أهداني أحد ألأصدقاء في ندوة جمعية الفلسفة المصرية القاهرة - نهايات تشرين الأول/ اكتوبر 2003 العدد الأول من دورية "فلسفة" التي تصدر في بيروت عن جمعية اللقاء الفلسفي. وقد أسعدني أن طموح أصحابها الشبابي استئناف حركة الفكر الفلسفي ترجمة وابداعاً كان ذا صلة مباشرة ببؤرة الفكر الفلسفي في الفكر الحديث المتأخر والمعاصر الفلسفة الألمانية عامة والمدرسة الهايدغرية بخاصة وأنه يحاول بوعي تجنب خطأ الاتصال الأول ببؤرته اليونانية عندما تعددت الوسائط ولم تشفع بالعودة إلى الأصول. فعدم الصلة المباشرة بالأصول هو جوهر المعضلة التي يعاني منها فكرنا الحالي. إذ هو قد واصل خلال قرني النهضة الأخيرين خطا فلاسفتنا الأوائل خطأهم المتمثل في القناعة بالترجمات الوسيطة. فكان فلاسفة القرون الوسطى المسلمين جاهلين بلغة النصوص التي يعملون عليها شرحاً وتأويلاً بمن فيهم الشارح الأكبر. والعلاج هو طبعاً ما تنبه إليه الكثير وأكد عليه أصحاب هذه المبادرة السعيدة. لكن ما غلب إلى حد الآن هو أن المتنبهين إلى المسألة شرعوا في ممارسة الحل على المستوى الشخصي. فقل أن تجد فيلسوفاً عربياً اليوم جاهلاً بلغات الفلسفة الحديثة والمعاصرة. ولعل أهمية مشروع هذه الدورية تتمثل في كون أصحابها يحاولون تجاوز هذا المستوى الشخصي إلى تشريح المعضلة الحقيقية التي تعاني منها الفلسفة العربية المعاصرة بتأسيس ما يشبه مدرسة فكرية قد يكون مستقبلها واعداً. فحل المشكل على المستوى الشخصي الاتصال المباشر بالمصادر حقق نتيجة عكسية إذ هو قد فاقمها في المستوى الجمعي والمؤسسي فضلاً عن ميله إلى الحلول السهلة الناتجة عن عدم تكون الجماعة العلمية التي تمكن بالنقد المتبادل أو التواصي بالحق من تسديد الخطى. لم يحقق علم الفلاسفة العرب بلغات الفلسفة الحديثة لغة فلسفة عربية حديثة ومعاصرة مشتركة بين الفلاسفة العرب بل هو بالعكس حال دون وجودها خاصة والتعليم العالي لم يكد يعرب التعريب السليم في جل الجامعات العربية. فلا يزال مشروع اللغة الفلسفية العربية يعاني من ادواء عدة. لن نخوض في هذه الأدواء. فذلك ما سيكون مادة لبحث علمي ينشر في الدورية نفسها. لكننا سنكتفي باشارات خفيفة نرجو ألا تفسد للود قضية إشارات إلى الداء الثالث داء القطع مع لغة الفلسفة العربية الوسيطة قطعاً غير مبرر إما بالتعريب المفرط أو بالوضع المفرط. وليكن مثالنا مأخوذاً من ترجمة الاستاذ وهبة لكتاب نقد العقل الخالص ومقصوراً على الوضع من دون التعريب. فما الذي يلجئ الأستاذ وهبة للوضع الكثير في هذه الترجمة وكأن اللغة الفلسفية العربية الوسيطة لم يعد منها شيء صالحاً؟ فهل غير كانط دال اللغة الفلسفية ليتابع تغير مدلولها أم هو اكتفى باضفاء دلالات جديدة على الدوال القديمة مشيراً إلى بعضها صراحة وتاركاً البعض الآخر يتحدد عند القارئ المختص بالسياق والنسق كما هو الشأن في كل خطاب إنساني؟ هل يمكن القول بمثل هذه الضرورة ثم يبقى التواصل ممكناً؟ فإذا كان لكل مدلول داله بات عدد الدوال لا متناهياً فامتنعت الدلالة. ثم إننا لو فرضنا ذلك ممكناً وفعلنا لصارت كل دوال كل فيلسوف خاصة به لأن كل فلسفة هي في الغاية هذه الخصوصية التي للمدلولات الجديدة التي بفضلها صار الفيلسوف معدوداً متفرداً وكل صلة لفلسفته بالفلسفات الأخرى هي اشتراكها معها في الدوال. لو قبلنا بضرورة تغيير الدال كلما تغير المدلول لأصبح التواصل ممتنعاً في نفس الجيل فضلاً عنه بين الأجيال. بل ولأصبح التواصل بين الذات ونفسها ممتنعاً: إذ إن كل لحظة من لحظات تيار الوعي تختلف عن اللحظة السابقة وعن اللحظة اللاحقة. فما الذي يربط بين المدلولات إذا جعلنا لكل فرق بينها من حيث هي مدلولات فرقاً بين دوالها التي نعبر بها عنها؟ الوحدة المادية للدال هي التي تصل التعدد المعنوي في المدلول. سأكتفي بمثال واحد: مثالDer Begriff ما الذي ألجأ الزميل الفاضل إلى التعديل الاصطلاحي فيشتق من مادة "فهم" مصطلح "أفهوم"؟ جوابه لم يقنعني. ولست أدري هل يمكن أن يقتنع به أحد ممن له دراية بتاريخ الفلسفة عموماً وبالفلسفة الكانطية خصوصاً. لا أرى العلاقة بين الزيادة الاشتقاقية في الدال "فهم" للمرور إلى الدال "أفهوم" وبين التغيير الدلالي في الدلالة التي يعبر عنها كانط ب"بجرف" ترجمة ألمانية ل"كونسابتوس" اللاتينية من دون تغيير في الدال، فضلاً عن كون الزيادة الاشتقاقية ليست تحكمية في العربية بل دلالاتها العامة معلومة ومحددة في مصنفات الصرف العربي. فهذا الحل السهل المتمثل في الوضع الدالي لإبراز ما نتصور أننا أدركناه مفيداً في الوضع المدلولي عند أحد الفلاسفة مضر بتاريخ المصطلح العربي. ثم ما الذي يجعل ثبات الدال على رغم تغير المدلول أمراً ممكناً في لغة النص الأصلي وغير ممكن في لغة النص المترجم؟ هب أن هذه الزيادة نظير للزيادة في كلمة "أسلوب" من "سلب" فلنسأل عن دلالة الزيادة في "أفهوم" ما هي؟ المعلوم أن صيغة "أفعول" نادرة الوجود في العربية. لكن الكلمات المؤنثة على صيغة "أفعولة" كثيرة: ارجوحة، امثولة، أضحوكة، ارجوزة، انشودة إلخ... فماذا يفيد الشكل المؤنث الذي يستعمل عادة للتصغير صرفاً وللتعظيم بلاغة: مثل ارجوزة وأنشودة؟ فهل هما مشتقتان من رجز ونشد أم من أرجز وأنشد؟ الطبع السليم يقول بالحل الثاني. فتكون الزيادة دالة على إما على تعدية الفعل على نفسه انشد أي جعل النشد نشيداً أو على مفعول ثان أنشد الأمير قصيداً. وبهذا القياس تكون كلمة "أسلوب" دالة على جعل السلب سلباً أو على تحقيق السلب من أجل المخاطب من جنس "خلع عليه" ولكنها تعدية من دون حرف. لا يمكن أن يكون القصد التعدية للمفعول لأن أفهوم ليس القصد منها الإفهام ولا الزيادة في الفهم. ولا يمكن كذلك أن يكون "فهم" من الأفعال العربية النادرة التي يحصي منها النحاة القليل القليل وتكون فيه إضافة الألف علامة على السلب من جنس الألف اليونانية في أول الكلمات فتكون أفهم نفياً للفهم: مثل اعذر من انذر فقد اعذر نفياً للعذر. فلم يبق إلا معنى واحداً هو المعنى المناظر لأنشد تعدية على الفعل نفسه. فيكون أفهوم بمعنى جعل الفهم فهيماً وأفهوماً مثل جعل النشد نشيداً وأنشودة وجعل السلب سليباً وأسلوباً. ومن ثم فالقصد المبالغة في الفهم. فهل يوجد في استعمال كانط ل"بجرف" أكثر مما في كونسابتوس التي هي ترجمة لتصور بالمعنى المنطقي التقليدي إدراكاً للمعاني المجردة البسيطة وللعلاقات الذاتية بينها من حيث هي اساس لاستنباط بعضها من بعضها عند المرور من الحد إلى البرهان في نظرية العلم التقليدية وحتى في نظرية الشروط الترنسندتالية للوصل بين المنطق الصوري ومضمونه؟ ولنلخص الاعتراضات الجزئية على الوضع الاصطلاحي بعد الاعتراض الكلي عليه بطبيعة التعبير المستند إلى أن الدال لا نحتاج فيه إلى كثرة التغيير مثل المدلول فضلاً عن كون ذلك مستحيلاً. فلا يمكن أن يكون تغيره موازياً لتغير المدلول لأن السلسلتين ليستا من نفس الطبيعة سلسلة المدلول لا متناهية وسلسلة الدال متناهية وذلك هو السر في قدرة الانسان على التعبير وقدرة البشر على التفاهم أو هو جوهر اللغة. فهذه الاعتراضات العينية تقبل الحصر في المسائل الخمس التالية: 1- فكانط أولاً لم يبدع هذا الدال. بجرف مستعملة قبله ترجمة لكونسابتوس في تقابلها مع برسابتوس مستويين للإدراك المعرفي. 2- وكانط ثانياً لم يعطه مضموناً جديداً بعكس هيغل عندما جعل من منطق التصور جمعاً بين نظرية التصور الأرسطية ونظرية التصور الأفلاطونية للمعاني البسيطة ولعلاقاتها فمكن من الجمع الدلالي بين المثال والصورة في مفهوم الفكرة التي هي التأليف الجدلي بين الوجود والماهية في حركية التاريخ الحي بحيث يصبح التصور هو عين العلم المطلق أو الروح المتعين. والمفردات العربية التي تفيد ما يفاد بنفس ذلك الدال ثالثاً تقبل الاثراء قبول المفردة الألمانية واللاتينية لهذا الإثراء بحسب تراكم المدلول الذي يحمله نفس الدال. ومن ثم فلا داعي لوضع دالي جديد إذا كان الوضع المدلولي كافياً. بحيث إن التصور بمعناه عند ابن سينا من حيث هو ادراك الوحدات التصورية العقلية الدنيا التي لها ما صدق هو مرجعها ومفهوم هو الخاصيات المشتركة بين أفراد ما صدقها أو وحدة مرجعها التصورية يكفي: فهو غير التمثل Vorstellung وغير التخيلEinbildung وإن لم يخل منهما مرقاة إليه وليس هو من المدركات الحسية وإن لم يستغن عنها نفسياً حتى وإن كان شرطها ترنسندتالياً. والمعلوم رابعاً أن أهم عناصر الانقلاب الكانطي أعني مفهوم المتعالي الذي ينتج عنه قلب العلاقة بين فعل العقل وموضوعه في معيار الحقيقية التقليدي قبلية فعل العقل على موضوعه هي المقصود بالتعالي لم يلجئ كانط لوضع دال جديد بل اكتفى بالإشارة إلى المدلول الجديد. فكنط لم يبدع دالاً جديداً على رغم الدلالة الجديدة التي أضفاها عليه مقتصراً على التمييز بين التعالي بالمعنى التقليدي المتعاليات الثلاثة ذات الدلالة التناسبية والمتعالي بمعنى القبلي المعرفي أو شروط إمكان التجربة وشروط امكان موضوعها. وأخيراً فإن ما تستمده الفلسفة الكانطية من الانقلاب الكوبرنيكي يجعل كل تصوراته خاصة فهل يعني ذلك أن على كانط أن يبدع دوال لغوية خاصة يعبر بها عن مضمون هذا الانقلاب؟ وهل يعني ذلك أن المفهومات التي لم توضع لها دوال جديدة معانيها ما تزال قديمة؟ وفي الختام فإن "الموضة" الهايدغرية يمكن أن تكون سبباً في ألعوبة حصر الفكر في التشقيق اللغوي. ذلك أن صيرورة القول الفلسفي عديم الحول الرمزي والقوة التقنية أمام حدي الابداع الإنساني المجردين الأدب رمزاً والعلم تقنية وحديه المعينين التجربة الوجودية روحاً والتجربة العلمية مادة جعل المتفلسفين يبحثون لهم عن فن يأخذ من هذه الحدود الأربعة بطرف فيكون أدباً بأفسد معاني الأدب كما عرفه نقاد العرب لأنه ليس أدباً ولا علماً ولا تجربة وجودية ولا تجربة علمية بل هو فشل فيها جميعاً ومحاولة للتحقير منها بزعم وجود خطاب متعال عليها جميعاً هو في الغاية التشقيق الهايدغري في التخريجات اللسانية التي طالما أشبعنا أفلاطون منها "اسخورة". وإذا كان ذلك قابلاً لأن يماشي صالونات العاطلين من الأكاديميين الغربيين فإنه لا يمكن أن يحقق ما نصبو إليه من فكر فلسفي يسهم في النهضة: لا بد من فكر في العلوم ذات العمود الفقري الطبيعية والإنسانية وتطبيقاتهما على العمران البشري والاجتماع الإنساني يناظر الفكر الذي حقق النهضات عند الغرب قبل وصوله إلى الترف التشقيقي. * كاتب تونسي. أستاذ في الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا.