في مقدمة ما بحثت عنه قوات الاحتلال الاميركي للعراق، عقب سقوط بغداد، العلماء العراقيون الذين رَوَّجَ الاعلام الاميركي طويلاً حكايات كبيرة عن امتلاكهم لطاقات علمية هائلة، وَظَّفَها نظام الديكتاتور المخلوع في صنع "اسلحة الدمار الشامل". بعد سنة من الاحتلال، صارت تلك الاسلحة سراباً، وبات الخيط الذي يفصل بين الحقيقة والوهم، عن علماء العراق وقدراتهم، واهياً تماماً. لتلك الامور آثار كثيرة، منها انها اعادت اطلاق النقاش حول وضع المجتمع العلمي في العراق، وخصوصاً الابحاث العلمية فيه. سوق شهادات الدكتوراة! يسود أعتقاد واسع راهناً، مفاده ان البحوث العلمية العراقية تفتقد الى الصدقية الى حد كبير. لهذا الاعتقاد الخطير أسبابه وجذوره التي يصعب حصرها في جانب واحد. فالمعلوم ان مسوؤلي حزب البعث وكبار مسؤولي الدولة كانوا يحظون بتقويمات عالية عن بحوث اقل من عادية! وفي ظل التسلط الديكتاتوري، ساد الفساد المؤسسات العلمية، وانتشرت ظاهرة كتابة اطروحات الدكتوراه لقاء مبالغ معينة. وتحولت الى "مهنة سرية" زاولها بعض المضطرين. وتتذكر احدى المشاركات في تلك "المهنة" انها كتبت عشرات رسائل الماجستير والدكتوراه، لمسؤولين بعثيين في ديوان الرئاسة والاستخبارات، ولطلبة اردنيين وغيرهم: "كان أكثر المتعاملين معي من طلبة "معهد دراسات القائد المؤسس"، احد القاب الرئيس المخلوع صدام حسين، وأعضاء فِرَق حزب البعث في الجامعات... كانوا يمتلكون الاموال التي احتاجها للانفاق على أولادي بعد وفاة والدهم وبقائي بلا وظيفة في الجامعة لأني لست بعثية وليس لي واسطة للتعيين". وتضيف الدكتورة التي رفضت الإدلاء باسمها، انها تعلم أن ما عملته ينافي الأمانة العلمية. وفي المقابل، ترى ان كل شيء كان ممكناً في ظل التَسلط "فالكثير من الاساتذة المشرفين على الرسائل والاطروحات، عرف حقيقة كتابة تلك الاطروحة...كانوا يغضون الطرف خوفاً على مواقعهم ولمحاولتهم كسب ود المسؤولين وعدم اثارة غضبهم المؤذي". وانخرط كثير من مكاتب الطباعة والاستنساخ قرب الجامعات والكليات العراقية في مثل هذه الممارسات. ووصل سعر كتابة رسالة الماجستير إلى 250 الف دينار، ورسالة الدكتوراه إلى ضعفي المبلغ، مما يعطي مؤشراً إلى تدني الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لحملة الشهادات العليا من غير المنتمين الى حزب البعث. وكثيراً ما تشدق بعض العامة وذوي النفوذ المالي، بأن في امكان واحدهم أن "يشتري ألف شهادة دكتوراه من سوق مريدي"، في إشارة الى أحد الاسواق الشعبية المشهورة بتزوير الشهادات الرسمية! زاد في انتشار هذه الفكرة، عودة 150 مدرساً جامعياً عراقياً من ليبيا عام 1999، لتزويرهم شهادات الدكتوراه، فضلاً عن عودة آخرين من اليمن عام 2000 للسبب ذاته. وفصل 25 طالب ماجستير من جامعة بغداد عام 1999 لتزويرهم شهادات امتحان الكفاءة باللغة الإنكليزية، فضلاً عن فصل عشرات طلبة الدراسات المسائية لتزويرهم شهادات اعدادية مختلفة. ولأن بعض هؤلاء الطلبة من أولاد مسؤولين بعثيين، من رُتَبٍ غير عالية، عوقب الآباء وخُفِّضت درجاتهم الحزبية، فالمعلوم أن النظام السابق كان لا يعفي الاهل والعشيرة من جريرة ما يفعله الابناء. فقدان المهارات النقدية وتشير الدكتورة عواطف النور، الاختصاصية في تعليم التفكير في كلية "ابن الهيثم" للتربية، في جامعة بغداد، إلى أن "السبب الأساس في فقدان الثقة بنتائج البحوث العلمية يعود الى طبيعة تفكير الانسان العراقي في شكل عام". وبحسب رأيها، "يفتقد العراقي الى الكثير من المهارات الناقدة والتقويمية، ويكاد التفكير الانفعالي الخرافي يكون السمة السائدة في السلوك اليومي". ويفسرالدكتور عبد الله الموسوي، رئيس قسم البحوث التربوية والنفسية في كلية التربية، جامعة بغداد، فقدان ثقة العامة بنتائج البحوث العلمية، "بجهل هؤلاء بالمنهجية العلمية الصارمة التي تبنى عليها البحوث العلمية، اذ تعد الموضوعية والصدق والثبات من أهم المؤشرات التي تستند اليها هذه المنهجية وهي واحدة في كل العالم، ولا تخضع للتأثيرات السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو حتى الذاتية للباحث". ويضيف ان "المجتمع العراقي يحتاج الى توعية فكرية علمية واسعة النطاق تبدأ بتلاميذ المدارس الابتدائية كي نستطيع خلق جيل مؤمن بصدقية النتائج العلمية المنطقية الموضوعية سواء في التفكير أو التطبيق". يشير الدكتور سعيد الاعظمي إلى "عزلة الجامعة عن المجتمع". ويُذكر بأن النظام السابق "سعى، على المستوى النظري فقط، الى فتح الجامعة بصفتها منبراً للعلم على المجتمع. إلا أن ذلك لم يحدث واقعياً. وظلت نتائج البحوث العلمية التطبيقية تصب في حقل تطوير التصنيع العسكري بكل مجالاته، فيما أهملت البحوث العلمية في المجالات الأخرى. ومثلاً، لم يكن للعلوم الاجتماعية اي نصيب في التطور الاجتماعي، إذ ان قرارات الدولة كانت فردية، ولا تأخذ بالبحوث العلمية". كما يرى الاعظمي أن لجان مناقشات الأطروحات الجامعية "كانت تفتقد في كثير من الاحيان إلى الموضوعية. على رغم وجود حالات كثيرة من الصرامة التي اتبعها بعض الاقسام الجامعية وبعض الاساتذة". الظل الثقيل للديكتاتور الجدير بالذكر ان عشرات الدراسات التي حددت مواضيعها لطلبة الدراسات العليا وبخاصة في العلوم الاجتماعية الاعلام، التربية، علم النفس، التاريخ،... صيغت لكي تتماشى مع سياسة النظام السابق وشخص صدام حسين، ومنها على سبيل المثال، الدراسات الوصفية للخصائص القيادية والقيمية في شخصية صدام حسين وأثر فكره في الميادين التربوية...الخ. ولعب التصنيع العسكري دوراً في تحديد الابحاث، خصوصاً عندما ضعفت القدرات المالية لجهة الانفاق والتمويل المالي والمختبري على المستوى الاكاديمي. ويبدو أن الكثير من الطلبة والاوساط العلمية والمثقفين أبدى أرتياحه لمشروع إعادة النظر ببعض الرسائل الجامعية وتقويمها، الذي اطلقته وزارة التعليم العالي والبحث العلمي اخيراً. وفي المقابل، يبدو أن العمل بهذا المشروع ليس أمراً ميسوراً، اذ يتطلب لجاناً متخصصة مخولة علمياً ورسمياً تعمل على وفق ضوابط محددة سلفاً. كما يطالب كثير من طلبة الماجستير والدكتوراه بسماع دفاعاهم عن شهاداتهم التي نالوها في ظل النظام الديكتاتوري السابق. ذلك ان مواضيع رسالاتهم كانت مفروضة عليهم من جانب لجان الجامعة، حيث مارس البعثيون نفوذاً قوياً. الا ان ذلك لا ينفي ان منهجية الدراسات خضعت، في شكل عام، لتدقيق علمي واكاديمي عالي المستوى. ويسأل خالد عبد زيدان، طالب دكتوراه تاريخ في كلية "ابن رشد" للتربية، عضو فرقة سابق في حزب البعث "لماذا تفقد الثقة بأطروحتي لكوني بعثياً؟ ان العلم يتطلب الموضوعية أولاً وقبل كل شيء، وأنا كنت طالب علم وهذه صفتي بغض النظر عن كوني بعثياً أم لا". ويضيف: "ما مدى ما يستحقه مشروع المصالحة الوطنية بهذا الصدد"؟ ويبقى السؤال مفتوحاً حتى وسط غمامة فقدان الثقة بالبحوث العراقية.