ليس التاريخ خيالاً. دخل العراق بعد 9 نيسان ابريل 2003 حقبة تاريخية جديدة. لن يغدو 9 نيسان يوماً ذائع الصيت مثل 4 تموز يوليو. هذا أكيد. 9 نيسان العراقي ليس 4 تموز الأميركي. غير ان ذلك لا يبدل حقيقة بسيطة: العراق بعد اليوم المذكور، ليس العراق نفسه قبل ذلك التاريخ. لكن ماذا تغير؟ هل يمكن القول ان العراق تبدل تماماً في سحابة ذلك النهار الربيعي البعيد؟ منذ 11 أيلول سبتمبر 2001 دخل العالم حقبة تاريخية جديدة. 11/9 قد يكون اليوم الأشهر في تاريخ العالم المعاصر. كل سنة، منذ ظهرت تلك الصورة الغريبة على الشاشات الصغيرة في أنحاء العالم، نرى طائرة ترتطم ببرج عالٍ من حديد وزجاج. الدخان يرتفع من البرج قبل أن تبلغه الطائرة. ونراها تميل، تنحرف في قوس، ونعرف ما حدث، نعرف ما سيحدث. في أي لحظة تتكرر الكارثة أمام العيون. بعد سنين سنرى الطائرة مرة أخرى. لنقل ان الله مدّ في أعمارنا وأننا نحيا نصف قرن بعد. في 11/9/2054 نقعد أمام التلفزيون وننظر الى الهجوم على مركز التجارة العالمي. العيون كلَّت من النظر. لكننا ننظر. مضى على ذلك اليوم البعيد أكثر من نصف قرن. الدماغ أتعبه الوقت وأرهقه. لكننا نقدر أن نكمل معادلة حسابية بسيطة ماذا يُسمونها؟ الطرح؟. كم مضى على كارثة 11 أيلول؟ 2054 - 2001 = 53 سنة. في 53 سنة تبدل العالم كثيراً، وتبدلنا. ارتكبنا أخطاء لا تحصى، ونجونا. ها نحن نجلس أمام الشاشة، الظهر ينحني، والمفاصل تطقطق. ننظر الى صورة أليفة عتيقة: ذكرى من أزمنة موغلة في البعد. ماذا نفكر بينما ننظر الى تلك الطائرة القديمة ترتطم بالبرج القديم؟ المشهد يبدو خيالياً. ليس لأنه خيالي وحسب، وليس لأنه يبدو مشهداً في فيلم سينمائي، ولكن أيضاً لأنه ينتمي الى زمنٍ مندثرٍ. ننظر الى كارثة قديمة كنا نسميها "الكارثة" ونفكر في كوارث لا تحصى أصابت هذا الكوكب منذ ذلك الوقت. هل يصير 11/9 نسياً منسياً بتعاقب الأعوام؟ هل ننظر الى شاشة أو الى فضاءٍ تُبث على ذرّاته "الصورة"، بلا حاجة لشاشةٍ أو جهاز بعد خمسين سنة ونرى الطائرة تقتحم البرج ونقول ان ذلك كان خيالاً، ليس أكثر! مرور الوقت يسحر الواقع. أثناء الحرب العالمية الأولى نزل الجراد على حقول بلاد الشام وأكل الأخضر واليابس. أسلافنا سردوا قصص المجاعة الفظيعة. اليوم تبدو تلك المجاعة خيالاً. لكن المجاعة حدثت. والناس ماتوا. هناك صور فوتوغرافية تظهر أطفالاً كأنهم أكياس جلد مملوءة بالعظم. بطون منتفخة. وعيون جاحظة بيضٌ، يلمع فيها البؤبؤ الأسود لمعاناً مخيفاً. هؤلاء كانوا، وقضوا جوعاً. التاريخ ليس خيالاً. هناك قنبلة ذرية سقطت يوماً من يذكر ذلك اليوم؟ هل نذكر التاريخ؟ لماذا لا نذكره؟ لم يكن خيالاً! على هيروشيما وأحالتها عاصفة نار ودمار. تمشي اليوم في المدينة اليابانية المزدحمة بالبشر، الصاخبة بالحياة، ولا تعرف كيف حدث ذلك، وكيف اضمحل ذلك النهار وغاب. تنظر الى قبّة البناء المهدم الذي ترك شاهداً على الكارثة وتقول ان التاريخ غريب وان الحياة غريبة. ماذا يملك الإنسان، هذا الكائن البشري الهش المعرض للعطب في أي لحظة أي رمشة عين، غير هذا العزاء؟ ينظر الى الأشياء يُبدلها الوقت تبديلاً ويقول ان الحياة غريبة. عابراً في شارع باريسي ترى بناء قديماً مصدعاً قصفته طائرات الحرب العالمية الثانية. اختفت الطائرات وظلّت هذه العمارة. على مسافة قصيرة تلمع القضبان الصفر لقصر العدل وتردك الى القرن التاسع عشر والى حياة فيكتور هوغو. كيف يمضي الزمن؟ كيف يعبر؟ وماذا يبقى بمرور الأعوام؟ يبدو التاريخ خيالياً. وهو ليس كذلك. بعد خمسين عاماً لن يؤثر فينا هذا الرقم 11/9 مثلما يؤثر فينا اليوم. كما انه الآن لا يؤثر فينا مثلما أثر فينا قبل عامين. لا أحد يعلم ماذا يخفي المستقبل. في كل دقيقة من هذه الحياة البالغة الثراء والتشابك والتعقيد تقع حوادث لا تحصى: تغرق عبَّارة في الفيليبين ويقضي 177 شخصاً نحبهم غرقاً، أو تنفجر قارورة غاز في بناية خشب خارج هونغ كونغ فيموت 35 شخصاً اختناقاً واحتراقاً. تقع حوادث سيئة، كما تحدث أمور طيبة. يزول طغاة مثلاً، أو تحلّ مواسم وفيرة في أرياف آسيا، أو يسود السلام منطقة الشرق الأوسط. لا أحد يعلم ماذا يخفي المستقبل. ربما حلّت كارثة في 9 تشرين الثاني نوفمبر 2016. كارثة لم يتخيلها أحد من قبل هذه مفارقة طبعاً" ومصدرها هذه السطور. لكن ماذا لو اختفت هذه السطور تماماً في أيامٍ آتية، وتلاشت، كأنها لم تكن!. كارثة تُجاوز في أثرها كارثة 11/9/2001 وماذا صنع 11/9 غير سقوط برجين وسقوط طالبان وسقوط النظام العراقي، وغير هذا الاضطراب الكبير المتواصل؟. الأفضل ألا نفكر في هذا كثيراً. الكوارث جزء من التاريخ. وعسى ألا يكون 9/11/2016 يوماً كارثياً. لكن إذا حدث ذلك امتزج في الذاكرة 11/9 مع 9/11 ولم نعد نعرف ماذا نتذكر! هذا اللعب العبثي - والمثير للازعاج - ليس أشد عبثية، أو فظاعة، من الحقائق التاريخية نفسها: الكارثة في مانهاتن، أو الكارثة في كابول، أو الكارثة في بغداد. العنف الملازم للطبيعة البشرية، لحركة التاريخ، مخيفٌ غادرٌ بمقدار ما هو مجاني. كل هذا الموت! كل هذه الأحزان! كل هذا الرعب! قراءة الطبري وابن الأثير والمسعودي تعطينا عزاء. لكنها تقتلنا أيضاً. العزاء مصدره الإحساس بأن الإنسان يبقى، يعبر الكارثة وينجو. لكن، في المقابل، لا يستطيع أحدنا ألا يرى أننا لا نتعلم. لا أحد يتعلم، لأن المسألة ليست مسألة علم ودراسة واجتهاد. تتضارب مصالح البشر في كل لحظة. وما تستفيد منه أنت قد يضرّ بغيرك. هذه هي الحياة. نقرأ التاريخ ونراه كالخيال نيرون أو الاسكندر أو الملك ريتشارد الثاني منادياً: "مملكتي مقابل حصان". نضحك ولا نضحك لأننا نعرف أنه لم يكن خيالاً. التاريخ ليس خيالاً - لكن الخبيث لا يسود. الخبيث يمازجه الطيب كل الوقت. ترفع رأسك عن هذه الكلمات المعتمة وتنظر الى زرقة السماء. يسقط الضوء في العينين. ينزل النور حلواً في الأعماق. تُنقذك الشمس. وتنقذك حمائم تخفق بأجنحتها البيض فوق سطوح المدينة. حتى السجين تحت الأرض يغمض عينيه فيرى سماء وسهولاً ونهراً يجري بين جبال. تنقذنا المخيلة. ونعيش. نقول تتحسن الأحوال. نصلي ونحيا... على أمل.