معظم الناس يعتبر الشهادة العلمية؛ خاصةً بصاحبها فقط، وهذا الاعتقاد صحيح إلى حدٍ ما، ولكن عندما تدعم الحكومات التعليم، وتخصص له ميزانيات ضخمة فهذا دلالة أنّ الشهادة العلمية ليست حكراً على صاحبها، وإنّما لها انعكاس على المجتمع؛ انطلاقاً من القول إذا أردت تغيير المجتمع فابدأ بنفسك، وعليه عندما تصبح الشهادة العلمية مجرد ورقة يحصل عليها الدارس دون أي إضافات فعلية على مستواه الفكري والثقافي؛ هنا تصبح مشكلة فمعنى ذلك انتشار الغث والسطحي في المجتمع بدرجات علمية، وعندما تتشابه رسائل الدرجات العليا "ماجستيرودكتوراه" في المضمون، وتختلف في العنوان هنا مشكلة، وعندما تفتقد مجالات خصبة للإبداع لأي تجديد وابتكار هنا مشكلة، وحتى لا نذهب بعيداً يبقى الرأي لأهل الاختصاص المشرفين والمطلعين على الرسائل الأكاديمية. الابتكار والتجديد بدايةً ترى "أ.د.سلوى الخطيب" -قسم الدراسات الاجتماعية في جامعة الملك سعود- أنّ الابتكار وعدم التقليد هو الأصل في نهج الرسائل العلمية، إلا أنّ ما يحدث أحياناً أنّ الطالب يسجل في موضوع ويكون شخص آخر سجل في نفس الموضوع دون أن يدري وهذه مشكلة؛ لعدم وجود جهاز يجمع جميع الرسائل العلمية، ولا يحاول البحث عن الموضوع الجيد مما يقلل من قيمة البحوث العلمية. عبدالرحمن الشقير بينما يرى المؤرخ والباحث الاجتماعي "عبد الرحمن الشقير" أنّ تشابه الرسائل العلمية يتطابق بدرجة كبيرة في الدراسات الأدبية والشرعية، قائلاً: "ربما أزيد أنّها قد تتكرر حتى في العنوان، وبخاصة في ظل غياب التنسيق، وعدم وجود قواعد بيانات مشتركة بين الجامعات، واتجاه بعض الطلاب والطالبات إلى اختيار موضوعات لا تتطلب منهم جهداً ووقتاً طويلاً مثل تحقيق المخطوطات، أو جمع المقولات والتعليق عليها وهكذا، أمّا العلوم الاجتماعية والسلوكية فيختلف الوضع فيها؛ لأنّها في الغالب دراسات آنية تعتمد على المنهج الكمي والمجتمع هو المعمل الذي تدرسه، والمجتمع في وضع ديناميكي متغيِّر باستمرار". الفراغ العلمي ويشير "أ.د.سعود الضحيان" -قسم الدراسات الاجتماعية جامعة الملك سعود- إلى أنّ الفراغ العلمي في الدول العربية بصفة عامة وفي المملكة بصفة خاصة يمثل ظاهرة، حيث يتجه كثير من الباحثين وخاصة طلاب الدراسات العليا لتحقيق هدف وحيد وهو الحصول على الدرجة العلمية بغض النظر عن المضمون، كما أنّ التصور المتوفر لدى الباحثين بأنّنا لا نقرأ سوى العنوان لذلك نجد الاختلاف في العنوانين دون اختلاف يذكر في المضامين لكن لماذا يحدث ذلك؟ أسباب التشابه ومضى "د.الضحيان" مجيباً على تساؤله قائلاً: "تمثل مناهج الدراسات العليا نقطة الضعف الأولى، حيث ساهمت تلك البرامج في ضعف إعداد الطلاب، ضعف المناهج المتعلقة بالبحث والقياس، فأصبح هم الطلاب بل ومعظم الأساتذة أنّ شهادة الماجستير والدكتوراه تمثل درجة لا أكثر، والاستعجال في تحديد موضوع البحث، وآلية إعداد خطة البحث، وعدم وجود الدعم فيما يتعلق بالمنهجية العلمية والتحليل الإحصائي، ووجود مكاتب تجارية تتولى المهمة عن الباحثين من الطلاب وغيرهم"، مشيراً إلى أنّه بالتالي لا يمكن استبعاد أمر التشابه في المحتوى، وضعف المناقشة لتلك الرسائل فجُلُّها مناقشة أخطاء إملائية أولُغوية ولا تتناول قضايا المنهجية والتحليل؛ وذلك لضعف المناقشين في الأصل، وآلية اختيار لجان المناقشة، مثل لعبة الكراسي الموسيقية، أي أنّ هناك مجموعة متفقة فيما بينها لإجازة تلك الرسائل، وفي كل مرة يتغير واحد من أعضاء اللجنة، ولا يوجد تقييم منهجي لتلك الرسائل. التواصل السريع وعن تكرار مواضيع البحوث والدراسات، أشارت "د.الخطيب" إلى أنّ المشكلة تكبر بالنسبة للطالبة التي تفتقد وسائل التواصل السريع مع المسؤولين عن أبحاث الطلبة والطالبات، عدم توفر الإحصاءات للتعرف على حجم أي مشكلة من المشكلات الشائعة في المجتمع مثل زواج المسيار أو العنف الأسري أو تعدد الزوجات أو المخدرات وغيرها، أو قد تتوفر الإحصاءات لكن من الصعب الحصول عليها؛ لسريتها أي أنّ هناك العديد من الصعوبات التي تواجه الباحثين في مجال الدراسات الإنسانية، وتجعل البعض منهم يميل لاختيار الموضوعات السهلة، كما أنّ بعض الطلبة التحقوا بالدراسات العليا؛ لعدم وجود بدائل أخرى، فالطالب بعد التخرج يبحث عن عمل فلا يجد وبعد معاناة وفراغ يقرر الدراسة، لذا لا نجد لدى البعض منهم، وليس كل الطلبة الدافعية للعمل والبحث والإنجاز. استنساخ رسالة ويوافق "د.الضحيان" الخطيب، مؤكداً على أنّ ضعف الإعداد من قبل برامج الدراسات العليا يمثل أهم الأسباب في ضعفها، كما أنّ الرغبة العارمة لدى الكثير من طلاب الدراسات العليا يعطي دافعاً في تطبيق آلية الاستنساخ، بل من الأمثلة أنّ أحد طلاب "الماجستير" في إحدى الجامعات؛ قام باستنساخ رسالة أحد الأساتذة، غير أنّه قام بجهد شاق حيث غير العنوان فقط، وفي المناقشة كان أحد أعضاء اللجنة ذلك الأستاذ الذي استُنسخت رسالته، والخطأ الذي ارتكبه أنه لم يقرأ الرسالة إلا قبيل المناقشة، وهي عادة الكثير من أعضاء تلك اللجان، مشيراً إلى حقيقة مهمة تتمثل في أنّ طلابنا لم يتعلموا كتابة التقارير وإجراء البحوث إلا عند دخولهم الجامعة، لكنهم يكتشفون أنّ 200 ريال يمكن أن تحقق المطلوب، ويستمرون بنفس المنوال في رسائلهم سواءً للماجستير والدكتوراه، ولعل إعلان تنفيذ الرسائل تسليم مفتاح؛ إعلان صريح على التلاعب، ويكاد يحدد جامعة بعينها. الحاجة ماسة للعديد من الدراسات المتعمقة في الشخصية السعودية والتغيرات التي طرأت عليها العلوم الإنسانية وبخصوص خصوبة مجال العلوم الإنسانية، وعدم استغلالنا لمساحتها العلمية والإبداعية، توضح "د.الخطيب" أنّ العلوم الإنسانية من أهم الأقسام في فهم طبيعة المجتمعات، وإدراك التغيرات والمشكلات والظواهر التي تحدث بها، لكن ما زالت الدراسات الإنسانية في دول العالم الثالث؛ لم تأخذ حظها من الرعاية والتقدير، ففي الدول المتقدمة يُدرك المجتمع بكافة أفراده ومؤسساته أهمية الدراسات الاجتماعية، وتعتمد لها الميزانيات الضخمة، في حين أنّ الدول النامية لا تقدر قيمة الأبحاث، بل كثيراً ما يكون مصير هذه الأبحاث الأدراج أو سلة المهملات، ولا يُستفاد من الأبحاث التي تتم في أقسام الدراسات الاجتماعية. مجال للإبداع ويتفق "الشقير" مع مَن يرى أنّ جميع العلوم والفنون والآداب مجال خصب للإبداع، وإذا استطاع الشخص اكتشاف نفسه أولاً، والتخلص من سيطرة الأفكار التقليدية والانصهار في الآخرين؛ سوف يأتي الإبداع من نفسه، ولا يحتاج إلى اكتشاف. ويرى "د.الضحيان" أنّ العلوم الإنسانية أخصب مجال للإبداع، ففهم السلوك، والمهارات والاعتقاد والاتجاه والرأي؛ يُمثل رؤية علمية للتعامل من الإنسان فكيف نتعامل معه، ونخطط له، وكيف نطوره، كلها أمور لا تتحقق إلا بفهم الإنسان، وهذا لن يتحقق إلا بالبحوث والدراسات المنهجية العلمية وليس عن طريق الاستنساخ. الشخصية السعودية وعن غياب الشخصية السعودية عن الدراسات والبحوث الأكاديمية، أوضحت "د.الخطيب" أنّها لم تغبْ، وهناك بعض الدراسات عن الشخصية السعودية في قسم علم النفس والإعلام، والدراسات الاجتماعية، لكن مازالت محدودة جداً، وهناك حاجة للعديد من الدراسات المتعمقة في الشخصية السعودية والتغيرات التي طرأت عليها. ولا يتفق "الشقير" مع تعميم هذا الرأي، مؤكداً على أنّ الشخصية السعودية تحضر بقوة في بعض التخصصات العلمية، ويبهت أو يضعف حضورها في تخصصات أخرى، أما إذا كان القصد العلوم الإنسانية، فإنّ مناخ البحث في المجتمع السعودي ما زال يهتم بنفسه ولا يهتم بالمجتمعات الأخرى، ولو اتجهت الجامعات السعودية لتقديم منح كبيرة لطلاب وطالبات الدراسات العليا في قسمي التاريخ، والاجتماع مثلاً لدراسة تاريخ وتحولات المجتمعات الأخرى في جميع القارات، من خلال دراسات ميدانية، تتيح لهم الاحتكاك المباشر بالمؤسسات الأكاديمية، وبالباحثين، لأوجدنا آلاف الموضوعات الجديدة، ولتوفرت لنا مادة علمية ضخمة سوف تستفيد منها كثير من المؤسسات الحكومية، وبالتالي سوف تحضر الشخصية السعودية بطريقة تلقائية. بينما يرى "د.الضحيان" أنّ بعض المشرفين يطلب من الباحث تناول نفس موضوعات رسائلهم الماجستير أو الدكتوراه، ولأنّ بعضهم غير سعودي؛ جاءت تلك البحوث وحتى وقت قصير تنقل ثقافة عربية،كما أن اعتقاد الطلاب أن استنساخ رسائل من دول أخرى سوف يبعد الريبة في رسائلهم. التحولات الاجتماعية وعن مدى رصد هذه الدراسات للتحولات الاجتماعية المحلية، أشارت "د.الخطيب" إلى وجود بعض الدراسات الاجتماعية التي قام بها بعض المختصين، والتي حاولت رصد التحولات الاجتماعية التي يعيشها المجتمع السعودي، وهناك كراسي البحث العلمي مثل كرسي الأميرة صيتة بنت عبد العزيز لأبحاث الأسرة، ولكن مازالت هذه الدراسات محدودة في موضوعاتها وفي مدى الاستفادة منها، مشيرةً إلى أنّ مجتمعنا أرض خصبة مليئة بالموضوعات، لكن ينقصنا الرغبة في البحث والابتكار، والجرأة في الطرح والحوار، والإيمان بأهمية البحث العلمي كمصدر أول للمعرفة. مئات الدراسات وأرجع "الشقير" ذلك إلى عدم توفر إحصائية لديه بهذا الخصوص، مؤكداً على وجود مئات الدراسات التاريخية والاجتماعية والاقتصادية التي ترصد تحولات المجتمع السعودي، ولكن نظراً لأن العملية البحثية مستمرة، فإنّه من الصعب قياس مدى الرصد، إنّ تغير المجتمع العالمي الآن أوجد معه قيما كونية بازغة، مثل الاستهلاك العالي، والحفاظ على البيئة، وقبول الآخر، وزيادة دور المرأة، وتمكين الشباب، وحقوق الإنسان، والهوية الذاتية، ورؤية العالم وغيرها كثير، وبالتالي فإنّ هذه الموضوعات يفترض أن تكون حاضرة في الدراسات الاجتماعية والتاريخية السعودية، ومتواكبة مع التغيرات الكونية. أما "د.الضحيان" فيقول: "للأسف أنّ كثير من الظواهر لم ترصد مثل ظاهرة التطرف، الأمراض الجنسية، إدمان النساء، الإرهاب، ويعود ذلك إلى أنّ كثيرا من تلك المواضيع؛ تتطلب وقتاً طويلاً وهذا أمر لا يحبذه الباحثون، بعض الجهات ذات العلاقة لا تسمح بدراسة تلك الظواهر، قدرات أكثر الباحثين لا تحقق متطلبات دراسة تلك الظواهر، ضعف التمويل المالي للبحوث وما يقدم إلا كمن ينثر الرماد في العيون". احتياجات المؤسسات وعن مدى تحقق الاستفادة سواء أفرادا أو جهات من الدراسات (ماجستير، دكتوراه) أشارت "د.الخطيب" إلى عدم الاستفادة، قائلةً: "لا أعتقد أنّ وضع الدراسات الحالي يحقق هذه الاستفادة؛ لعدم وجود تنسيق بين احتياجات المؤسسات والجامعات، فالطلبة يبحثون في جهة، والمؤسسات تستعين بمؤسسات خارجية للقيام بأبحاث لها في جهة أخرى، وكان من الممكن للمؤسسات الاستفادة من جهد طلبة الماجستير والدكتوراه في دراسة المشكلات التي يرغبون دراستها، فتكون المنفعة مزدوجة للطرفين". أما "الشقير" فيرى أنّ الاستفادة تتوقف على نوع الدراسة، ومستوى الطرح فيها ومدى انتشارها فبعض الدراسات قد لا يستفيد منها إلا من كتبها فقط، وبعضها الآخر يبنى عليه قرار يعم نفعه البلد كله. الجودة العالية ويشير"د.الضحيان" إلى أنّه من الطبيعي أنّ الاستفادة لا تتحقق إلا إذا كان المنتج يتميز بجودة عالية، فإذا كان المنتج مجرد عملية استنساخ فسيكون العمل مكررا، مؤكداً على أنّ النهوض بمستوى البحوث من الأفضل انطلاقه من مراحل التعليم العام والتعليم الجامعي وبرامج الدراسات العليا، قائلاً: "إنّ المشكلة تكمن في كيف سنطور ذلك، والقائمين على تلك البرامج هم بحاجة إلى التطوير، وكيف سنتخلص من التركة الثقيلة من القائمين على تلك البرامج، مع الأخذ بالاعتبار أنّ برامج الدراسات العليا هي تكميل لبرامج تعليمية سابقة". وأضاف: لذا فإنّ العمل من الأفضل أن يتم في نفس الوقت لجميع تلك البرامج من خلال تطوير مناهج التعليم في جميع البرامج ضمن تخطيط استراتيجي يشترك فيه جميع مسؤولي تلك البرامج، وإعادة تأهيل منسوبي تلك البرامج، وتقييم كل مراحل البرامج بتقييم مؤسسي خارجي، إحداث التغيرات التي يتطلبها التخطيط الاستراتيجي، والاستعانة بخبرات أكاديمية غربية تمكننا من رسم خارطة لطريق التصحيح بالتعاون مع قدرات وطنية لا تهدف لتحقيق الرضا للآخرين بقدر ما هو نشر الواقع بشفافية.