سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
في 3 آذار مارس 1924 طوى المجلس الوطني الكبير التركي الخلافة الإسلامية العثمانية ... فلم تبعث من جديد . ولادة تركيا أمة - دولة ، وشعباً سياسياً ، على أنقاض سلطنة فتوح آفلة
مساء الهجوم الجوي الأميركي الأول على قوات طالبان و"القاعدة" بأفغانستان، في 7 تشرين الأول اكتوبر 2001، أذاع بن لادن خطبة مصورة قال فيها ان "غزوتي" نيويورك وواشنطن تاريخ فاصل في تقهقر المسلمين منذ ثمانين عاماً. واستوقف الرقم المعلقين والمستمعين. فهو يؤرخ لطي صفحة الخلافة الاسلامية العثمانية عن يد مصطفى كمال أتاتورك لاحقاً، في 1924، أي قبل تمام العقود الثمانية بعامين وخمسة أشهر تقريباً. وهو ينصب إلغاء الخلافة، هيئة سياسية ودينية فارقة في تاريخ المسلمين، وعلامة على انقطاع المسلمين من تراثهم الخاص والعريق، وتنكرهم لهذا التراث الديني والحضاري والسياسي معاً. وإذا كان توسل بن لادن، بعد أقل من شهر من فعلته المدوية، بالجمع بين هذه الفعلة وبين صورة الخلافة الإسلامية، عميق الدلالة على المثال التاريخي الذي تصدر عنه حركات الإسلام السياسي المعاصرة، ويغذي عنفها وتشددها ولحمتها، فاتخاذ الخلافة مثالاً ماضياً، وبرنامجاً سياسياً معاصراً وآتياً، ليس بالأمر الجديد أو المبتكر. فبعث الخلافة رافق حركات "الإحياء" الاسلامية مثل ظلها، أعلنت الأمر وجهرت به، مثل "حزب التحرير الإسلامي"، أم أضمرته وجعلته نصب عينها وقبلة سعيها، مثل "جمعية الإخوان المسلمين". ولعل نشأة هذه بمصر، أربعة أعوام أو خمسة 1928 أو 1929 غداة تخفف الرئيس التركي من "رسم" الخلافة العثمانية و"عبئها" على الدولة - الأمة التركية الناشئة، لم تكن اتفاقاً ومصادفة. فمنذ إلغاء الخلافة يلح بعثها وإحياؤها على الحركات الإسلامية السياسية، العربية أو "الهندية" الباكستانية بعد 1947. وروح الله خميني، بدوره، رأى في طي الخلافة سعياً غربياً، استعمارياً و"مستكبراً"، في كسرِاً قوة المسلمين، وخروجاً على "الحاكمية" في الأرض وهذه تحدرت اليه من طريق فقيه "هندي"، هو المودودي الباكستاني، وآخر مصري، هو سيد قطب. وتلقبه ب"ولي أمر المسلمين" في الأعوام الأولى غداة ثورته وقيام الإيرانيين على الشاه بينما كانت الحرب على العراق مستعرة، وإرادته الولاية على الحج، والوصاية على القدس وفلسطين، وتوكيله خليفته الأول، حسين منتظري رعاية "مكتب حركات التحرر في العالم" بجوار إيران الآسيوي خصوصاً - نهض هذا كله قرينة على رغبة عظيمة في الخلافة على المسلمين. ولم يبق بعض "المدنيين" أو "العلمانيين"، على ما لا تصح تسميتهم في مجتمعات المسلمين، بمنأى من الحاح الخلافة. فذهب محمد حسنين هيكل، الصحافي و"حميم" جمال عبدالناصر، غير مرة الى أن غلط السياسة التركية الفادح هو تخليها عن الخلافة، ونزولها عنها، وخسارتها تالياً نفوذاً عريضاً في "الدائرة" الاسلامية. ومبنى مقالة الصحافي و"الاستراتيجي" المصري على موازين القوى، ومواردها من الأرض والموقع والعدد والتعبئة والتكاتف والمقاومة... والدولة "الحديثة" جاءت مجيء الهيئة الساعية في نقض الدين، واخراجه من تعريف الجماعة الوطنية أو القومية نفسها تعريفاً منفصلاً ومستقلاً بواسطة الدولة، وهيئاتها وتاريخها وشعبها. فتصورت هذه الدولة في صورة المضي على العدوان الأوروبي، السياسي والعسكري والاقتصادي و"الثقافي"، على بلاد المسلمين. وتصور تنطح الدولة والمجتمع من ورائها الى التشريع، وسن القوانين في دوائر المعاملات والأحوال الشخصية والجزاء والاعتقاد الرأي من غير استثناء، في صورة "الجاهلية"، وعبادة "الأوثان" المعنوية التي يصنعها الناس بأيديهم، واتخاذها آلهة، على قول سيد قطب وأهل التكفير والجهاديين. فجُمعت المنازع هذه كلها، الغرب والمسيحية واليهودية والعلمانية والعالمانية والإلحاد والتاريخانية والعلمية والشعبوية والدولة الوطنية، في منزع واحد تعريفه الجامع والمانع، الى حداثته، حربه على "الإسلام" ومعتقده وحضارته ورسومه أو تقاليده. "كتلة" الدولة الوطنية "الواحدة" والحق أن مصطفى كمال وهو لم يصبح "أتاتورك"، الوالد أو الأب التركي، إلا في أواخر 1934 لم يأل جهداً في صبغ مبادراته وأفعاله بهذه الصبغة، على رغم "اقتصار" سعيه على إخراج الدولة والسياسة من دائرة الدين وعلمائه واجتماعه، على قول مشايعيه. فهو قبل إعلانه إلغاء الخلافة رسمياً، واقتراع المجلس الوطني الكبير بأنقرة، في 3 آذار مارس 1924، على خلع الخليفة وإلغاء الخلافة ونفي من بقي من آل عثمان الأسرة الحاكمة منذ القرن الرابع عشر الميلادي من الأراضي التركية، ثم ترحيل آخر الخلفاء، عبدالمجيد، بقطار الشرق السريع من محطة حديد بضاحية اسطنبول - أشاع، منذ تشرين الثاني نوفمبر 1923، عزمه على الإلغاء. وشفعت مناقشات المجلس الوطني الكبير، طوال ثلاثة أيام، قرار الإلغاء ومهدت له بقوانين أراد المجلس بها حماية الجمهورية وهي كانت أعلنت من قبل وفصلت عن الخلافة وترسيخ استقرارها. فأنشأ نظاماً تربوياً موحداً في عهدة وزارة تعليم وتربية ومعارف "وطنية". وأخذ المجلس على عاتقه "تنقية الإيمان الإسلامي من التوسل السياسي به". فرُبط الإلغاء بالأوقاف والتربية وإدارتهما، وهما ركن مكانة العلماء وسلكهم في السلطنة. ورُبط كذلك بمنصب شيخ الإسلام قاضي القضاة أو مفتي المفتين، ووزارة الشريعة والتعليم الديني والشرعي والمحاكم الشرعية. ولما نقل المجلس الوطني الكبير، في 20 آذار، السلطة الاشتراعية، أصلاً دستورياً وليس أمراً واقعاً وحسب، إليه هو، وأوكل الى المحاكم المدنية نطق أحكامها "باسم الأمة"، جمعت الإجراءات بين الخلافة اللاغية وبين بنيان متماسك وقوي من الهيئات والمؤسسات والمناهج الدينية والاجتماعية. وما قصدت الاجراءات المتماسكة والمجتمعة الى قوله، والتنبيه عليه، هو أن الدولة التركية الناشئة "كتلة واحدة" على قول كليمنصو في الثورة الفرنسية "الكبيرة"، على نحو ما كانت الخلافة كتلة واحدة. ويفترض انسلاخ الدولة التركية، وهي دولة الأمة التركية، عن الخلافة العثمانية الإسلامية، تقويض البنيان الحقوقي والسياسي، وجزءٍ من البنيان الاجتماعي الذي استقرت عليه السلطنة، والخلافة رايتها، في أثناء القرون الأربعة. وبديهة ألا يلقى الانسلاخ عن الخلافة، وتقويض البنيان الموروث عنها، وهو بنيان لابس مجتمع السلطنة كله، قبول "الأتراك" جميعاً. وهم فيهم من ليسوا تركاً، قوماً وعرقاً، ويمتون الى الدولة التركية برابطة المواطنية المبتدئة والحابية خطواتها الأولى والضعيفة. ولم يبادر مصطفى كمال الى "إصلاح" الدولة، وإرسائها على ركن سياسي وقومي مستقل عن تاريخ تركيا الإسلامي وقائم بنفسه، إلا في ختام حوادث وأطوار سعى فيها، وكانت له اليد الطولى في حدوثها. فهو حرص على الخطو تدريجاً الى الاصلاح. ومفتاحه، ولبنته الأولى، ما سماه "المبدأ الشعبي" أو "الأصل الشعبي" للدستور. فنص القانون الأساسي، في تشرين الثاني 1921، يوم كانت اسطنبول تحت الاحتلال الأجنبي البريطاني والإيطالي ولم تُحسم المسألة اليونانية بعد ولا المسألة الروسية، على أن الشعب التركي هو مصدر السلطات و"صاحبها"، على خلاف السلطنة العثمانية المتحدرة من الإسلام والفتوح. ونسب القانون الأساسي السلطتين التشريعية والتنفيذية الى المجلس الوطني الكبير المنعقد بأنقرة، والمتحدر من حرب تحرير تركيا من احتلال الحلفاء. ونسب المجلس الى نفسه وحده تمثيل الشعب التركي. ولكن المجلس، وكان نفوذ الأعيان والعلماء فيه قوياً، أبقى على ثنائية السلطنة الخلافة والجمهورية، على مثال العاصمتين: واحدة باسطنبول وأخرى بأنقرة. وكان بعض أقرب أعوان مصطفى كمال، وفيهم ثلاثة جنرالات استقالوا انكاراً لإلغاء الخلافة حين ألغيت هم علي فؤاد ورفعت وكاظم قره بكر، يتخوفون "فراغ" السلطة الجمهورية العلمانية وهزالها إذا هي تخلت عن "شرف" الخلافة ودالتها وهالتها. والأرجح على الظن أن كمال كان يميل الى الجمع، موقتاً، بين "الدولتين" أو البنيانين. ولكن الحلفاء حين أرادوا دعوة تركيا الى مؤتمر مدينة لوزان، في نهاية عام 1922، وهو عام الانتصارات التركية بقيادة كمال ولفيف جنرالاته على الحلفاء بريطانياوفرنسا وإيطاليا واليونان، وتصحيح الإجحاف القاسي الذي أنزلته معاهدة سيفر 1920 بتركيا، لم يدعوا أنقرة الكمالية وحدها، بل دعوا كذلك عاصمة الخلافة، اسطنبول، المستكينة هي وطاقمها الحاكم الى الاحتلال وقواته وشروطه. وتهددت الدعوتان وحدة السياسة التركية، ووحدة الدولة. فعمد كمال الى فصل الدولة السياسية والوطنية عن الخلافة. وأبقى على هذه، شريطة أن "تعلو" السياسة، وتعتزلها، ويكف "الباديشاه" السلطان - الخليفة يده عن التدخل فيها. وأشعل الإجراء مناقشات حادة وخلافات في المجلس الوطني. واضطر كمال الى الحسم على وجهين: في المضمون، توسل بحجج قاسية وقاطعة، وذهب الى ان السيادة في الدولة، والسلطة على المجتمع، إنما مصدرهما القوة والقدرة والإكراه، ولا شأن للدين وللإيمان في هذه وتردد صدى هذا الاحتجاج في رسالة علي عبدالرازق "الاسلام وأصول الحكم" في 1925، وترتب عليه عزل الشيخ واعتكافه، والأمة التركية استولت على السيادة والسلطة في حربها على الدول المحتلة الكبيرة شرقاً روسيا السوفياتية وغرباً اليونان وحلفاؤها، وبعض من حاربتهم كان حليفاً للدول المحتلة ومسلماً، وهو يريد الهنود "البريطانيين" والعرب من حلفاء بريطانيا والمغاربة من حلفاء فرنسا" وفي الشكل، حرض النواب الكماليون على الاقتراع بالإجماع، وأحرجوا خالفيهم، وأغرقوا أصواتهم واحتجاجهم بالضجيج والزعيق. ولكن كمال التزم في انتصاره حداً لم يتعدَّه. فلم يحمل المجلس على الاقتراع على إلغاء الخلافة فوراً، في اليوم الأخير من تشرين الأول اكتوبر 1922. فقصر انتصاره على إقرار الخلافة في آل عثمان، وجعل اختيار الخليفة بيد المجلس الوطني الكبير. فهرب الخليفة "الشرعي" بحسب قانون الوراثة السابق وحيد الدين. فانتخب المجلس ابن عمه، عبدالمجيد، خلفاً له. فنَصب المجلس خليفة برلمانياً، إذا جازت العبارة. وجمع كمال الى إجراء فصل الخلافة عن الدولة والسلطة جملةً، إجراءات مهدت الطريق الى إلغاء الخلافة، وأرست الفصل على أسس سياسية وحقوقية حصنت الدولة بإزاء الخلافة، أبقى المجلس، ومن ورائه كمال، على هذه أم تركها. فأعلن عزمه، في آخر أشهر 1922، على انشاء حزب الشعب خلفاً لجمعية الدفاع عن حقوق الأناضول والرومللي، وهو اسم المنظمة السياسية والعسكرية التي قادت حرب الاستقلال على جبهات الأناضول الجبلية والساحلية، وعلى جبهة تراقيا الشرقية، بين 1918 و1922. وصدَّق المجلس، في آب كذلك، معاهدة لوزان، وهي ثمرة انتصارات كمال وأصحابه العسكرية والسياسية الوطنية، وردت الى تركيا أجزاءها التي انتزعتها منها المعاهدة الأولى قبل ثلاثة أعوام، وأقرتها في حدودها التاريخية "المصطنعة"، شأن مصدرها والحدود التي يورثها. والجمع بين ترئيس كمال على الدولة وبين تصديق المعاهدة التي ردت الى الأتراك وحدة أراضيهم وعزتهم علامة على إرادة كمال صرفَ أفعاله، وأفعال أصحابه، الى ترسيخ البنيان السياسي والوطني التركي، واستثمار الأمجاد والبطولات الفردية في تقوية أركان البنيان هذا. وغداة التصديق بأقل من شهرين، جلت القوات الحليفة عن أسطنبول. وبعد أسبوع واحد من جلائها، أعلن المجلس أنقرة، البلدة الأناضولية الضئيلة والريفية، عاصمة الدولة. فطوى الإعلان صفحة اسطنبول كرسي الخلافة، وعاصمة الفتح الذي نقل السلطنة الإسلامية الى الضفة الأوروبية. فجعلها تلابس تاريخ أوروبا البلقانية ملابسة دامية ومدمرة، عادت بالخسارة على تركيا وعلى بلدان البلقان جميعاً. وقد يكون دخول تركيا الاتحاد الأوروبي، إذا عقدت بلدانه الخمسة والعشرون العزم على استقبال الدولة المسلمة الوحيدة بين ظهرانيها، الجزاء البعيد وغير الخاسر لهذه الملابسة. ولا ريب في أن نقل العاصمة السياسية والإدارية الى قالب الوطن والشعب التركيين، كان الإيذان بانقلاب كمال على الخلافة، على ما جرى من بعد. الدائرة الرمزية وعلى رغم تمهيد كمال المحكم لإجرائه الانقلابي والثوري هذا، خلف الغاء الخلافة، وخلع الخليفة ونفيه، الى جملة الاجراءات الأخرى التي أقرها المجلس "كتلة واحدة" على ما تقدم القول، آثاراً عميقة ومتطاولة في الاجتماع التركي. ولم يكتم أنصار الدولة الدينية العثمانية، وفيهم مقربون الى كمال وبعض أنصاره وقادته العسكريين، خشيتهم على تماسك المجتمع والدولة التركيين جرّاء ترك الخلافة، وهي كانت في حسبانهم لحمتهما القوية، ومُسكتهما المتينة، وعلى مكانة تركيا في العالم الإسلامي وهي "حجة" هيكل التي مرت. وكان رد كمال ان من قاتلوا الخلافة العثمانية في الدردنيل 1915 وسورية وفلسطين 1917 - 1918 والعراق، وقاموا عليها، مسلمون وليسوا أجانب -. وجمع حزب الخلافة غير المعلن قوى التقليد والمحافظة وراء الخليفة عبدالمجيد. فمالوا اليه ومال اليهم. ولما طلب كمال الى الخليفة الاقتصار على دوره الرمزي والمعنوي، جاءه الرد من مسلمي الهند على شاكلة رسالة نشرتها صحف اسطنبول الثلاث في أواخر تشرين الثاني نوفمبر، ووقعها الآغاخان وأمير علي. ودعا الرجلان الى ارساء الخلافة على الثقة بين الأمم الإسلامية، واحترام بعضها بعضاً. وكانت الرسالة قرينة على قوة الروابط بين المحافظين الترك وبين أمثالهم في دول ومجتمعات اسلامية أخرى. فباسم الرابطة الدينية تجيز جماعات تقيم في بلدان ودول أخرى لنفسها إبداء الرأي في ما يصلح، أو لا يصلح للشعب التركي ولدولته. ولم تحل الرابطة نفسها بين بعض هذه الجماعات وبين قتال الأتراك المسلمين تحت ألوية دول عدوة. وحكت الرسالة الهندية جرحاً تركياً كان لا يزال مفتوحاً، وحركت أشجاناً حارقة. فالأتراك الذين اختبرتهم الحرب اختباراً قاسياً، خرجوا منه، وحدهم بين الشعوب والأمم الإسلامية وعلى خلافها جميعاً، شعباً مستقلاً ومتلاحماً، لا يتورع قادةُ مسلمينَ حاربوهم وقاتلوهم، عن نصحهم والإشارة عليهم بما يتوجب عليهم عمله، ويلزِمهم، إذا عملوه، الى أجيال آتية. فكانت الرسالة هذه من دواعي التعجيل في الغاء الخلافة. والإلغاء، على رغم استقوائه بحوادث ووقائع ومقومات كثيرة، لم يلغ العوامل التي كانت سند الخلافة وهيئاتها ومبانيها. فالعلماء والقضاء والمفتون والمدرسون وأئمة المساجد ونظار الأوقاف ومشايخ الطرق الصوفية وتكاياها وخانقاناتها، لم يكن في مستطاع الإصلاحات الحلول محلهم، والاضطلاع بوظائفهم وأدوارهم في القضاء والتدريس والرعاية والتكافل الاجتماعيين، وفي التحكيم، لا بين ليلة وضحاها، ولا بين عقد من السنين وعقد آخر يليه. فالعلماء، وفروعهم الكثيرة، كانوا يتمتعون بدالة وتماسك وعصبية أقدرتهم على الثبات بوجه النظام الجديد زمناً طويلاً. ولم يتأخر رد الجواب على الإلغاء. فجاء على صورة انتفاضة مسلحة، بعد أقل من عام على اقتراع المجلس الوطني الكبير. وجمعت حركة الشيخ سعيد الاحتجاج القومي الكردي الى الثورة الدينية الصوفية النقشبندية، والموقع الطرفي الولاياتالشرقية ثم الجنوب الشرقي، والتمرد الاجتماعي الفلاحي بقيادة الآغوات ومشايخ العائلات والعشائر. وتهددت الحركة الجمهورية الناشئة. فأقر المجلس الوطني سلطات استثنائية للحكومة سنتين، دامت الى 1929. فألفت الحكومة محاكم أمنية، سمتها محاكم الاستقلال، وخولتها انقاذ احكامها في الحال. كان كمال بعث أنصاراً له على انشاء حزب معارض لحزب الشعب الجمهوري، لاحقاً، يستقطبه التذمر، ويراقب الحكومة، ويسهم في التشريع، سماه أصحابه الحزبَ الجمهوري التقدمي. فحظرته الحكومة في منتصف 1925، وسحق الجيشُ الحركة، وقبض على الشيخ سعيد، و46 من أنصاره، وصدرت أحكام اعدام في حقهم بعد محاكمة صورية، ونفذت فيهم جميعاً في 29 حزيران يونيو 1925، وحظرت الطرق الصوفية، والتكايا والجمعيات والشعائر والأزياء. فكانت الحركة، ثم قمعها، إيذاناً بسلسلة جديدة من الاجراءات استكملت علمنة الدولة والمجتمع، و"تحديثهما" أو أوربتهما. فكمال كان على رأي مصطفى جودت 1914 ومذهبه الى ان المدنية أوروبية، ولا تمدين إلا بالتأورب. وتطاول ذلك الى غطاء الرأس الطربوش المغربي الفاسي الذي خلف العمامة في أواخر القرن التاسع عشر، والى اللباس. فوقعت اضطرابات بشرق البلاد، وانتشرت في المدن، أي حيث باشرت الحكومة حمل المواطنين على الحظر، من دون الأرياف. وفي كانون الأول ديسمبر 1926 ألغي العمل بالتقويم الهجري، وأُحل التقويم الغريغوري الميلادي محله. واضطرت المقاومة الأهلية كمال الى ارجاء حظر الحجاب وفرض سفور المرأة الى 1935، "من غير جدوى" على قول أحد المؤرخين. وحظر قانون الأحوال الشخصية الجديد على المثال السويسري، في أوائل 1926، تعدد الزوجات، والتطليق هجراً، وأجاز زواج المسلمة من غير المسلم، وتغيير المعتقد. وأوجب تسجيل الولادات والزيجات في السجلات المدنية، وألزم الآباء والأخوة الذكور إدخال النساء في المواريث وايتاءهن حصصهن منها. واستبقت الاجراءات هذه الإقرار بحق النساء في الانتخاب على وجهيه، في 1934. وتولت لجان متخصصة سن قوانين جديدة في الموجبات والعقود والتجارة والبحر والجزاء. فكان الرد على موجة القوانين الجديدة محاولة اغتيال مصطفى كمال، في حزيران 1926، بإزمير. وقام بها ضيا خورشيد، وهو نائب سابق اقترع ضد الغاء الخلافة، فحاكمته محكمة استقلال وقضت بإعدامه. وتذرع كمال بمؤامرة إزمير الى قمع المعارضة، والتضييق على الصحافة، من غير التقيد بضوابط القانون. وكاد القمع أن يؤدي الى شق الجيش، وهو ركيزة السياسة الكمالية، وأداتها الوطنية والشعبية، ومصدر شرعيتها التاريخية. ولكن كمال كان سياسياً حاذقاً فبدد تحفظ الجيش حين أطلق سراح أربعة من كبار القادة العسكريين كانوا ضلعوا في مؤامرة إزمير. وغداة إجراء انتخابات 1927 النيابية في اطار الحزب الواحد، أوجب "الغازي باشا"، وهو لقبه قبل التلقب بالأب التركي، كتابة التركية المنقحة من الاستعارات العربية بالحرف اللاتيني في آب 1928. وكانت جمهوريات الاتحاد السوفياتي التركية سبقت تركيا، في أوائل 1926، الى الكتابة به. فاتبع الانقطاع من الكتابة العربية، ومن كلماتها الكثيرة المبثوثة في أرجاء الكلام واللغة التركيين، الغاءَ الخلافة ونقل عاصمة الدولة وسن التشريعات المدنية وحظر الطربوش، بطي صفحة "اسلامية" عريقة من صفحات السنن والرسوم العثمانية. وأسلم الأجراء الجديد كمال والنخبة الحاكمة المتحدرة من حرب الاستقلال، الى صوغ تاريخ تركي وطني يخالف التاريخ العثماني الإسلامي، وينسب الى الترك هوية وتاريخاً سبقا الإسلام والتدين به. وهذا إيذان بجواز هوية وتاريخ يخلفان التدين السابق، ويؤدبان مواطني الأمة التركية بآداب الوطنية، على غلو لا ينكر. الشعب المتحقق وفي ضوء التجديد والاصلاح الكماليين، وتناولهما وجوه الدائرة الرمزية كلها ويسمي أحد المؤرخين أتاتورك "سيد الرمزية الاجتماعية" تبدو السياسة الأتاتوركية في مجملها مغامرة محفوفة بالمخاطر، غير مسبوقة ولا عقب مباشراً لها إلا العقب التركي الصامد والواعد ربما، ولكنها خلفت ذرية لا تحصى مبثوثة في الحركات العربية، لا سيما في مقالات يحاكي بعضها، شأن المقالات "القومية السورية"، الكمالية محاكاة لفظية وحرفية ببغائية، وبعضها مبثوث في السياسات الناصرية، وفي الخمينية وبعض اجراءاتها "النسوية". وعلى خلاف مقلدي الكمالية ومحاكيها، سبقت أفعال مصطفى كمال وتجربته - وهي أفعال وتجربة كان للأتراك، شعباً وأمة، الدور الراجح فيها، اجراءاته وقوانينه، ورسمت لها وجهتها وأفقها الجامعين. وقد يكون الفرق الكبير بين كمال وبين من ألهمهم على هذا القدر أو ذاك، هو إرساؤه سياسته، وبناؤه الدولة التركية تالياً، على شعب تركي متحقق في الحاضر، وماثل في أفعال وأعيان في الوسع التأريخ لها، والبناء عليها. فالرجل الذي عين في أواخر 1918 وكان في السابعة والثلاثين قائداً لمجموعة جيوش ييلديريم، خلفاً للجنرال الألماني فون سانديرز، وأوكل اليه السلطان التصدي للجيوش الحليفة قبل أن يصدر الأمر بنزع سلاح القوات النظامية، وقمع المقاومة التلقائية على سواحل البحر الأسود - وهذا ما خالفه كمال وكانت مخالفته مقدمة قيادته المقاومة الشعبية الاستقلالية - هذا الرجل كان سجله يومها، على رغم فتوته، حافلاً بالانتصارات. فكان أول بروزه على جبهات الحرب البلقانية، بوجه ايطاليا خصوصاً، في نصف العقد الذي سبق الحرب الأولى. وعندما انفجرت الحرب ترك منصبه ملحقاً عسكرياً بصوفيا، وتطوع للقتال على الجبهة التركية. فتولى قيادة الفرقة 19، وهي "طيف فرقة"، على ساحل مرمرة. ونقل وفرقته الى شبه جزيرة غاليبولي، على خليج الدردنيل، فاضطلع بدور حاسم في الانتصار على القوات البريطانية بغاليبولي، في 1925 وتنسب خطة الانزال الى ونستون تشرشل، أميرال البحرية. ومنيت هذه في احدى هزائمها الكبيرة، بخسارة فادحة في القوات. فرقي الجندي المنتصر، وهو في الرابعة والثلاثين، الى رتبة لواء جيش، وأبعد عن اسطنبول، حيث البطل الوطني المنتصر يتهدد ظله الساسةَ والأعيان والانتهازيين. فتولى قيادة القوات العثمانية بديار بكر. وانتصر على الجيش الروسي في موقعتي بيلتيس وموش. وآلت اليه، في 1917، قيادة الجيش السابع بالقوقاز. واستقال على خلاف مع الجنرال الألماني. وأوقع اللنبي بالجيش السابع التركي بفلسطين، وكان كمال على رأسه، هزيمة ثقيلة اضطلع الجنود والضباط العرب فيها بدور لم ينسَه كمال، على نحو ما لم ينسَ دور الهنود المسلمين في معركة غاليبولي. وحين جاءه امر السلطان - الخليفة، بعد توقيع وقف النار بين الحلفاء وبين السلطنة، بمودروس في تشرين الثاني 1918، بترك مقاومة الجيش اليوناني، ونزع سلاح القوات النظامية وغير النظامية، توجه مصطفى كمال الى الأناضول، وأسهم في تنظيم فرق "مدافعي حقوق" "جمعيات الدفاع عن الحقوق"، اسم الحزب الكمالي الأول لاحقاً الأولى والتلقائية. وتنقل في العامين التاليين بين الأناضول، جبهة المدافعة الأولى، وبين تراقيا الأوروبية وإزمير، الحاضرة "اليونانية" على المتوسط، ومانيسا. ولمّا وقع السلطان - الخليفة، في آب 1920، معاهدة سيفر، وقبل تقسيم تركيا الأناضولية نفسها ولايات قومية، استقبل الأتراك التوقيع بيوم حداد وطني عام. فأسرع كمال الى لقاء بعض قادة الجيش سراً، وراسل بعضهم الآخر. واقترح دعوة مندوبين من المحافظات الى مؤتمر بسيفاس، يتولى إثبات حقوق تركيا. واستقال من كل رتبه العسكرية رداً على استدعاء وزير الحرب اياه الى اسطنبول. وأراد باستقالته، وهو المزمع قيادة مقاومة القوات الحليفة، ان يتجنب التمرد على الدولة التي يخالف سياستها الوطنية "الكبيرة". وانصرف الى إعداد "جمعية الدفاع عن حقوق الأناضول الشرقي" المرخصة بأرضروم. وسعى بمؤتمر سيفاس في إعلان الولاء للسلطان، الخليفة، وإدانة الحكومة والصدر الأعظم رئيسها. وكانت الحكومة، تساندها الاستخبارات العسكرية البريطانية، تؤلب القبائل الكردية بشرق الأناضول على كمال. ولم يخرج كمال وأصحابه على الولاء للسلطان واسطنبول إلا حين امر محمد وحيد الدين الصدرَ الأعظم، قريبه داماد فريد باشا، بالحرب على الوطنيين - وهم في الأثناء، فازوا بمعظم مقاعد النيابة في انتخابات كانون الأول 1919. وتبنى المجلس الميثاق الوطني الذي نص عليه بيانا مؤتمري سيفاس وأرضروم-، وألزم شيخَ الإسلام، درّي زاده عبدالله أفندي الفتوى بقتل المتمردين فرضاً على المسلمين، في نيسان ابريل 1920، مع التئام المجلس الوطني الكبير بأنقرة. وأعلن مجلس حرب الحكمَ في كمال وآخرين بالإعدام. فقامت جماعات على كمال وأصحابه بتحريض من السلطة، ومن تلقاء نفسها. ولكن توقيع معاهدة تمزيق تركيا بسيفر، في الأثناء، حلّق شطراً كبيراً من الأتراك حول من كانوا يقاتلون القوات الفرنسية واليونانية والأرمنية بالأراضي التركية المحتلة. ومنيت القوات الأناضولية "الكمالية" بهزائم في الأناضول والرومللي، طوال عام 1920، امام القوات اليونانية. وفي 1921 قاد عصمت قواته الى النصر في موقعة اينونو واسمه، حين ألزم القانون الأتراك بالجمع بين اسم وشهرة، من الموقعة. وفي موقعة ساكاريا، في آب 1921، هزم كمال القوات اليونانية وكسر شوكتها. فتلقب كمال ب"الغازي"، واعترفت روسياوفرنساوبريطانيا وإيطاليا بأنقرة، ووقع الفرنسيون معاهدة حدود سورية - تركية. وجلوا عن كيليكيا. وجلا الإيطاليون عن جنوب الأناضول. وبعد سنة، في آب 1922، استعاد الأتراك إزمير من اليونانيين. وآثر البريطانيون، وهم اعدى الحلفاء، بعد انسحاب فرنسي وإيطالي، الانسحاب من الدردنيل. فقبل اليونانيون الهدنة في اواخر 1922. وعقد الحلفاء مؤتمر سلام بلوزان أقر مطاليب الميثاق الوطني التركي كاملة. وخلف السياسي الكبير العسكري الكبير، والحق ان الأول لابس الثاني على الدوام ولم يفارقه. فقيد المنتصر انتصاراته بنفسه، وتخلى طوعاً عن الولايات العثمانية بأوروبا وآسيا، ولم يشأ "استعادتها". ولم يحاول توسل اضطراباتها الداخلية الى علاقات مميزة بها، او ترسيخ نفوذ تركي فيها. وكبح نازع بعض اعوانه الى استمالة عشرين مليوناً من المسلمين الناطقين بالتركية في الامبراطورية الروسية السوفياتية. ورضي مبادلة اليونانيين المقيمين بتركيا بسكان اتراك في اليونان ولعل هذا اقسى فصول نشأة الدولة الوطنية التركية، وكان نصراه في ساكاريا ودوملو بينار يخولانه إملاء شروط متعسفة. ونزل عن الدردنيل، وقبل تحييد المضيق. فقصر طموح الشعب التركي، المولود في أتون مقاومة وطنية وشعبية مظفرة، على الأرض التركية، وتخفف من المطامح والمطامع الامبراطورية والسلطانية. وبعض ألسنة السوء تقول انه تركها الى "العرب" والباكستانيين وهو لم يشهد ولادة باكستان العسيرة والدامية، وكانت فاته في تشرين الثاني 1938. وحروب هؤلاء وأولئك الأهلية. ولعل ما أنكره على الخلافة هو منزعها هذا. * كاتب لبناني.