يصعب إعطاء تعريف معين للمفهوم، وبالتالي تحديده، لأن ذلك ىتعلق باختلاف وتعدد المعاني التي يحملها والدلالات. ويمكن القول ان المفهوم كائن اصطلاحي، شرطيّ لحصول الفهم، له حياته الخاصة، المعرفية والفكرية، التي تتغير في سياق المجال المعرفي الحاضن لها، وفي إطار المشكلات التي تطرحها او التساؤلات التي تجيب عنها او المركبات التي تقوم او تنهض على صرحها. وتتخذ المفاهيم اشكالاً تنسجم ومجالها المعرفي، كونها ترتبط بمجموع آليات وعمليات تخص انتاجها وصناعتها، اذ تتخذ تراتبية تفاضلية بحسب اهمية حقلها المعرفي او بعبارة ادق بحسب الاقليم المعرفي والدلالي الذي تنشأ فيه وتترعرع. اما المفهوم الفلسفي Le conscept philosophique فيختلف عن سواه من المفاهيم بسمات معينة تخصه، كما تختلف المفاهيم الفلسفية باختلاف اللغات والألسن الطبيعية، حيث يقترن المفهوم في أية لغة من اللغات الإنسانية بصورة لفظية أو بناء خاص للمعنى، يحمل مدلولاته، المعلنة أو المضمرة، ومكوناته المتعددة، اللغوية والاصطلاحية والاستثمارية، لذلك تطبع اللغة المفهوم بنظامها الخاص، فحين يقوم الفيلسوف بوضع مفهومه يلجأ الى تشقيق الكلام وفق معايير ممارسته الفلسفية في اللغة الحاضنة لها، لذلك يقول غرانجيه "لا تفلسف إلا داخل اللغة"1، وهذا ما دعا "هيدغر" الى الربط بين الفلسفة واللغة، حيث اعتبر اللغة اليونانية لغة فلسفية الى جانب الألمانية. غير أنه اعتبرهما اللغتين الفلسفيتين الوحيدتين من بين لغات العالم. هذا الاعتبار يعكس، من جهة أولى، علاقة الفلسفة باللغة، ومن جهة أخرى نظرة تمركزية أنتجتها ميتافيزيقا التمركز الغربي على الذات، وقد شاركه في هذه النظرة كثير من الفلاسفة الغربيين. وشهد المفهوم الفلسفي تغيراً كبيراً في النظرة إليه، من قبل الفلاسفة، فبينما التبس المفهوم لدى الفلاسفة التقليديين مع الفكرة والتصور بدءاً من أرسطو وأفلاطون: وانتقل هذا الالتباس الى الفلسفة العربية، حيث تجلى ذلك في إشكالات إجرائية ودلالية في سياق أقلمة المفاهيم ووضعها، إلا أن عدداً من فلاسفة الحداثة اهتمّ بالمفهوم كواقعة فلسفية، وجعل مهمة الفلسفة خلق المفاهيم وإبداعها في سياق الممارسة الفلسفية، ونخص بالذكر هنا "غرانجيه" و"دولوز". وقد غاص المفهوم في حقول الذات المطلق على يد هيغل، الذي اعتبره موحداً للروح داخل مطلق الذات، انطلاقاً من لحظات طرحه الذاتي، وبحثاً عن انتماءات المفهوم في/ وبواسطة الوعي، ثم تابع كانط دروب الذاتية الخالصة وأحال إليها شمولية المفهوم، في إطار بحث الفلسفة عن بناء الكليات. لكن ذلك اقترن بفك الارتباط بين المفهوم والفكرة المجردة وإن اعتبر كانط أن الفكرة هي في آخر المطاف نوع من المفاهيم. وتقوم الفلسفة بابتكار وخلق المفاهيم الجديدة، وهي مهمة تُكسب الفلسفة تميزها الخاص وليس تعاليها، لأن الفلسفة، في نظر "دولوز"، هي الحقل المعرفي الوحيد الذي يقوم دوماً بخلق المفاهيم الجديدة2، غير أن المفهوم الفلسفي يتركب من مجموعة عناصر يتحدد بها، إذ لا وجود لمفهوم بسيط أو مفرد. مرد ذلك هو إن كان المفهوم مدركاً عقلياً في حقل إدراكي معين، فإن إدراك العناصر المفردة لا يحصل إلا بإدراك العلاقات المتبادلة في ما بينها. ويحيل كل مفهوم الى مشكلات متعددة، تكسبه معناه ودلالاته المتنوعة، فمفهوم الذات، مثلاً، يقتضي استحضار مفهوم الآخر بوصفه ذاتاً تتقدم كموضوع، وعليه فإن مفهوم "الغير" لن يكون غير ذات أخرى كما تظهر لي أنا. إذاً، المشكلة تتعلق بكثرة وتكثر الذوات، وبعلاقاتها ومثولها المتبادل، وتبعاً للمشكلة المطروحة، كما يبيّن "دولوز" يمكن أن يظهر "الغير" كعالم ممكن، يوجد في وجه يعبّر عنه، ويتحقق في لغة تمنحه واقعاً. بذلك يمتلك مفهوم الغير ثلاثة مكونات: عالم ممكن، ووجه موجود، ولغة واقعية. كل ذلك يجعل المفهوم صيرورة تخص علاقته بالمفاهيم الأخرى، وعليه يمكن للمفهوم الفلسفي أن يتفرّع الى مفاهيم أخرى تحيل إليه ويحيل إليها. وفي حال مفهوم "الغير" فإنه يظل دوماً مدركاً كآخر، لكنه، في الوقت نفسه، يشكل الشرط الذي نعبر بوساطته من عالم الى آخر، أي إنه شرط كل إدراك للآخر وللذات. ويتغاير المفهوم بتغاير الحقل الإدراكي له، يتغاير العالم الممكن، عالم الأنا وعالم الآخر ومختلف العوالم الممكنة. يتوجب على ذلك البحث في طبيعة المفهوم، ليس فقط من حيث هو جمع أو مركب متداخل، إنما من حيث أن كل مفهوم يستدعي مفاهيم أخرى، ومن حيث أن كل مفهوم يتفرع الى مفاهيم أخرى. وتقترن مركبات المفهوم الحاضرة بتاريخه وبصيرورته، فمفهوم "الآخر" في الفلسفة العربية الإسلامية، اقترن في بدايات الدعوة الإسلامية بأهل الكتاب والكافرين، ثم الذمي دافع الجزية، ثم النصراني، ثم الإفرنجي المبهم في العصر الوسيط، ثم الغربي والاستعماري في العصر الحديث... الخ. بذلك يسير المفهوم نحو اللامتناهي بتعدديته واستشكالاته. كما ويتحدد المفهوم الفلسفي بقوام داخلي يميزه عن غيره من المفاهيم، فعالم الغير لا يوجد خارج الوجه الذي يُعبر عنه، آخر مكون من صوت ومتخيلات وربما من بخور الميتافيزيقا ودنس التعالي، وفي الحقل الذي يشيّد عليه المفهوم تلتقي مفاصله كجسور للعبور من مجال الى آخر. ويتركز في المفهوم مركباته ومكوناته الخاصة به، أو حسب دولوز يشكل المفهوم نقطة التقاء مفهومية لعبور المركبات، وإعادة استشكالاتها واستدلالاتها، مما يكسبه تكويناً غير متجانس، فمفهوم الطبيعة لا يتضمن نوع أو كنه الطبيعة أو ماهيتها، إنما وسطها ومحيطها المكتنف، أي ألوانها وأطيافها المتعددة وأزهارها وأشجارها ورملها وقسوتها وحيواناتها وبشرها... الخ. بذلك يكون المفهوم حياً طليقاً كالطائر، يحلق فوق الأقاليم المعرفية والجغرافية. إنه حدث حي، طائر لا يكف عن التحليق فوق الأقاليم، وليس شيئاً مفكراً فيه أو ماهية أو جوهراً وما الى ذلك من توصيفات الميتافيزيقا المثالية منها أو المادية. * كاتب سوري