اين يبدأ هذا القرن المضطرب وأين ينتهي؟ هل يبدأ جنوب جزيرة مانهاتن بطائرتين تنفجران في البرجين التوأمين لمركز التجارة العالمي... وإذا كنا نعرف البداية فهل نعرف اين - وكيف - ينتهي؟ لا يعلم احد ماذا يخفي المستقبل. كارثة نيويورك اواخر صيف 2001 أفضت الى حرب خريفية في افغانستان. سقطت كابول سريعاً وتبعثرت طالبان في البراري. اين بن لادن الآن؟ وكيف تنتهي حكايته؟ الحرب الأفغانية لم تُنهِ الاضطراب. تتوالى الأيام والعنف يفضي الى مزيد من العنف. هذه هي الحياة. هذا هو العالم. ليس هذا اكتشافاً جديداً. القرن العشرون لم يكن اقل اضطراباً. وكذلك القرن التاسع عشر. كل حقبة تنتج شكلاً من العنف خاصاً بها. خلال القرن التاسع عشر، وما قبل ذلك، عاش البشر العنف في حروب برية وبحرية. حلّ القرن العشرون وارتفعت مناطيد زبلن في الفضاء وتساقطت منها قنابل. عجائز القاهرة يذكرون ايام الحرب العالمية الأولى. اوروبا العجوز تذكر حرب ال14 التي حصدت الملايين. لم تكن الحرب العالمية الأولى اولى فعلاً: ماذا نقول عن حروب بونابرت في القرن التاسع عشر؟ الحروب العالمية قديمة. يجوز ان نبدأ من الاسكندر المقدوني. يجوز ان نبدأ من روما. الحروب العالمية قديمة. في القرن العشرين اشترك العالمان القديم والجديد في اكثر من حرب واحدة. حُذِف الأطلسي بحر الظلمات من الخريطة واقتربت اميركا من اوروبا. هُزم هتلر كما هُزِم بونابرت من قبله في واترلو. مُحيت حدود ورسمت اخرى. ما الدول؟ خطوط على خريطة. العالم يتغير بلا توقف. والحياة لا تسكن. في القرن العشرين ظهرت الطائرات والحروب الجوية. الآن نحيا حرباً ذات شكل عشوائي جديد. حرب بمسرح متحرك: نيويورك، كابول، البصرة، بغداد، بالي، كربلاء، مدريد... من 11/9/2001 انتقلنا الى حرب في بطاح آسيا كابول البعيدة الى حرب اخرى قريبة في العراق. 9 نيسان ابريل 2003 لم يُنهِ الاضطراب. سقط النظام العراقي وحدثت سرقات في بغداد. هذا ما يبقى في الذاكرة: طائرة تقتحم برجاً في مانهاتن، وليل تخترقه اضواء في كابولوبغداد... ثم رجال يركضون في شوارع محملين بأبواب وكنبات ومزهريات وأجهزة كهربائية. يضحكون ويرفعون شارات النصر تحت سماء زرقاء ربيعية تمتد الى ما لا نهاية. مدريد الخميس الأخير السماء ذاتها امتدت فوق بنايات مدريد وشوارع مدريد في الخميس الأخير: صباح الخميس 11 آذار مارس 2004 طارت العصافير من اشجار "ريتيرو بارك" مذعورة. في محطة اتوتشا ارتفع صراخ. وكالات الأنباء تُسارع الى بث ارقامها. 173 قتيلاً... ثم يرتفع العدد الى 180، الى 187، الى 199. 200 قتيل، ونحو 1500 جريح، بعد انفجارات دمرت قطارات في العاصمة الإسبانية. رجال ونساء وأطفال كانوا يعبرون صباح المدينة الهادئة، في خميس عادي آخر. لكن القتلى لن يبلغوا يوم الجمعة. علقوا في ذلك الخميس الى الأبد. هل نعرف من كانوا؟ كيف عاشوا؟ ماذا حلِموا وخططوا للغد الذي لن يأتي ابداً؟ بين الجرحى اشخاص اصيبت عيونهم بضرر دائم من وهج الانفجار الشديد. هؤلاء لن يروا السماء بعد اليوم كما يراها قراء هذه الكلمات. قبل شهور طويلة، قبل عامين او ثلاثة، شاهدوا على الشاشات الصغيرة ما حدث في نيويورك. وها هم الآن - بدورهم - على الشاشة. رجل يلقي ظهره على عمود وينظر الى اعلى. وجهه مغطى بالدم. ماذا يرى في الأعالي؟ سماء زرقاء وغيمة بيضاء تتموج بلون احمر. ثم يغمض عينيه. هذا رجل لن يموت. نجا لكنه الآن يرى ظلالاً فقط، ولوناً رملياً اصفر يغطي الوجوه. على الأقل بقي حياً.