يستطيع الرئيس بوش، ويستطيع المحافظون الجدد، ان يقولوا الآن انه مهما يكن الرأي العالمي في غزوهم العراق، وفي حربهم المستمرة على الارهاب، وفي سياساتهم تجاه المؤسسات الدولية، فإن الشعب الأميركي، وبأكثرية معتبرة جدد له ولهم، ولذلك يمكن ان يتابعوا ما بدأوه، تجاه الشرق الأوسط، وتجاه النظام العالمي، والمؤسسات الدولية. وهذه الحقيقة أو الواقعة أزعجت وستزعج كثيرين في العالم، عاشوا طوال السنوات الأربع الماضية، على أمل ان تؤدي وجوه الفشل في السياسات الاقتصادية، وسياسات الحرب، بالشعب الأميركي الى اختيار رئيس آخر لاستيعاب المشكلات الطارئة، ومحاولات تجاوزها بأساليب أخرى. بيد ان الانزعاج هذا ليس ذا درجة واحدة أو سوية واحدة. فالأوروبيون لن يكونوا مسرورين بالاضطرار الى التعامل مع ادارة بوش الحالية او المعدلة لأربع سنوات مقبلة. لكن من جهة أخرى، يستطيعون تعزية أنفسهم بأن مصالحهم ليست مهددة تهديداً وجودياً، كما ان تضامنهم أو توحدهم يمكّنهم من الحفاظ على حد أدنى من الندية، ومن القدرة على التفاوض للوصول الى تسويات معقولة مع الأميركيين الذين يحتاجون اليهم مثل حاجتهم الى القوة الأميركية، وللاقتصاد الأميركي. ويمكن قول الشيء نفسه عن الدول الكبرى والوسطى الاخرى مثل الصين وروسيا والهند، والتي عندها مشكلاتها مع أميركا في عهد بوش الإبن، لكن الحد الأدنى، وأحياناً ما هو اكثر منه، مؤمن في المدى المنظور. أما العرب فلا يستطيعون التعزّي بأي شيء من وقائع الماضي القريب أو الحاضر، وذلك لثلاثة أمور: لجهة وجوه الخلل في السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، ولجهة التأثيرات الضارة للضغوط الأميركية في الاستقرار، ولجهة إمكان الاقدام على إصلاحات سياسية واقتصادية وتنموية. أما وجوه الخلل فهي واضحة وتتمثل في غزو العراق، وتخريبه بحجة تحريره من صدام حسين، ونشر الديموقراطية فيه. كما تتمثل في تأييد سياسات شارون وممارساته في فلسطينالمحتلة، وحمايته من القرارات الدولية والمؤسسات الدولية عندما كانت تريد التدخل لمصلحة الشعب الفلسطيني. لكن الخلل لا يقتصر على ذلك. فهناك جيوش وقواعد وتسهيلات في دول عربية عدة للأميركيين وحلفائهم، ولا يُنتظر ما دام بوش باقياً في سدة الرئاسة ان تنسحب تلك الجيوش، او تتضاءل ضغوطها الأمنية والسياسية. وقد بدأ الأوروبيون والعرب يطالبون الرئيس القديم الجديد بأن يغيّر سياسته في فلسطين بالعودة الى تفعيل اللجنة الرباعية، وتمكينها من العمل على استعادة خريطة الطريق" الى مجرى التفاوض والنقاش. لكنّ ادارة بوش تستطيع الزعم الآن ان الشعب الأميركي معها في تلك السياسة تجاه اسرائيل والفلسطينيين. اما تهديد الاستقرار فيتأتى من الضغوط التي تمارسها الولاياتالمتحدة على سيادة الدول وسياساتها، تارة بحجة الاسحثاث على التعاون اكثر في مجال مكافحة الارهاب، وطوراً بحجة دعم الديموقراطية. والارهاب عند ادارة بوش يشمل التضامن مع الفلسطينيين كما يشمل منع تلك الدول من تطوير مرافقها وأسلحتها، بحيث تبقى اسرائيل سيدة الموقف في المنطقة. ولست أدري كيف يمكن تقدم الديموقراطية، ما دامت الحرية منتفية، أو كيف تظهر تلك الديموقراطية، القائمة على حرية الاختيار، في ظل الاحتلال والهيمنة، وبشرط الا تزعج النتائج الولاياتالمتحدة؟! ولا شك في معاناة مجتمعاتنا ودولنا ظواهر الأصولية والتطرف والنزعات الاحتجاجية. لكن الوجود الأميركي المسلّح في المنطقة يقوي هذه التوجهات ولا يضعفها، اذ يجتذب شباناً جدداً ذوي حساسية الى صفوف أولئك الذين يريدون مناضلة الأميركيين في جزيرة العرب، وخارج جزيرة العرب. وقد كان المأمول وسط الانتقادات الكثيرة لسياسات أو ممارسات "الحرب على الارهاب" ان تبزغ سياسة أخرى أو معدّلة تتيح المجال للمراجعة وإعادة التقدير. لكن وسط النجاح الذي حققه بوش والجمهوريون، ستقلّ الاعتراضات الداخلية الأميركية، ولا يحتاج الرئيس بوش تغيير شيء من سياساته التي حظيت بدعم شعبي. وفي ذلك تهديد للاستقرار الهشّ في دولنا ومجتمعاتنا، وإطالة لعمر التشدد والتطرف والثأرية العشوائية. بيد ان أسوأ ما يتوقع حدوثه مع التجديد للرئيس بوش تضاؤل الضغوط من أجل الاصلاح السياسي والاقتصادي والتنموي. فقد استوعبت أكثر الانظمة العربية الضغوط والصدمات الأولى بعد 11 أيلول سبتمبر 2001، وتوافقت مع الأميركيين على الوتائر والوقائع والمستقبل القريب. ولذلك لن تكون هناك دوافع قوية لدى الانظمة للتغيير، كما ان جماعات الضغط الداخلية، وهي ضعيفة على اي حال، لن تستطيع ممارسة عملها بحرية، بسبب الممانعة من جانب الانظمة من جهة، وعدم اهتمام أو تأييد الأميركيين من جهة ثانية، ما دامت قد سوّت أمورها ومطالبها مع الجهات المسيطرة. ويشنّ الانجيليون الجدد، الذين صوتوا للرئيس بوش، وللجمهوريين بكثافة، حرباً على الإسلام، بلغت أبعاداً عالمية. وما تدخّل الرئيس فيها علناً، بل ان له تصريحات في استنكارها، لكن ما كانت عنده من قبل، ولن تكون عنده اليوم أو غداً دوافع قوية للاستنكار الحقيقي أو التغيير في اتجاه الشجب والمكافحة. ولذلك فهناك اخطار تتمثل في اندلاع نزاعات ذات صبغة دينية، ما دام كل تصرّف ضد الإسلام، يجرى تصويره على انه تصرّف ضد المتطرفين المسلمين. ولا شك في ان هذا الامر يؤثر بالدرجة الأولى في المسلمين في الغرب، وفي الولاياتالمتحدة على الخصوص. لكنه يؤثر أيضاً من خلال الانترنت، ومن خلال ما تقرأه من كتب ومقالات صحافية، في المزاج والأجواء في العالمين العربي والإسلامي. كانوا يطالبون الاصلاحيين والمعتدلين باستعادة الإسلام من خاطفيه. لكنهم الآن يتقاسمون الخطائف والمخطوفات مع المتشددين، من طريق اجراءات وسلوكات لا تدع مجالاً لانتقاد أو مراجعة أو إعادة نظر. لقد قرأنا جميعاً ان الولاية الثانية غير الولاية الأولى، في أميركا بالذات. لكن، ما هي الدوافع التي ستحمل بوش على تغيير سياساته، ما دامت ناجحة في اجتذاب الأميركيين، وما دامت اسرائيل في الشرق الأوسط راضية عنها!