قرابة العاشرة ليل السبت الأحد تفجرت دراما عربية قاسية في تونس، الدولة المضيفة للقمة العربية. جاء القرار "السيادي" مباغتاً، بلا مقدمات، لكن بمبررات مثيرة للجدل بمقدار ما أثار القرار نفسه من ذهول واحباط. فالدولة المضيفة عادت عن قرارها استضافة القمة، واختارت لذلك اخراجاً أشعر وزراء الخارجية بوجوب المغادرة فوراً، ولم يكن معظمهم اتخذ ترتيبات مسبقة للتعامل مع مثل هذه المفاجآت. كان معروفاً أن الوزراء ذهبوا في جولة طويلة من المناقشات، وكانوا يتهيئون لتمضية الليل في مقر الأمانة العامة لوزراء الداخلية العرب حيث اجتمعوا خلال الأيام الثلاثة لتهيئة وثائق القمة وصوغ قراراتها وتوصياتها في انتظار وصول الملوك والرؤساء. في ذلك الوقت كان اعضاء اللجان استأنفوا عملهم، واحدة لوثيقة تطوير الجامعة العربية، وأخرى ل"مبادرة السلام"، وثالثة للاصلاحات العامة، ورابعة للبيان الختامي. وفي الوقت نفسه انكب جهاز الأمانة العامة للجامعة على درس ترتيبات وصول القادة العرب، وكان أولهم سيصل في العاشرة صباح أمس الأحد، فيما كان آخرهم متوقعاً صباح اليوم الاثنين. التقى الوزراء في قاعة في الطابق الأول، وسار كل شيء كالمعتاد. فجأة دخل شخص الى القاعة قيل في ما بعد انه من الرئاسة التونسية، وتوجه الى وزير الخارجية التونسي الحبيب بن يحيى وانحنى ليهمس بضع كلمات في اذن الوزير الذي اعتذر وقام ليأخذ مكالمة على الهاتف النقال. استمر النقاش بين الوزراء، وبعد دقائق عاد بن يحيى وفي يده ورقة، قال لزملائه ان بلاده اتخذت قراراً سيادياً ب"تأجيل" القمة، ثم تلا عليهم مشروع بيان سيصدر عنه فوراً. انتهى النقاش، رفعت الجلسة. بدا الاجتماع في لحظة كأنه لم يعد شرعياً، أو كأنه أصبح "غير مرخص له"، على حد تعبير أحد أعضاء الوفود. تلقائيا هب معظم الوزراء واقفين، وفتح باب القاعة لخروجهم، السريع. يروي موظفون في الأروقة المجاورة انهم رأوا مشهداً كما لو أن حادثاً قد حصل في الداخل، كما لو ان الوزراء تشاجروا وسارع بعضهم الى المغادرة غاضبين. كان وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل ونظيره الجزائري عبدالعزيز بلخادم أول المغادرين، هبطا الدرج بسرعة متوجهين الى خارج المبنى وطلبا سياراتهما. في الخارج تلقفهما الصحافيون المنتظرون. هل أنهيتم العمل، هل توصلتم الى اتفاقات على مختلف الأوراق؟ انهمرت الاسئلة. لم يكن أي من الوزيرين راغباً في الكلام. لكن الجواب جاء سريعاً ومقتضباً: القمة تأجلت. لماذا؟ "اسألوا التوانسة، سيصدرون بياناً". خيم التوتر على المكان واشتغلت الهواتف النقالة. كان الصحافيون انشغلوا قبل يومين بأمر التأجيل، بدءاً ببعض التسريبات والاشاعات، ثم بتصريح للرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة قال فيه ان هناك دولاً عربية تريد تأجيل القمة. لكن الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى والوزير التونسي بن يحيى نفيا بشدة. قال الأول: "انسوا التأجيل. القمة بدأت". وقال الثاني ان القمة ستعقد بمن يحضر، مقللاً من أهمية انباء عن احجام عدد من الزعماء العرب عن الحضور واستعدادهم لانتداب من يمثلهم في القمة. بعد ثلاثة أيام تبين ان الحقيقة كانت في الاشاعات، وليس في ما رآه الصحافيون بعيونهم من تحرك للوزراء واجتماعات ماراثونية وتسريبات قليلة تؤكد ان هناك صعوبات غير عادية أمام التوصل الى توافقات. مع خروج الوزراء، الواحد بعد الآخر، بدأت الوقائع ترتسم قطرة قطرة. لكنها لا تفسر شيئاً. فالتأجيل لم يأت بطلب من أي منهم. لم يحصل أي خلاف استثنائي. بالعكس، كما قال أحدهم، كان النقاش هادئاً وجدياً فالجميع يعرف أنها اللحظات الأخيرة وينبغي حسم التباينات. جميعهم أكد واقعة الاتصال الهاتفي الذي تلقاه بن يحيى، والبيان الجاهز، والطلب الصريح بالتأجيل من دون اقتراح موعد جديد. هذا يعني ان الدولة التونسية لم تعد راغبة في استضافة القمة. ثم استدعي الصحافيون الموجودون، وتلا عليهم كاتب الدولة التونسي للشؤون الخارجية حاتم بن سالم قرار التأجيل الذي أشار خصوصاً الى "وثيقة العهد والوفاق والتضامن". وقال ان تبايناً في المواقف برز عند مناقشة وثائق القمة، حول بعض التعديلات والاقتراحات التي "كان تقدم بها الجانب التونسي" في شأن مسائل يراها "جوهرية وبالغة الأهمية بالنسبة الى "التطوير والتحديث والاصلاح" في البلدان العربية، بما يعزز الخطى "لتحقيق التقدم الديموقراطي وحماية حقوق الانسان وتدعيم مكانة المرأة ودور المجتمع المدني وغيرها". وبالطبع أعرب البيان عن "أسف شديد" لتأجيل القمة، مشيراً الى "الآمال الكبيرة" التي علقها "الرأي العربي والدولي" على انعقادها "نظراً الى الظروف الدقيقة التي تمر بها الأمة العربية والمأزق الذي تردت فيه القضية الفلسطينية بعد التطورات المأسوية الأخيرة". وأكد البيان أخيراً حرص تونس على "مواصلة التشاور" مع "الاخوة العرب" لتقريب وجهات النظر الى تلك المواضيع الجوهرية وتهيئة أفضل الظروف "لإنجاح القمة". مرت لحظات صعبة ومثقلة بالتساؤلات الصغيرة والكبيرة: ما الذي دعا تونس فعلاً الى "الغاء" القمة. ولماذا اختير هذا "الاخراج" غير المألوف في المؤتمرات العربية. ما مصير القمة كمؤسسة وما مصير "دورية" انعقادها بعدما نسفها "التأجيل" التونسي. وما مصير الجامعة العربية، وهل تدخلت الولاياتالمتحدة؟ لم يكن الوزراء الذين استبطأتهم الصدمة في الداخل يملكون أجوبة عن كل ذلك. الأرجح أنهم طرحوا تلك التساؤلات في ما بينهم وهم يودعون بعضهم بعضاً. بعد انتظار، ها هو الوزير البحريني الشيخ محمد المبارك يستعد للمغادرة. حصل تدافع عنيف بين رجال الأمن والصحافيين. لم يكن الوزير راغباً في التصريح بشيء. تكرر التدافع مع الوزير السوري فاروق الشرع الذي قال: "نحترم قرار تونس، وكنا نتمنى أن تنعقد القمة التي كان الرئيس بشار الأسد في طريقه اليها". كان الشرع الوزير الوحيد الذي حرص على أن يبلغ الجميع انه "قرار تونس"... وبعد لحظات قصيرة خرج الأمين العام عمرو موسى الذي بادر الى القول: "لا تعليق لدي على ما حصل". كان الرجل ممتقعاً ومتأثراً. وفي انتظار خروجه سرت همسات بأنه قد يستقيل من منصبه. اذا صح ذلك فإنه لم يكن ليعلنه في هذا المكان. في أي حال كان السبت أسوأ أيامه على رأس الجامعة العربية. قبيل انعقاد الجلسة المسائية للوزراء، لفت أحدهم في لقاء مع "الحياة" الى ان بعض الوفود لا يخشى "وثيقة العهد" بصيغتها التي أمكن التوصل اليها قبل اسبوعين في القاهرة، وانما كان يخشى التعديلات و"الاضافات". في اليومين الأولين لاجتماعات الوزراء لم يشر أحد الى "اقتراحات تونسية"، ووردت الاشارة الأولى اليها في المؤتمر الصحافي المشترك لموسى وبن يحيى ظهر أول من أمس السبت. وما أن أذيع بيان التأجيل حتى كانت "وكالة تونس افريقيا للأنباء" التونسية الرسمية تبث تعليقاً معداً سلفاً يوضح مضمون التعديلات التونسية. اذ قال انها "اقترحت" ان تعلن الدول العربية في هذه "الوثيقة" التزام "مواصلة الاصلاح الشامل في المجالات كافة" وخصوصاً تعزيز الديموقراطية "الى جانب حرية التعبير ودعم دور المجتمع المدني ورعاية حقوق الانسان وتعزيز دور المرأة العربية في بناء المجتمع". وتابع التعليق الرسمي ان تونس أكدت في مشروعها ضرورة ان تنص وثيقة العهد على "تمسك العرب بقيم التسامح والتفاهم ومبدأ الحوار بين الحضارات"، وعلى "تأكيد رفضهم المطلق للتطرف والتعصب والعنف والارهاب، وحرصهم على التصدي لهذه الظواهر في اطار التعاون والتضامن الدوليين للقضاء على أسبابها". كيف يترجم هذا الكلام التونسي الى اسباب ودوافع تؤدي الى "تأجيل" القمة من جهة، ولماذا يثير هذا الكلام رفضاً من جهة أخرى؟ لخّص ديبلوماسي عربي شارك في نقاشات الايام الثلاثة الامر بقوله ان الاقتراحات التونسية وضعت "الافكار الاميركية" في كبسولة واطلقتها على القمة. ووصف التصرف كما تبدّى في النهاية بأنه وضع الوزراء العرب امام "خيار الأخذ باقتراحاته او نسف القمة" وهو ما حصل عملياً. وخلص هذا الديبلوماسي الذي تمرس على الخلافات في القمم الى القول انه "لم يسبق لأي دولة كبيرة او صغيرة ان فرضت موقفها فرضاً على الآخرين". ومن الواضح ان تونس لم تستطع فرض "اقتراحاتها" الا ان الثمن العربي جاء مكلفاً جداً. فثمة فرصة ضاعت مع هذه القمة، فرصة كان يترقبها الاوروبيون الذين استعدوا لحضور القمة ممثلين بالرئيس الحالي للاتحاد الاوروبي رئيس الوزراء الارلندي بيرتي اهيرن وكذلك الامين العام للامم المتحدة كوفي انان فضلاً عن ممثلين للتكتلات الاقليمية، ومنهم الامين العام لمجلس التعاون الخليجي الذي وصل السبت الى تونس. على مستوى تقني، استذكر بعض المتابعين لاجتماعات الوزراء الشروط التي كانت تونس طرحتها لاستضافة القمة، اذا ارادتها "قمة ناجحة" ولذا طلبت اعداداً جيداً لها، مقترحة ان يجتمع وزراء الخارجية مرتين قبل الموعد وان يحسموا كل شيء قبل وصول القادة الى تونس ليصار الى عقد قمة سريعة وبروتوكولية تتم فيها الموافقة على القرارات الجاهزة. لبيت الشروط عملياً، لكن القرارات لم تجهز والاتفاقات تأخرت. ثم اضيفت اليها الاقتراحات التونسية فعقدت الموقف أكثر فأكثر. ومع ذلك كان يمكن ان يكون الاخراج "اكثر اخوة ولباقة" على حد تعبير أحد أعضاء الوفود الذي كان ليقترح، مثلاً، ان يجمع الرئيس التونسي الوزراء ويصارحهم بأن تونس مصرّة على عقد "قمة ناجحة" ولا تحتمل استضافة قمة مرشحة للفشل وطالما ان شروط النجاح لا تبدو متوفرة فإنه استقبلهم لابلاغهم ان بلاده تقترح التأجيل الى موعد محدد، و"بذلك كان الضرر سيبدو اقل مما حصل فعلاً". ويرى ديبلوماسي مخضرم ان هذه القمة حملت اكثر مما تستطيع حمله ودعيت الى استيعاب مجموعة ملفات واستحقاقات كانت تتطلب موضوعياً وقتاً اطول لبتّها. لكنه اشار الى ان مرافقته لمناقشات الوزراء واللجان لم تظهر خلافات يصعب حلّها، اذ لم يسبق ان عقدت قمة عربية واحدة من دون خلافات. ولم يكن الحدث ليمر من دون اشارات وضعها البعض في اطار "نظرية المؤامرة" اذ تساءل عن سبب مغادرة الوزير الليبي عبدالرحم شلقم وعدم استمراره في مشاركة نظرائه في مساعيهم خصوصاً انهم ارتضوا تضمين البيان الختامي عبارة "التضامن مع ليبيا في ما تتخذه من خطوات ايجابية في علاقاتها العربية والاجنبية" لكنهم رفضوا صيغة "ترحّب" بخطوة ليبيا التخلص من اسلحة الدمار الشامل وتدعو الى الحذو حذوها. واضاف صحافيون الى "نظرية المؤامرة" امراً آخر، فقالو ان من هم خارج مقر الاجتماعات بدوا كمن يتابعون ما يجري كأنه "بث مباشر" اليهم، ولكن من "هم"؟ هنا تتوسع "النظرية" الى ما لانهاية، خارج الحدود التونسية.