بعد أن تناولت حلقة الأسبوع الماضي الصراع ما بين "إغلاق العقل" يميناً و"أثينا السوداء" يساراً، هنا التتمة الأخيرة: لم يكن بد من لجان تحكيم في الحروب الأهلية. أو هذا، على الأقل، ما انتدب روبرت هيوز نفسه له مُصدراً، في 1994، "ثقافة التشاكي". وهيوز، الناقد الفني لمجلة "تايم"، تقدّم تجربته الشخصية إحدى الحجج الكثيرة التي تزكّي نظرية الإستيعاب والبوتقة القديمين. فهو، كأسترالي انتقل إلى الولاياتالمتحدة في 1970، تحوّل في غضون سنوات واحداً من أبرز نقّادها ومثقفيها. وفي كتابه رأى أن أميركا انتقلت، بعد فيتنام، من عبادة الأبطال الى عبادة الضحايا. وإذا كان مفهوماً لعملية كهذه أن تصدر عن الغيتوات السوداء، لأن السود ضحايا بامتياز، فغير مفهومٍ، عنده، أن تصير "صناعة الضحايا" من أبرز صناعات أميركا، تعمّ سائر مُكوّناتها الإثنية والجنسية. وذهب هيوز إلى أن تذرّراً كهذا، بذريعة التعدد، خطر على الاستيعاب والبوتقة اللذين لولاهما ما صارت البلاد بلاداً. على أن الاستيعاب والبوتقة، وهما ليسا حائلين دون الإختلاف بوصفه سمة أساسية في "ثقافتنا"، لا يتعايشان مع عودة كل مُكوّن إلى "جذوره". وفي المعنى هذا، يتحمل "اليمين" مسؤولية نفوره من الاختلاف والتعدد الصانعين لأميركا، بقدر ما يتحمل "اليسار" مسؤولية التذرير و"الواحدية الثقافية" المضادة للواحدية البيضاء القديمة. فإذا انطوت "الثورة المحافظة" على مكارثية يؤرّقها الرد على تحررية الستينات، وطرد "البرابرة" الليبراليين من المواقع التعليمية والثقافية، انطوت دعوات النسبية القصوى وصوابها السياسي على تفريغ الثقافة من داخلها وإحالتها شعاراتٍ ومواقف، فضلاً عن تعزيزها المركزيات الإثنية النقيض. وبدت المعارف التي تتصل بهذه السجالات، ولأميركا حصة بارزة في إنتاجها، مُستنفَرة كلها: فأيديولوجيا التعدد إنما صاغتها، تحت ضغط المسألة العنصرية، نخبة ليبرالية أميركية ضيقة كافحت دوماً ضد المطالبة بدولة مسيحية بيضاء. وهذا ميل راسخ وضارب في التشكيل التاريخي لأميركا. فمن توماس جيفرسون وجون أدامز، وهما من "الآباء المؤسسين" في القرن الثامن عشر، إلى "محرر العبيد" أبراهام لينكولن في القرن التالي، تواصلت الدعوة الى الدفاع عن بلاد "بيضاء فقط". وكان مما ارتكبه أدامز عبارة حُسبت عليه ولا تزال، تفيد أن "دستورنا لم يُصنع إلا لأناس أخلاقيين ودينيين. وهو بالكامل غير ملائم لحكومة من نوع آخر". ولم ينف جيفرسون ثم لينكولن رغبتهما في إرسال السود وذرّيتهم ممن تحرروا إلى أفريقيا وأميركا الوسطى ليكونوا هناك "مستعمرين"، وهي العملية التي أطلق عليها الثاني تعبير "التسفير". ولعقود مديدة تبدأ في تسعينات القرن الثامن عشر، ظل "الأشخاص البيض الأحرار" الوحيدين الذين يحرزون مواطنية الولاياتالمتحدة وجنسيتها، ما عنى وضع السود والإيرلنديين طويلاً على هامش الحياة العامة. وحتى لو نحّينا جانباً التعابير الأشد تطرفاً، أي "الكوكلاكس كلان" والميليشيات التي تفرّعت عنها، بقي أن محافظاً "قديماً" كباتريك بوكانان، عمل في خدمة الرئيسين نيكسون وريغان، لم يتردد في الحكم بأن "ثقافتنا متفوّقة، وهي متفوّقة لأن ديننا المسيحية. هذه هي الحقيقة التي تجعل الرجال أحراراً". بيد أن أميركا عرفت مصدراً تكوينياً آخر يحض على التعددية التي كانت تختص بالتشكيلات السياسية والمذهبية قبل أن تُستخدم لاحقاً لأغراض التعددية الإثنية. ف"الأوراق الفيديرالية" التي وُضعت في 1787-88، وكتبها الثلاثي ألكسندر هاميلتون وجيمس ماديسون وجون جاي شرحاً لدستور ولاية نيويورك وإصلاحه، ربطت في المقالة العاشرة بين الحرية والاستقرار والعدالة وبين السكان الأكبر عدداً والأقل تجانُساً. وقد اعتُبرت المقالة، وكاتبها ماديسون، دفاعاً عن حكم أكثري ينهض على المساومة والمصالحة لأن قراراً يصدر عن هذه الأكثرية، وليس عن "أكثرية واحدية"، هو الأكثر انسجاماً مع "الأهداف الملائمة للحكومة". والراهن أن هذا التمييز بين الأكثريتين يلخّص فلسفة الفيدراليين. ذاك أن المؤسسات الجمهورية، بما فيها مبدأ الحكم الأكثري، ليست صالحة بذاتها، بل تغدو صالحة لتشكيلها أنجع الوسائل في بلوغ العدل وضمان الحرية. وبعد "الأوراق"، جادل أليكسيس دو توكفيل في كتابه الشهير "الديموقراطية في أميركا" بأن الحياة السياسية الديموقراطية لا يديمها إلا مجتمع ضُمنت فيه شروط النفوذ السياسي التعددي. فالديموقراطية بوصفها فرصاً متكافئة نسبياً في التأثير على الرأي العام وصنع القرار، تعتمد على روابط المجتمع المدني المنفصلة والمستقلة عن الدولة أكثر مما على الأواليات الدستورية الشكلية كالانتخابات. وكان في عرف النبيل والمثقف الفرنسي الذي ذهب ليدرس سجون "العالم الجديد" فدرس حرياته، أن الانتشار اللامحدود للرأي والتأثير، وتلك الأجسام المنظّمة والمتنافسة من المواطنين، هي ما يردع الديموقراطية الأكثرية عن ان تصير طغياناً، كما يمنع الدولة من ان تسيطر وحدها على حياة مواطنيها وولاءاتهم. وتموضعت آراء توكفيل، بدورها، في تعارض مباشر مع آراء جان جاك روسو الذي سبق أن جادل بأن كل التنظيمات والروابط التي تقيم بين الدولة والمواطن الفرد تعطّل الديموقراطية الأكثرية وتضمن النفوذ لجماعات المصالح الخاصة. ومصدر الفارق بين الاثنين، وقد أعادته إلى الذاكرة مؤخراً "معركة الحجاب" في فرنسا، تجربة الثورة الفرنسية وإرهابها. فلئن رحل روسو قبل معايشتها شدد توكفيل، إبن القرن التاسع عشر، على أن وجود أقليات متنافسة ليس بينها مَن يسيطر على الأخريات، أو مَن يفرض رأيه في سائر القضايا، ضمانةٌ ضد الطغيان في المجتمع السياسي. وفي الخمسينات دُفعت إلى الأمام بضعة آراء استلهم أصحابها توكفيل. وكان من أبرز المنظّرين التعدديين السوسيولوجي تالكوت بارسونز فيما اعتُبر أهم مرجع نظري كتاب روبرت دال "تمهيد للنظرية الديموقراطية". والتعددية، عند دال، كانت نظرية للتنافس السياسي المستقر والمفتوح نسبياً، كما للشروط المؤسسية والمعيارية التي تُديمها. فالسلطة والنفوذ لا يمكن توزيعهما وتعميمهما إلا في ظل ظروف محددة، بحيث تنطوي المشاركة السياسية على مجموعات مصالح متنافسة وأحزاب مستقلة عن الدولة لا يسع أيَ مجموعة أقلية احتكارها. وهذه مقدمات سمحت مبكراً بالتجرؤ على فكرة "البوتقة" بموجب تأويلها الضيق كذوبان في جماعة ما، أو كاعتناق لسرد بعينه. ويعود مؤرّخو هذا التوتر بين البوتقة والتعدد إلى مطالع القرن الماضي، وتحديداً إلى 1909 حين أصدر اليهودي البريطاني، والصهيوني اللاحق، إسرائيل زنغويل، مسرحية حملت عنوان "البوتقة"، كانت عملاً دعوياً لصالح "جمعية المهاجرين في نيويورك". غير أن مثقفاً أميركياً إسمه هوراس كالِّن ما لبث، بعد سنوات قليلة، أن هاجمها واضعاً الديموقراطية والتعددية الثقافية في مقابل البوتقة. والحال أن التعريف اللاإثني للهوية الأميركية إنما راح تدريجاً يتراجع أمام تأويل أرحب، يرى الولاياتالمتحدة دولة تعددية ثقافياً تستند إلى خمس أمم إثنية مُعرّفة عرقياً، هم البيض والسود واللاتين والآسيويون والمحليون. بيد أن المناخات الجديدة ظلت تنتظر التفعيل الذي أطلقته الستينات، لا سيما حركة الحقوق المدنية وصعود الشبيبة والنساء، بعدما أعلنت المناظرة التلفزيونية في 1960، بين جون كينيدي وريتشارد نيكسون، أن "بيوتنا" كلها أصبحت مسكونة بزوار غير مألوفين. فأميركا، "بلد المهاجرين"، باشرت انتقالها عهد ذاك إلى عيش هذه الحقيقة كأنها عرفٌ يتأسس، في انتظار توازن قوى جديد بين قديم الأعراف والتقاليد وجديدها. وحقاً ولى تماماً الزمن الذي كانت بيلي هاليداي تسجل أكثر من 200 أغنية لا تتقاضى قرشاً من عائداتها، أو كان ألفيس بريسلي يغني ألحان السود فيُسوَّق عمله الموصوف بأنه تأسيسي وأول في بابه. أبعد من هذا، أن الولاياتالمتحدة في تفعيلها طابعها كبلد مهاجرين راحت تتقدم، على نحو متعاظم، مغايرةً للتشكيل الأوروبي الكلاسيكي، حيث "الإيديولوجيا المسيطرة أيديولوجيا الطبقة المسيطرة"، بحسب الوصف البليغ لكارل ماركس. فالسود، أو "الأفرو-أميركان"، تبعاً للتعبير الجديد، لم يقتصر جديدهم على ظهور طبقة وسطى منهم، طبقةٍ ظلت ضيقة قبل أن تضمر في السنوات الأخيرة. إذ الأهم جسّده الإقرار بنظام قيم فرعي ينبثق من تجربتهم ومعاشهم، يحمله التلفزيون حيث تتربع الآن أوبرا وينفري، كما تحمله الرياضة واللهجة والملبس، ومؤخراً جداً الأدب فالسينما عبر أسماء سبايك لي ودنزيل واشنطن وغيرهما. بطبيعة الحال، لم يبخل المجتمع الأسود بوجوه ككولن باول وكوندوليزا رايس، ممن يبحثون في الأبيض عن مثالهم للتماهي. وفي الفن، وصل الأمر مع مايكل جاكسون، إلى الأذية الصناعية يُنزلها المرء بوجهه سعياً إلى تطابق تستكمله غرابة أطوار قصوى. إلا أن مشاركة السود في صناعة الصور العامة وفد معظمها من أمكنة أخرى تماماً، أمكنةٍ تتوزّعها أسماء مارتن لوثر كينغ ومالكولم أكس ومحمد علي وسواهم من أيقونات الانشقاق والمغايرة. وكان الخارج بدأ يرفد ويعزز ب"نجوم" يتفاوتون بين نيلسون مانديلا وبوب مارلي وناؤمي كامبل. فالمعادلة الأوروبية المنشأ التي رسمها أنطونيو غرامشي ل"الهيمنة" أضحت، إذاً، قليلة الإنطباق على اللوحة الأميركية. فعند الفيلسوف الشيوعي الإيطالي، أن سيادة إحدى الطبقات، أو الجماعات في هذه الحال، إنما تتعدى الإقتصادي والسياسي، إلى إملاء طريقة في رؤية العالم يُقبل عليها الخاضعون بوصفها "الحس السليم" و"الأمر الطبيعي"، راغبين في تقليدها ومحاكاتها. وهذا ما لم يعد حال أميركا. الجديد ومقاومته وقد تكون الأديبة السوداء توني موريسون الرمز الألمع في تلخيص المسار الجديد. ففي 1987، سنة صدور كتاب ألن بلوم، نالت موريسون جائزة "بوليتزر" عن روايتها "المحبوبة" التي تعود أحداثها إلى أواسط القرن التاسع عشر، حيث حاولت بطلتها العبدة، مارغريت غارنر، قتل أبنائها كي لا ينتهي بهم المصير الى العبودية. وبعد خمس سنوات أصدرت روايتها الأخرى "جاز" عن الحياة في العشرينات، لا سيما علاقاتها العرقية، فنالت عليها، عام 1993، جائزة نوبل للآداب. وقبل سنوات عدة على التزامُن بين صعودها العالمي وتصدع القلعة العنصرية في جنوب أفريقيا، كان هوى موريسون الصافي وانحيازها الذي لا زغل فيه قد عُرفا على أوسع نطاق بما لا يترك مجالاً للخطأ في تأويلها. وإنما بالهوى والانحياز هذين، وبعضُ نتاجه إعادة كتابة تاريخ أميركا من زاوية الألم الأسود، تبوّأت مواقع مهمة في الجامعات النخبوية "البيضاء". ذاك أن روايتها الأولى العائدة الى 1970، "العين الأكثر زرقة"، دارت حول مراهقة سوداء تستبد بها معايير البيض للجمال، فتطمح أن تكون لها عينان زرقاوان. وبإصدارها "أغنية سليمان"، في 1977، نالت عدداً من الجوائز وحملت الرئيس جيمي كارتر على تعيينها عضواً في "المجلس الوطني للفنون"، بعدما كان كلّف القيادي السابق في حركة الحقوق المدنية، أندرو يونغ، تمثيل بلاده في الأممالمتحدة. إلا أن الأدب لم يستسلم كله لموريسون ولا بقي بمنأى عن إبداء الممانعة. ففي 1989، مثلاً، أصدر توم ولف روايته "مَشعلة التوافه" التي جعلها براين دوبالما فيلماً، فتناول ما رآه ابتزازاً بالعنصرية على خلفية صراع متعدد الأوجه في منطقة البرونكس السوداء بنيويورك. وقد دار العمل حول حادث سير في المنطقة المذكورة بات الجاني المباشر فيه هو الضحية. فشيرمن ماكّوي، الغني الأبيض المتعامل في البورصة، ومعه عشيقته المتزوجة والشهوانية ماريا رسكين، وجدا نفسيهما حيال عالم يتجسد في مجرم أسود لا سبيل إلى شفائه، وأسود ثانٍ لاذ بالرهبنة بعد اقتراب حبل المشنقة من عنقه. وخلال جولة على البيروقراطية والشرطة والإعلام والنظام القضائي وطبائع الحياة التي تلفّ أميركا الثمانينات، يتقدم السود جميعاً في هيئة سلبية، ولا تظهر البرونكس إلا مكاناً متوحّشاً آخر مزروعاً في أميركا البيضاء. ولئن بدا ماكّوي ضحية، لاح والده جون ماكّوي خلاصة حقبة آفلة كانت خلالها الطبقة الحاكمة من الرجال الواسبيين أخلاقية وكفوءة في إدارة المؤسسات العامة. وفي ماضٍ كهذا يستحق الحنين كله، لم تكن النسوية وأقرانها قد ظهرت فيه، عرف كل فرد مكانته المناسبة داخل تراتُب صحي ومُثمر. لكن الحرب الثقافية، في معناها المجتمعي الأوسع، وجدت أبلغ دلالاتها في تلك الحملة الحقود التي تعرّض لها بيل وهيلاري كلينتون. فالأخير لم يكن أول رئيس جنوبي بالطبع، لكنه كان الأول الذي يفد من وسط فقير وأسرة متصدّعة. وهو ليس القطب السياسي الوحيد الذي "فرّ"، في شبابه، من حرب فيتنام، لكنه ربما كان الوحيد الذي جمع إلى هذا "الهروب" النشأة في محيط مختلط فعلياً، فعاش بين السود وأولع بموسيقى الجاز. ولئن عُرف بحبه لأوروبا، هو الذي درس في أكسفورد، فإن زوجته هيلاري أكملت رسم باقي الصورة التي يمقتها المحافظون. فكرمزٍ لنسويةٍ مستقلة ولناشطة قوية الشخصية، فضلاً عن كونها صاحبة آراء تدخلية للإنفاق على التقديمات الصحية والاجتماعية، مثّلت سيدة البيت الأبيض مسيحاً مضاداً لكثيرين من أتباع المسيح الخلّص. لقد كانت رئاسة بيل كلينتون إشهاراً لكل هذه "العيوب" يرتكبها واحد من جيل الستينات المولود في طفرة الولادات التي شهدتها نهاية الحرب الثانية حتى أواخر الأربعينات. وفي الوقت نفسه شحذت حماسته للاتفاقات التجارية العابرة للحدود حماسة الانعزاليين، الاقتصاديين منهم والثقافيين، لمقاومته. فلهؤلاء ظل الموديل الفيبري للرأسمالي البروتستانتي، المتقشّف والمقتّر داخل حدود بلده، البديل المرغوب من موديل جديد لرأسماليٍ أحلّ الإنفاق والتوسع محل التوفير والمراكمة، وأسواقَ العالم محل السوق الوطنية. وما أن انتهت ولاية كلينتون الثانية وأُجريت الانتخابات الرئاسية في 2000، حتى انتصفت أميركا على نحو يكاد يشبه الكليشيه: فأحد النصفين قوي في الشمال، وفي المدن والسواحل، وبين الأقليات والمتعلمين والذين عرفوا الخارج، فيما النصف الآخر له معظم الجنوب والوسط والدواخل البرية، وأكثرية الرجال البيض وأقلية الذين سافروا أو اغتربوا. ولم يحل الإجماع الذي استثارته مأساة 11 أيلول سبتمبر 2001 دون استئناف الحرب الثقافية، ولو بشيء من الاختلاف عن المعارك السابقة. فالإسلام، هنا، أكسب المواجهة الجديدة بعض الخصوصية، لا سيما وأنها خصوصية راحت تتغذّى على حروب في الخارج تمسك واحدتها بتلابيب الأخرى وترتدّ، من موقعها هذا، على السجال الداخلي. وقد مثّلت نظرية صموئيل هانتنغتون في "صراع الحضارات" إحدى صرخات المواجهة، فنبشتها 11 أيلول ورفعتها إلى مصاف الأعمال الكلاسيكية التأسيسية، في موازاة إقبال واسع على الأبلسة والتنميط. وشكّل الحدث الكبير نفسه ذريعة ل"المحافظين الجدد" فانقضّوا على مواقع أساسية في السلطة السياسية، كما نشروا أفكارهم وتصوّراتهم عبر عدد من مراكز الأبحاث ومنابر الإعلام. ولئن لم تكن "المحافظة الجديدة" جديدة، فقد صار عدوّها الرئيس الإسلام والعرب، بعدما كان السوفيات والشيوعية. وبعد إحساس المؤمنين المسيحيين طويلاً بالقطيعة عن معظم الثقافة "التجارية"، تمكّن أشدهم رجعية ونضالية من توطيد مواقعهم في هوليوود "الكريهة"، إذ الدين استحضر الدين المقابل. وبالفعل أمكن استنهاض المواقع المتناثرة والمبعثرة وإنعاش ما كان يتهاوى منها. فحيث فشل رونالد ريغان ذات مرة، نجح كلينت إيستوود مكرّساً صورة الدفاع عن النظام والقانون نيابةً عن دولة مقصّرة. وأعطت هوليوود لتشارلتون هستون زخم الصورة المطلوب في الدفاع عن امتلاك البنادق، بينما كان أرنولد شوارزينغر يتحفّز للوثوب على حاكمية كاليفورنيا. وإذ نجح شوارزينغر مؤخراً، فشل التحالف السياسي بين غلاة الصهاينة والأصوليين المسيحيين في ردع مِل غيبسون عن إخراج فيلمه "العاطفة المشبوبة" الذي يستعيد سيرة المسيح في صياغة متهمة باللاسامية الكاثوليكية. وعلى نطاق أكثر شعبيةً، تولت محطات التلفزيون العجلى والكتب الرخيصة إطلاق حملة على الإسلام، سبق لهوليوود أن شاركت فيها ببضعة أفلام آلت على نفسها "فضح" الإرهاب منذ ازدهار الخطف الإيراني واللبناني. وفي طريقها، أخذت هذه الحملة كل الأعداء في الحرب الثقافية المتواصلة. فالقضايا المجتمعية، من حكم الموت إلى تملك البنادق وزواج المثليين والمثليات، "عولجت" بلغة تخلط تبشير المبشّرين المصابين بالعُته بعُظام العسكريين الساهرين على أمن حدود مهددة. وإذ تحوّل المخرج والكوميدي مايكل مور طليعة التصدي الخفيف لهذا المزاج الثقيل، وغطس اليسار في الدفاع عن شعوب الأديان والقبائل وعذرهم أنهم "يناهضون الامبريالية"، شكلت ثنائية الخير والشر، المرعيّة من سيد البيت الأبيض، الفضاء الايديولوجي الأوسع. فخطب الرئيس جورج دبليو وحِكَمه، وانبعاث الأصولية المسيحية على حساب الكنائس الليبرالية، ودور جون أشكروفت في وزارة العدل، شكلت جميعها عناصر استراتيجية تريد أن تأخذ غد أميركا بأمسها. لقد بدت "البوتقة" كأنها تضيق على أهلها، وتخنق بعضهم ممن صاروا يحلمون ب"تعدد" لا تنتظمه دولة ومجتمع واحدان. بيد أن أميركا المتنازعة لم تكتمل بعد، مثلها مثل أي شيء آخر، فيما الآتي، وبأيدٍ مختلفة الألوان ومتفاوتة الطول، لم يتعب من قرع الأبواب ومحاولات الدخول. فلا يزال غامضاً أي أثر ثقافي ومجتمعي سوف يخلّفه تعاظم عدد اللاتين الجنوبيين على التركيبة المألوفة. أما على المدى القصير، فيستعد "كارهو بوش" للمواجهة الانتخابية الوشيكة، ويستعد البوشيون لتركيز القصف على "ليبرالية ماساتشوستس" مرموزاً إليها بجون كيري. وبالطبع، فإسباغ الانسجام على القضايا المثارة، وعلى قواها، مهمة صعبة. كما أن تقسيم أميركا إلى "يمين" يمتد من مدافعين عن الحريات إلى مدافعين عن العنصرية، و"يسار" يجمع بين عالمثالثية إثنية وموقف ليبرالي إنسانوي حيال السلوك الفردي، عمل مصطنع. غير أن الحرب، رغم هذا، سجال لكل فصل من فصوله رموز وأسماء، عناوين وحجج.