من الصعب للمرء ان لا يلاحظ "الشرق" و"الغرب" في برلين بعد سنوات القطيعة الطويلة. فريفا الشطرين طوّرا، مثلاً، لهجتين تختلف واحدتهما قليلاً عن الاخرى. وهناك الآن كلمات بالألمانية "الشرقية" تغاير التي بالالمانية "الغربية"، والعكس بالعكس. وكلما توغلتَ في الشرق او في الغرب بعيدا عن برلين، زاد عدد المفردات "الخاصة" بأحد شطري البلاد. هذا قد يكون تفصيلاً، الا أنه تفصيل يشي بمدى الافتراق في جوانب بعينها. فمن سمات الخلاف التي تدهم البصر أن الشرق، ولنستخدم الاصطلاح الأسهل والأقل دقةً، مولع بالضخامة. يكفي للاستدلال على الولع ذاك التجول في محطة الكسندر بلاتز النُصبية التي جعلها دوبلن عنواناً لرواية، ثم صوّرها فاسبندر فيلماً مسلسلاً للتلفزيون. أو ربما الوقوف في آلي أوتوستراد كارل ماركس العريض والطويل المزروع بناياتٍ صلبة هُدم الكثير منها، بعد التوحيد، لتنهض في مكانها ابنية اخرى. ومن سمات "شرقية" برلينالشرقية أن فضاءها يؤثر التاريخ، بقلاعه وقصوره ومتاحفه، على بهرجة الرأسمالية وبضائعها وأشيائها الصغرى. أما برلين الغربية التي بالكاد تقع فيها على نصب، فربما كان أهم ما فيها شارع كودام ستراسا، الثري والأنيق الذي يعرض سلع العالم ويستعرضها، تحت اشراف بناية مرسيديس بنز وماركتها الدوّارة فوق سطح المبنى. "الرأسمالية وهي تثأر" والحال ان الشرقية، النازية ثم الشيوعية من دون ان تتأمرك او تتعرّض لجنود الحلفاء ابان الحرب الباردة، تمارس بعض صدمة العفّة حيال البضائع والعروض والاعلانات والأضواء. وأمام تعمير الوسط، اي بوتسدامر بلاتز، على الاراضي القاحلة سابقا التي كان يفصل بين جزئيها الجدار، بتنا حيال رقعة مشهدية ومدينية تتفاوت بين مانهاتن النيويوركية ودوك لاندز اللندنية. وهنا يبدو كأن الخجل هو ما يجتاح بعض الشرقيين: فالأخيرون وإن عُرفوا بمحاولات تباهٍ في التاريخ، عُرفوا أيضاً بالورع البروتستانتي في لحظات سعيهم وراء الربح. وفي الاحوال كافة يبقى من الصعب على من عاش قرابة نصف قرن في ظل اولبريخت وهونيكر، ان يهضم دفعة واحدة كل هذا: سوني، مرسيديس بنز، فندق هايات... اشارات، انوار، اضاءات، مبان، دعايات واعلانات. انها "الرأسمالية وهي تثأر"، بحسب بيان سبق ان وزّعه تنظيم يساري صغير في الشرقية. والشرق البطيء الآتي من الشيوعية ورعاية الدولة، يخاف التجارب والخطو في المجهول. وهذا، بالضبط، ما يخشاه بعض برلينالشرقية الاكبر سناً والذي ينظر بريبة الى تحدي الرأسمالية ونمط حياتها الاستعراضي الباهر، مثلما يلوذ بالتوجّس حيال اوروبا ومشروعها الوحدوي. ومن دون ان تكون الفاشية خجولة، الا أنها قابلةٌ ان تصرّف خجل الخجولين فتعبّر عن داخليتهم بصوت صاخب. وفي المعنى هذا تتناسل تنظيمات الشبان العاطلين عن العمل وكتاباتهم، ناقلةً أزمتهم المعيشية وعداءهم للرأسمالية، فكأننا حيال حلف بين المُسنّين والصغار المفقرين. والى اليهود، الأعداء الدائمين لهذا الحلف بغض النظر عما يفعلون او لا يفعلون، يعيش العمال الذين هاجروا الى شرق برلين، من فييتناميين وموزامبيقيين وأنغوليين، في عزلة وتوجّس وقلة ترحيب. لكننا نظلم الشرقية اذ نحملها على الشرق بهذا المعنى الآحادي. فهي تضج اليوم بالحياة اكثر من الغربية، وشبيبتها هم ملوك الليل البرليني، كما لو أن كبتاً تعبيرياً مديداً انفجر بين أيديهم وعبر أجسامهم. وهذا ما يجسّده خصوصاً الحي اليهودي القديم حيث عاش الموسيقار شونبرغ: فهناك حُوّلت أماكن متداعية وبيوت قديمة بعضها ستاليني المعمار، الى مشاغل طليعية وغاليريات تزدان أبوابها وحيطانها بشتى الرسوم والكتابات الجدرانية، فكان هذا اعادة استخدام بديع لسلعة كانت غدت من سقط المتاع. ولا يفوت الناظرَ تأثّرٌ ملحوظ بتجارب طليعية في لندن، أضاف اليها البرلينيون لمستهم في التداعي والتفسّخ أسبغهما شبان استولوا على ابنية وامكنة ضائعة المُلكية ليمارسوا فيها ابداعهم ومحاولات لهم في التجريب. لكن مع ان برلينالشرقية احتفظت، بعد التوحيد، بأسماء شوارع روزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنخت، فضلاً عن كارل ماركس، الا ان الايديولوجيات الكبرى آخر هموم تلك الشبيبة التي تحتل، ببطء، موقعها وسط شبيبة الغرب بالمعنى العريض للكلمة. فاذا بدت بهجة الغربية ساكنة وعادية ورصينة كأنها عادة مستقرة، بدت مِتَع الشطر الآخر مندفعة ومفاجئة ووحشية، تريد ان تكتشف وتؤسس فيما هي تتأسس. أما بوتسدامر بلاتز التي تضجّ ليلاً، فتقدّم الشرقية لا في حلّة القصور والقلاع، بل في ثوب العمارة وطُرزها الأحدث والأشد "أمركة" التي أمكن اتمامها قبل ان يتوقف المشروع. وهذا، بدوره، استولى على بعض ميزات الاستهلاك والترفيه الشبابيين التي كان يحتكرها الجزء الغربي قبلاً، لا سيما بسبب سينمات الوسط التجاري ومسارحه ومقاهيه، فضلاً عن مباني "كولتر فوروم" المنتدى الثقافي القريبة من بوستدامر بلاتز، والتي وحّدت الحكومة فيها عدة متاحف ومؤسسات متحفية رسمية. وهذا، بطبيعة الحال، لم يقدّم حتى الآن اجابة مُطمْئنة عن مستقبل الوسط: فهل أن ضجيج ليله الراهن مجرد احتفال صاخب بالمولود الجديد سوف يخفت تدريجاً، ام ان مشروعاً كهذا قابل لأن يبقى طويلاً مكاناً للاجتماع الليلي، مع انه مكاتب ينتهي عملها بانتهاء النهار؟ تجربة التدخل في كوسوفو وبين من يتحدثون عن "تغرّب" الشرقية مع الزمن، مَن يشير الى الفرص المفتوحة امامها تبعاً لأسعار عقاراتها وملكياتها المتدنية قياساً بالغربية. وهذا ما يُعوّل عليه بعضُ التعويض عن تصفية معظم مشاريعها الصناعية الكبرى، خصوصا تلك المتخصصة في الهندسة الكهربائية والهندسة الميكرو، او بيعها وخصخصتها. ولأن "الشرق" لم يعد شرقاً بالمطلق، ولا عاد "الغرب" ايضاً غرباً بالمطلق، تتكشّف ملامح تماثُل على اصعدة عدة. فحال العمالة التركية في الشطر الغربي، يضع السلوك الشرقي حيال الافارقة والآسيويين في نصاب الماني واحد. والتواطؤ مشترك حول عدم المراجعة التاريخية. ذاك ان الشطر الشرقي تنصّل من الماضي النازي بذريعة انه مناهض للفاشية، كما تنصل الشطر الغربي من خلال تعميق انتسابه الى الناتو والسوق الاوروبية. وفي الخمسينات فقط بدأت تظهر اصوات قليلة بين المثقفين تحذّر من التصرّف "كأننا عاديون وأبرياء". ولم تصبح مواجهة الماضي النازي موضوعاً مركزياً للسياسة الألمانية الغربية الا بعد التحركات الطلابية، اواخر الستينات. وظل كثيرون يقولون ان عضوية الغربية في حلف الاطلسي وفي المشروع الاوروبي استئناف ل"الهرب" من الماضي ومواجهته. لكن مع اعادة التوحيد في 1990، والتي استردّت لالمانيا سيادة سياسية وترابية كاملة، احرزت المناقشة اهمية ابعد كانت برلين رمزا لها وتعبيرا عنها. وبدورهم فجيران المانيا غدوا اشد اكتراثا، إن لم يكن قلقاً، لمعرفة ما الذي يدور في رؤوس الالمان الواقعين في قلب اوروبا، وكيف ينظرون الى انفسهم وادوارهم. وفي السياق هذا ظهرت وتطورت نظرية الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران القائلة بدمج المانيا في اوروبا، لاستيعاب ما يمكن ان يصير فلتاناً ألمانياً من دون الكابح القارّي. وثمة من يرى اليوم علامات تعافٍ استُدلّ عليها في المشاركة بحرب كوسوفو، اذ من دون ادارة الظهر للتاريخ حل شعار "لا للمجازر بعد الآن" محل "لا للحروب بعد الآن". وفعلا خاضت المانيا الحرب، للمرة الاولى منذ نصف قرن، وشاركت قواتها المسلحة في حملة الناتو مساهِمةً، على نحو اثار استغراب معظم المراقبين، بالجهود البرية والبحرية والجوية. مع هذا بقي الدور الالماني ضئيلا نسبياً، تبعا لتفصيل ليس قليل الاهمية: ذاك ان معظم الجيش الالماني لا يزال من المتطوعين، والمتطوعون ممنوع ارسالهم الى جبهات حربية، ما ابقى عدد الجنود المتوجّهين الى كوسوفو قليلاً في النهاية. غير ان السرعة التي توصّلت فيها البلاد الى هذا الموقف الأكثري كان الأهم، خصوصاً ان العملية في كوسوفو لم تحظ بتغطية مجلس الامن، فيما الأمة الصربية التي استهدفها التدخل كانت احدى اشهر الأمم في التصدي للنازية خلال الحرب العالمية الثانية. واذا صح ان هذا السلوك ينم عن بدايات تعافٍ من التاريخ ودخول في العادية، فالواضح انه ليس نسياناً للماضي: انه، بحسب المتفائلين به، تحويل في عملية التذكّر بحيث تصير اكثر غائيةً، اي اكثر انشداداً الى المستقبل واستجابة لمتطلباته. فمن شروط الوصول الى موقع صحي على هذه الجبهة تجنب النسيان وتجنب الإثقال بالذنب في وقت واحد، على ما يفعل غلاة المذكّرين بالمحرقة والمتشددين في المحاسبة. الجنسية والكوزموبوليتية وكائناً ما كان الحال فهذه المدينة القديمة - الجديدة ستواجهها أسئلة واحدة في طريق تحوّلها عاصمةً ألمانية وأوروبية: فبرلين كلها، بشرقها وغربها، معنيةٌ بالمستقبل الذي سترسو عليه اوروبا الوسطى والشرقية التي ستكون هي همزة الوصل بينها وبين اوروبا الغربية. ومع ان دور بولندا الآن يعد باحتمالات مشرقة، يبقى ان المطلوب احراز قفزات تجعل الالمان يتوقّعون تبادلاً اغنى من مجرد التعرض لهجرة قليلة المهارة. وفي برلين الآن 140 الف تركي واكثر من 100 الف روسي واعداد بولندية يصعب احصاؤها نظراً لكثرة الدخول والخروج من بولندا الى المانيا والعكس. لكن هذا، في وجهه الآخر، يكسر محلية برلين ويعزز طابعها التعددي النامي. فاذا كان يصعب على عاصمة ما ان تغدو عالمية في زمننا إن لم تحرز هذا الطابع، بقي ان الصفر الآسيويين لا زالوا قليلين جداً في العاصمة الالمانية، ومثلهم السود، مع ان كثيرين منهم باتوا مؤخراً ينتقلون اليها من فرنسا، مستفيدين من ضعف الاجراءات الحدودية بين بلد اوروبي وآخر. والواقع ان هذه الوجهة تجد ما يعززها في التحولات التي طالت التجنيس ومفهوم المواطنة. فحتى العام هذا احتفظت المانيا بأحد أردأ قوانين الجنسية في العالم، اذ ظل يستند الى مرسوم مَلَكي صدر في 1913 يؤكد على اولوية المتحد على مكان الولادة. بيد انه، وبعد نقاش حار ومديد هدد الادارة الاشتراكية الديموقراطية، وافق البرلمان على مبدأ الانتقال الى مجتمع تعددي، ومرّر اصلاحات سوف تسهّل على السبعة ملايين اجنبي في البلاد الحصول على جوازات سفر. فالقانون الجديد يخفض مدة الاقامة المطلوبة، من 15 سنة الى 8، الا ان تغييره الأهم هو في الموافقة على مبدأ الجنسية المزدوجة للاطفال "الاجانب" المولودين في المانيا شرط ان يكون احد الابوين عاش في البلاد 8 سنوات. وحين يبلغ هؤلاء ال23 يصير لزاماً عليهم ان يقرروا اي جواز يحتفظون به. لكن كيما تصبح برلين كوزموبوليتية، لا بد لها من مصالحة اكبر مع اللغة الانكليزية التي تنتشر ببطء، لا سيما عبر التلفزيون، غير ان اجادتها لا تزال محدودة جدا، لا سيما في الشرق. وبالطبع لا بد من استدخال وهضم المستجدّات الطارئة أكان في مجال الجنسية وقوانينها أم في مجالات العمالة وصورة العالم المتداخل والمتشابك على نحو لا سابق له. مؤهّلات العاصمة ونواقصها لقد اعيد دمج المؤسسات العلمية التي في الشرقية في مؤسسات الغربية وأعيد تأهيلها، وتم توحيد الميراثين الفنيين الضخمين اللذين انقسما بعد التجزئة. مع هذا تئن العاصمة الفقيرة تحت وطأة ضعف البحوث بسبب الافتقار الى المال وقلة الدعم الرسمي الذي تحظى به الجامعات. وقد تكفي الاشارة الى ان برلين حضنت، في العشرينات، 1000 دار نشر، وكان ربع مجموع المطبوعات في المانيا يصدر عنها. والآن هناك اقل من 200 دار معظمها صغير. فهي، منذ 1993، وبسبب تعاظم السكان والمهاجرين والبيروقراطيين في ظل توقف الدعم الرسمي، الافقر بين الولايات الفيديرالية ال16 للبلاد، فيما لا تزال فرص العمل التي تتقلص تنوف عن التي يتم خلقها. اما الخدمات المصرفية وشركات التأمين فأضعف فيها من هامبورغ وميونيخ وفرانكفورت حيث مقر البنك المركزي الاوروبي. لكن برلين، في المقابل، مهمة جدا في التقنية الرفيعة وفيها الآن 50 الف عالم يتوزعون على 250 مؤسسة أبحاث، وهم الذين يُعوّل عليهم احداث قفزات اقتصادية هائلة وتوسيع فرص العمالة نوعياً. وتبقى بيضة القبّان، في النهاية، مدى نجاح الوسط الذي سيقرر الكثير في ما خص العاصمة ومستقبلها، هو الذي بلغت كلفة اعادة تعميره 25 بليون دولار حتى الآن. ومع الوسط تنفجر مجدداً مسألة التاريخ التي يعيد التذكير بها توحيد المدينة عن طريق البناء، انطلاقا من مكان تصدّعها. ولئن رأى الطليعيون من مهندسي العمارة ان في الامكان ابتكار معمار يجعل الحكومة والقرار مُستَوعَبين في حياة المدينة، يسجّل آخرون صعوبة التجريب في البناء من دون ترك بصمة من التاريخ الألماني، وأحياناً من الذنب الألماني، على المبنى. ووسط هذا كله يتخوّف بعض النقاد من صعوبة النفاذ الى الاوروبية والعالمية فيما المدينة مهجوسة بالمانيتها، ومن صعوبة انتقالها الى المستقبل وهي مسكونة بالماضي. وربما كانت برلين تنصت بصمت وتوجس الى تحذير غونتر غراس، روائي المانيا الذي نال آخر جوائز نوبل للآداب: "لدى الألمان عادة سيئة هي أنهم يرمون التاريخ وراءهم، ولكنْ بعد مرور زمن معين على الأحداث التاريخية، يعود التاريخ ويكرر نفسه".