عجلة العولمة، والعولمة غير العمودية على وجه التحديد، تدور. ويبدو أن صرخات السخط تعلو في أوساط شباب العالم المتطور الخائب الامل. واليوم، المملكة الإسبانية هي مسرح الكفاح السلمي من أجل تعزيز الديموقراطية ودولة القانون والعدالة، فمنذ 15 أيار (مايو)، تنبض روح ساحة التحرير المصرية في قلب مدريد في ساحة لا بويرتا دل سول الأسطورية. وأسبوع الغضب هذا دق ساعة تصفية الحساب مع السلطة، وهو مرحلة بارزة في الحياة الديموقراطية الاسبانية، ومنعطف كبير قد تتردد أصداؤه في أوروبا الديموقراطية وما بعد الديموقراطية، فحركة 15أيار ليست حركة احتجاج على خطة التقشف الحكومية والاقتطاعات الاجتماعية فحسب، التي صاغتها حكومة الأقلية، وعلى رأسها زعيم الحزب الاشتراكي، بالتعاون مع بروكسيل. ففي اسبانيا، يبزغ ضرب جديد من الشعبوية، هي شعبوية غير عمودية ومن أسفل الهرم. وعلى خلاف شعبويات اليمين المتطرف التقليدية والنمطية، التي هيمنت الى وقت قريب على الساحة السياسية الأوروبية وبثت سمومها في الاجواء السياسية، على ما فعل السياسي وايلدرز في هولندا، وستراشي في النمسا، وبلوشير في سويسرا، وكييغرد في الدنمارك ولوبن في فرنسا... على خلافها، تخففت الشعبوية الجديدة من الخوف من الآخر والأجانب ومن الخوف من المسلمين. ولكنْ، شأن الشعبويين القوميين، انصب سخط الشعبوية الجديدة وغضبها على «النظام» كله، فهي ضد السياسات والاحزاب والنقابات، على رغم أن هذه تدافع عن مكتسبات العمال، وضد العاطلين عن العمل، وضد الشباب الخائب الامل في المستقبل. وتناوئ الشعبوية هذه المصارف ونفوذها في عالم السياسة، والرهونات المالية المتعاظمة الحجم، وتعارض هشاشة الوظائف، وتقليص رواتب اصحاب الكفاءات المتواضعة، وهي ضد النظام التربوي الإسباني الكارثي، وضد اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء، وضد الفساد الاسباني. ويجمع بين المجتمعين في الساحات العامة بإسبانيا عدو مشترك، فهم يكيلون العداء لديموقراطية الاحزاب والطبقة السياسية التي تمثلها. وبحسب الإحصاءات، تحل الطبقة السياسية في المرتبة الثالثة بعد البطالة والمشكلات الاقتصادية وقبل مشكلة الهجرة والإرهاب على لائحة أعظم هموم المواطنين الإسبان وأبرز دواعي قلقهم. ويشترك شعبويو اليمين وشعبويو اليسار في تقديم صورة واحدة منمطة عن العدو، أي الطبقة السياسية الحاكمة. والمحتجون في الساحات الاسبانية ليسوا كلهم من أبناء جيل المواقع الاجتماعية «تويتر» و «فايسبوك»، فالمحتجون يأتلفون من شرائح عمرية مختلفة، ويجمعون أصحاب مسارات وكفاءات مهنية مختلفة، ففي صفوف المحتجين أفراد عانوا البطالة أوقاتاً طويلة. والشعبويون الجدد، على اختلاف مشاربهم، يناوئون الطبقة السياسية والسياسيين. ويشعر كثر بخيبة شخصية أكثر مما يشعرون بالغضب السياسي، والخيبة هذه هي رمز التظاهرات العامة. ويفتقر الشباب الى وظائف ثابتة ومستقرة، ويضطرون تالياً، الى إرجاء الاستقلال ومباشرة حياة خاصة في منزل مستقل عن الاهل. وعدد من الراشدين - الاطفال يعودون الى منزل الاهل إثر إخفاق مهني، ويبحث جامعيون من اصحاب الكفاءات العالية عن وظائف دوامها كامل ورواتبها مجزية بحثاً مزمناً من غير فائدة ترتجى. ولذا، تغذي الديموقراطية الظنون، وتبعث على الطعن فيها. ولكن هل تصبح إسبانيا نموذج شعبوية المهمشين وخائبي الامل، على ما انتصبت هولندا والدنمارك والنمسا نموذج شعبوية المدافعين عن الازدهار والمكتسبات؟ وينوي الناطقون باسم الحركة متابعة أنشطتها متابعةً منظمة على الشبكة، ومدت جسور الحوار مع أشخاص يشاطرون المتظاهرين الإسبان سخطهم في دول مثل أيسلندا وبريطانيا والمغرب، فمسيرة العولمة من أسفل الهرم انطلقت، ولم تتوقف بعد. وتأمل الأحزاب السياسية ويأمل عدد لا يستهان به من الناس في ان يعود المتظاهرون الى حيواتهم ويغادروا ساحة بويرتا ديل سول. ولكن المتظاهرين هؤلاء ليسوا «مواطنين غاضبين» فحسب، بل هم قوة قد تكبح جموح تيارات اليمين المتطرفة غير الديموقراطية وتوازنه. ووحدهم الساخطون والغاضبون قد يَحُولون دون انزلاق المجتمعات الأوروبية الى مرحلة ما بعد الديموقراطية، ويكبحون انزلاقها هذا. * معلق، عن «داي زايت» الالمانية، 20/5/2011، إعداد م.ن.