلية في لبنان غداة اجتياحه عام 1982. إذ بعدما استقبل لبنانيون الاسرائيليين بالورود، انقلب السحر على الساحر، وتحول طرف مهادن الى عدو أشد فتكاً من القوات الفلسطينية التي كانت اسرائيل اجتاحت لبنان للقضاء عليها. وجاء امتناع قوات عراقية عن المشاركة في اقتحام الفلوجة، على رغم انها تخضع للقيادة الاميركية، بمثابة صفعة للإدارة الاميركية التي كانت تعتقد ان بإمكانها الاعتماد على تلك القوات كي تكون في واجهة العمليات العسكرية لتطهير الفلوجة من "المتطرفين السنة" والنجف من "جيش المهدي" التابع لمقتدى الصدر. وحتى قبل حسم نتائج المواجهة في الفلوجة والنجف وغيرهما من المدن العراقية "المتمردة"، بدأت واشنطن تحصي خسائرها السياسية. ولعل أبرز الخسائرالمحتملة إحباط مشروع الديموقراطية في "الشرق الاوسط الكبير"، والذي أملت الادارة بأن يكون عنوان سعيها الى دورة رئاسية ثانية، انطلاقا من قمة الدول الثماني في حزيران. فإن لم تستطع اميركا ان تطبق مشروع الديموقراطية في دولة خاضت حربا بحجة "تحريرها"، فكيف ستطبقه في بقية دول المنطقة التي لا تدين لأميركا بالكثير؟ بل إن لم تستطع ان تحاور وتقنع وتحتوي زعيماً شيعياً شاباً، كانت أنقذته من براثن النظام المخلوع الذي قضى على والده وأخويه، فإن فرصها في اقناع قيادات عربية أخرى تبدو شبه مستحيلة في ظل الظروف الحالية. وبدا واضحا ان مشروع الاصلاح والتحديث في الشرق الاوسط لم يعد أولوية اميركية، كما كانت الحال قبل المواجهات في العراق. إذ لم يأت الرئيس الاميركي على ذكر المشروع خلال المؤتمر الصحافي المشترك الذي عقده مع الرئيس المصري حسني مبارك، على رغم ان واشنطن كانت تعوّل على ان تتولى مصر دوراً قيادياً في تطبيق المشروع الاقليمي بوصفها اكبر دولة عربية. ووجد بوش نفسه مضطرا الى الاتفاق مع الرئيس المصري على ضرورة ان يكون الانسحاب الاسرائيلي المقترح من قطاع غزة جزءاً من انسحابات اسرائيلية من بقية الاراضي الفلسطينية بحسب "خريطة الطريق"، وصولاً الى اقامة دولة فلسطينية مستقلة بحسب "رؤية بوش" لتسوية نهائية. والرئيس الاميركي، الذي كان يتوقع منه ان "يحاضر" أمام الرئيس المصري في شأن مسؤولياته تجاه عملية السلام ودفع الديموقراطية في المنطقة، وجد نفسه مضطراً لاتخاذ موقف دفاعي في ضوء ادائه المزري في العراق، وشلله في ضبط التجاوزات الاسرائيلية للخطوط الحمر التي كانت واشنطن حددتها لحكومة ارييل شارون. وبعدما عارضت بناء الجدار الفاصل، عادت وسمحت ضمناً لهذه الحكومة بمواصلة بنائه بعد تعديلات طفيفة على مساره. وبعدما عارضت الاغتيالات السياسية للقيادات الفلسطينية، سكتت عن اغتيال الشيخ احمد ياسين، ولم تظهر ما يكفي من الحزم في تحذيرها من اغتيال الرئيس ياسر عرفات. ولعل الرئيس الاميركي سيجد نفسه اكثر ضعفا امام شارون عندما يواجهه في البيت الابيض اليوم. فهو قد لا يكون قادراً، في ظل مأزقه العراقي من جهة، وتفاقم أزمته الداخلية بسبب التحقيقات في احداث 11 ايلول، على الضغط على اسرائيل في شكل يسمح باستئناف عملية السلام مع الجانب الفلسطيني، وفق الشروط المتوافق عليها مع الاتحاد الاوروبي والامم المتحدة وروسيا. فالإدارة الاميركية تعرف تماماً ان الضغط على اسرائيل في سنة انتخابية، في ظل أزمات تحيط بها من كل جانب، هو ضمانة بأن الشهور السبعة المتبقية قبل الانتخابات، هي نهاية عهدها. ويراهن مراقبون على ان بوش سيكون اكثر مرونة في مواجهة شارون الذي يتحدى المجتمع الدولي برمته، منه في مواجهة "المتمردين" في الفلوجة والنجف.