قبل عام واحد تقريباً صدر في دمشق العدد الأول من مجلة اجتماعية مصورة، فاقت مبيعاتها مبيعات أي مجلة محلية أخرى، وهي ترصد من خلال صورها الملونة آخر الأخبار الاجتماعية وحياة الناس الليلية في مدينتي دمشق وحلب في شكل أساسي. تقليب صفحات المجلة الملونة يفتح أمامك عالماً غير اعتيادي، يمنح الكثيرين الإحساس بأن الأمور تجري على خير ما يرام، ويمنح تبعضهم الإحساس بالخوف من تسلل الكثير من الظواهر الجديدة والمريبة إلى حياة الشباب اليومية. هذا الواقع الذي تنقل جماله صفحات تلك المجلة الملونة لن يكلفك اكتشافه أكثر من السير المتمهل في أزقة دمشق القديمة، حيث تلمح عيناك عدداً من لافتات الهيلوجين الملونة التي لا تنسجم غالباً مع شخصية الأزقة القديمة، وتشير إلى مطاعم وملاه ليلية تتخذ من المدينة القديمة مركزاً لها، وتحتضن يومياً أكثر من نصف عدد الساهرين في دمشق، فتضيف إلى هذا المتحف المفتوح أمام الزوار الإحساس الدائم بالحياة. قبل سنوات، كانت حياة الليل في دمشق تقتصر على مجموعة من الحانات المتواضعة وفنادق الخمس نجوم، أما الآن فابتداء من منطقة "سفل التلة" في منطقة باب توما القديمة تطالعك أسماء مجموعة من النوادي الليلية والمطاعم التي صارت تتكاثر بصورة سريعة. في البيوت الدمشقية القديمة التي تحولت إلى مطاعم ومقاه مثل "برجيس"، "بيت جبري"، "عالبال"، "الباب العتيق" حيث تختلط رائحة الياسمين الدمشقي مع النرجيلة ومياه النوافير، يتجمع يومياً المئات من الشباب والصبايا الذين صاروا يتخذون من هذه المقاهي مكاناً يقضون فيه ساعات طويلة في لعب الورق وتدخين النرجيلة والمواعدة. هذا الإقبال الكبير الذي تلاقيه مقاهي المدينة القديمة شكل مفاجأة كبيرة لأصحابها وحافزاً لهم لتجديد المزيد من البيوت القديمة وتحويلها إلى مقاه ومطاعم ونوادٍ ليلية، تقدم فيها الوجبات التقليدية الشرقية والغربية والمشروبات. بل إن تكاثرها العشوائي في الأحياء القديمة صار يشكل إزعاجاً كبيراً لساكني الحي، الذين صاروا يسهرون على أصوات الموسيقى الصاخبة ويراقبون فلول الساهرين وهم يغادرون أماكن السهر في ساعات الصباح الأولى. وتقول شابة تقطن في المنطقة أن الملهى الليلي الجديد الذي افتتح قبل عامين بجانب بيتها، فتح عيونها وعيون إخوتها المراهقين على مجموعة من الظواهر الجديدة التي أثرت فيها وفيهم كثيراً، وهي تصف ما يحدث يومياً تحت شباك غرفتها "بالأفلام العربية والأجنبية" بفعل ما يحدثه الساهرون بعد خروجهم من أصوات عالية وبلبلة. قبل عشرة أعوام لا أكثر، كان على الشباب الراغبين بالسهر والاستمتاع بالليالي الملاح السفر إلى بيروت، بل إن الزحمة التي كانت تشهدها الحدود السورية - اللبنانية ليلتي الخميس والسبت كانت ظاهرة ملحوظة، إلا أن افتتاح العديد من أماكن السهر في دمشق مثل بيانو بار، كازابلانكا، تورنيدو، لاتيرنا، كاريزما خفف عدد مسافري الخميس والسبت إلى حد كبير، فما كانوا يذهبون لأجله في بيروت صار لديهم هنا في دمشق، فهم يأكلون ويشربون ويرقصون ويسهرون حتى الصباح، على رغم أن عدداً لا بأس به من الشباب ما زال يفضل السهر مرتين في بيروت شهرياً على السهر أسبوعياً في دمشق، والأسباب تعود برأيهم إلى أن للسهر في بيروت طعماً مختلفاً تماماً عنه في دمشق، فهم هناك أكثر حرية وأكثر انسجاماً إذ لا عيون تراقبهم، ولا أحاديث تتداول تصرفاتهم، وهذا برأيهم أكثر ما يحتاجه الساهر للاستمتاع بسهرته. وتبدو تجربة حياة الليل في دمشق تجربة حقيقية مؤثرة بالنسبة للكثير من الشباب والصبايا خصوصاً أولئك الذين لم تتح لهم فرصة تجريبها خارج سورية، وقلة قليلة من هؤلاء المجربين الشباب لم ترغب بإعادة التجربة مرة بل ومرات أخرى، أما تعاملهم معها فيختلف باختلاف بيئاتهم الاجتماعية والثقافية والدينية. بعضهم مقتنع بشرعيتها، وبعضهم الآخر تتناقض لديه الرغبة بين حب الاستطلاع والتجريب وبين الإحساس بلا شرعية التجربة ككل. ويعلق شاب على الظاهرة بالقول: "بأن دمشق كما نعرفها تنتهي عند أبواب أي ملهى ليلي في دمشق". والسبب يعود برأيه إلى ما يمنحه إياه السهر في هذه الأماكن من الإحساس بالمساواة مع طبقات اجتماعية معينة ترتاد مثل هذه الأمكنة بينما لا مجال لمصادفتها أثناء النهار في أي مكان في دمشق، إضافة إلى ما تمنحه إياه مثل هذه الأمكنة من حرية إضافية في التعبير عن كل ما في داخله، ومن فرصة للانفتاح على طرق جديدة في التفكير والحياة. تجربة السهر الليلي بما تحمله من انفتاح أكبر على كل ما هو جديد تبدو ميزة يتمتع بها الشباب في مدينتي دمشق وحلب تحديداً بينما يحرم منها الشباب في محافظات اللاذقية وحمص مثلاً. كثيراً ما يسافر طارق 25 عاماً من حمص إلى دمشق للسهر مع صديقته في "لا تيرنا أو بيانو بار" وهو يقول: "ما زالت حمص فقيرة بمثل هذه الأماكن، كما أن المجتمع فيها مغلق و"الكل يعرف بعضه" لذا فأنا أفضل السهر خارج حمص والحصول بالمقابل على حرية أكبر" ويتابع طارق: "ولكن دمشق وغيرها ما زالت فقيرة بالكازينوهات كتلك الموجودة في لبنان، والتي يفهمها الناس هنا على أنها مكان للعب القمار لا أكثر بينما تحمل في الحقيقة الكثير من المتعة والتحدي"، أما عما ينفقه من مال على السهر، فيقول طارق: "قلما أخرج لتناول الطعام خارجاً لأني لا أجد متعة بذلك، وأنا أخصص مبلغاً شهرياً معيناً للسهر ويراوح ما أدفعه في السهرة الواحدة بين الألف والألف وخمسمئة ليرة سورية، وهو مبلغ كبير بالنسبة للكثير من الشباب والصبايا الذين يتحاشون الذهاب لمثل هذه الأماكن نظراً لتكلفتها العالية". دينيز 26 عاماً من مرتادي النوادي الليلية الدائمين: "الخروج للسهر هو أحد أجمل ما أقوم به مع أصدقائي فاليوم وبفعل ضغوط العمل وساعاته الطويلة، صار واحدنا في حاجة إلى ما هو أكثر من ارتياد المقاهي وتناول طعام العشاء مثلاً وتدخين النرجيلة"، وإن كان خروجها المتكرر للسهر لساعة متأخرة خارج المنزل يسبب لها أي نوع من الإحراج، تقول دينيز: "على العكس تماماً فالسهر يمنحني إحساساً حقيقياً بالتميز عن بقية زميلاتي في العمل، إضافة إلى الحرية والاستقلالية، لكنني أعلم أيضاً أن هذا التصرف بحاجة للكثير من الوعي والقدرة على تحمل المسؤولية، كما أن ارتيادي لأماكن السهر الليلي يجعلني أقرب من واقع الحياة ويفسر لي الكثير من الأمور". شادي 28 عاماً كان قد خبر حياة الليل أثناء وجوده في لندن وجربها في مجموعة من العواصم الأوروبية الأخرى، وهو يحرص على السهر أسبوعياً في ملاه محددة في دمشق لا يغيرها. وعن الفارق بين الخارج والداخل يقول شادي: "ما ينقص أماكن السهر في دمشق هو ثقافة السهر بحد ذاتها، وما يضايقني أكثر هو المحسوبيات التي تخضع لها مثل هذه الأماكن، إذ لا نزال نرى هنا وهناك طاولة فلان أو فلانة والذين يأتون للتفرج على غيرهم ومراقبة ما يجري بصورة تزعج الكثير من الساهرين، إلى جانب سوء تعامل الكثيرين مع هذه الظاهرة".